حديث التقريب ..
في ذكرى رحيل العلامة العسكري (رض)
في 15 أيلول 2007 م، انتقل إلى رحمة الله تعالى "العلامة السيد مرتضى العسكري".. الرجل الذي نيّف على التسعين لكنه كان حتى آخر لحظة من حياته يعيش هموم المسلمين، ويتألم لما يراه من تفرقة بينهم، ولما يتراشقون به من اتهامات تنطلق غالبًا من أوهام ولا يسندها دليل علمي.
قضى عمره في نشر حقائق الإسلام والكشف عمّا اعترى التاريخ من زيف ترك أثره على حياة المسلمين المعاصرة.. واهتمّ بتربية جيل يحمل رسالة الإسلام ويسير نحو مثل أعلى كبير تتحقق فيه الهوية والعزّة والكرامة.
بهذه المناسبة نستذكر لقاء تم بين السيد العسكري والسيد القائد الخامنئي، كان فيه الانسجام الفكري والعلمي بأعلى درجاته.
قبل أن يكون ثمة لقاء بين السيد الخامنئي والسيد العسكري، كان السيد العسكري يثني دائماً على ما يسمعه من السيد القائد من كلمات وخطب ويرى أنها تنسجم في العمق مع مشاعره وطموحاته.
بعد كلّ موقف يتّخذه السيد الخامنئي يجلس السيد العسكري مع صحبه وتلاميذه ليبدي إعجابه بما سمع، ويركز على جوانب الأصالة الإسلامية والالتزام الصارم ووضوح الرؤية وشمولية المنهج فيما سَمع.
وبطلب من السيد العسكري (رض)، تمّ اللقاء الأول وكان لقاء علميّاً بامتياز؛ حيث كان الانسجام بين السيدين مذهلاً وكأنّ كلٌّ منهما يعرف الآخر منذ أمد بعيد. بدأ السيد العسكري بالكلام وقال:
السلام عليكم يا ابن رسول الله... وسكت برهة، وكأنّ مشاعره طفحت، ثم واصل الكلام حول الاهتمام المشترك بينهما، وهو الحديث الشريف ومنهج الدراسات الحديثية، وفحص الروايات التاريخية..
واهتم السيد الخامنئي أن يكون أولاده حاضرين في الجلسة ضمن اهتمامه المستمر أن يعيش أبناؤه الحياة العلمية الدينية.
ودار حديث حول عبدالله بن سبأ، وكان رأي السيد الخامنئي أن التشكيك في وجود هذه الشخصية أولى من نفيها، لأن النفي الكامل قد يُواجَه بتشكيك في هذا النفي بالاستناد إلى نصوص التاريخ... وتواصل الحديث ثم افترقا على أمل لقاء آخر.
وفي لقاء آخر دُعي فيه السيد الع سكري إلى تناول طعام العشاء، تواصل الحديث عن مسائل علمية وتاريخية ومعاصرة، وكان مما قاله السيد القائد: لقد كنت قد طالعت كتاب "عبدالله بن سبأ" منذ أمد بعيد، وعدت أخيراً إلى قراءته فوجدت أنّ الحقّ معك في نفي وجود هذه الشخصية تمامًا لتظافر الأدلّة التي قدّمتها في كتابك بما لا يقبل الشك.
واللقاء الثالث كان هذه المرّة في بيت السيد العسكري، فقد عزم السيد الخامنئي على ردّ الزيارة رغم ما يتطلب الأمر من مقدمات.. وأعدّ السيد العسكري مأدبة عشاء متواضعة للسيد وأبنائه ولمن صحبه من مكتبه، ثم دار في هذه الجلسة حديث طويل عن تجارب السيد العسكري في الحقل العلمي والعملي.. وراح رحمه الله يتحدث بإسهاب عن أعماله ولقاءاته وحواراته مع شخصيات العالم الإسلامي، وأكثر من ذلك عن تطلّعاته المستقبلية ومشاريعه التي يودّ تنفيذها، كما تحدّث السيد القائد عن بعض تجاربه في حقل الدعوة والدولة والقيادة.. وطال الحديث حتى خشي كاتب السطور أن الوقت امتدّ أكثر مما ينبغي، وخشى أن الجلسة كانت متعبة للسيد القائد.
في اليوم التالي التقيت سماحته فبادر بالسؤال : كيف كانت الجلسة؟ قلت: رائعة، ولكني كنت فيها قلقاً لطولها. قال: لا، بل كنت في غاية الارتياح، ولدى العودة قلت لأبنائي: هذا الرجل حجّة علينا وعليكم.. فهو يشرف على التسعين ومع ذلك يفكّر بطموح كبير في حقل مشاريعه العلميّة. واستمرّ يثني على تلك الجلسة.
والواقع أن السيد القائد دخل في أعماق قلب السيد الراحل، حتى أنه كان يذكره ويدعو له في معظم أحاديثه.
وكان موقف السيد الخامنئي من قضية التطبير (إدماء الرؤوس في يوم العاشر من محرّم) أكبر الأثر على عمق ولاء السيد العسكري للقائد.
وعبارات السيد القائد في هذا الصدد باختصار شديد هي :
"الخطابة (في مجالس العزاء الحسيني) يجب أن تدور حول ثلاثة محاور:
تعميق العاطفة تجاه الحسين بن عليّ (ع) وآل بيت رسول الله عليهم صلاة الله. وإعطاء صورة واضحة للمستمع عن حادثة عاشوراء.. وبثّ الوعي الدينيّ والعمق الإيمانيّ تجاه المعارف الدينيّة.. يجب أن نحذر تماماً من أي فعل يبعد مجلس العزاء الحسيني عن فلسفته الواقعية.
ــ (إدماء الرأس) ليس من الدين: إن الله لا يرضى عنه دون شكّ. وعلماء السلف كانوا مكتوفي الأيدي وغير قادرين أن يقولوا شيئاً (تجاه هذه البدع)، أمّا اليوم فهو يوم حاكميّة الإسلام وسطوع نجم الإسلام، فلا يجوز أن يشوب مجتمعنا الإسلاميّ السامي.. ما يُظهره بمظهر خرافيّ غير منطقيّ.
ــ أنا واثق أنّ هناك من سيعلق على كلامي هذا، تحدوه عاطفة نبيلة قائلاً: حبّذا لو أنّ فلاناً لم يتحدّث عن هذا الموضوع الآن! كلا! لا بدّ أن أقول كلمتي، لابدّ أن اقول كلمتي. أنا مسئول أكثر من الآخرين. أنتم أيها السادة يجب أن تقولوا أيضا كلمتكم.
ــ هذا خطر كبير في عالم الدين والمعارف الدينية، حماة حدود العقيدة يجب أن يلتفتوا إلى ذلك.
ــ المرحوم آية الله العظمى السيد البروجردي (رض) هذا العالِم الكبير، والمجتهد القويّ العميق المتفتّح نهى ــ كما نقل ــ عن تقبيل عتبة (مراقد أئمة أهل البيت) مع أنّ هذا العمل قد لا يخلو من استحباب.. وذلك لكي لا يوحي هذا العمل أنّنا نسجد لقبور أئمتنا .. فمن الذي يشيع اليوم العادات الخاطئة بين الناس
(في طريقة زيارة قبور الأئمة)؟! أخشى أن يكون (ترويج هذه الظواهر الإنحرافية) من عمل الأعداء..!".
في الواقع جاءت هذه العبارات منسجمة مع رغبة قديمة كان يحملها السيد العسكري منذ أن كان في العراق تجاه هذه البدع التي ترتكب باسم الحسين بن علي عليه السلام. ولذلك لم يتمالك نفسه من شدّة الفرح، فراح يجمع أصحابه ويطلب منهم أن يفكروا في سبيل إنجاح توجّه السيد القائد والحيلولة دون أن يواجه تعصبات المتعصبين.
طلب من كاتب السطور أن يقول للسيد القائد، أن ما اتخذه من قرار إنّما هو ثورة لا تقلّ عن ثورة الإمام الخميني، وأنه بهذا القرار قد دفع بمدرسة أهل البيت (ع) مئات السنين إلى الأمام، وسيبقى هذا الموقف خالدًا على مرّ تاريخ الإسلام وتاريخ مدرسة أهل البيت.. وراح المرحوم يعبّر عمّا يجيش في صدره من هياج هو مزيج من استبشار بهذا الموقف وقلق على ما يمكن أن يواجهه من السطحيين.
وشارك المرحوم السيد عملياً في اتخاذ التدابير اللازمة لإنجاح مشروع السيد القائد في مكافحة هذه البدعة.
كان رحمه الله يعرب عن أمله ورغبته المستمرة في زيارة السيد القائد لكنّ مرض القلب وما تبعه من تعطّل في عمل الكليتين، حال دون أن تتواصل هذه اللقاءات، غير أن السيد الخامنئي بعث مرات من يطمئن على صحته.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية /
الشؤون الدولية