حديث التقريب .. الكواكبي الحلبي داعية الحوار والوحدة

حديث التقريب .. الكواكبي الحلبي داعية الحوار والوحدة

الكواكبي الحلبي داعية الحوار والوحدة

في ظروفنا الراهنة حيث تعلو أصوات قال عنها رسول الله(ص) «دعوها فانها منتنة» وكل ما يفرّق الأمة من عصبيات قومية أو طائفية فهي أصوات منتنة، في مثل هذه الظروف يجب أن نُعلي صوت الدعوة الى الوحدة والوئام ونبذ التفرقة والخصام.

«إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير»، وإلى نجد الخير بنتمي اليوم كل دعاة عزّة الأمة وكرامتها و وحدة شعوبها ونبذ التفرقة بين أبنائها والمدافعين عن حياضها والمقاومين لأعدائها، وإلى نجد الشرّ بنتمي من يريد سحق مظاهر الحياة في الأمة، وخلق حالة اليأس والإحباط والاستسلام فيها، وإثارة النزاعات بين أبنائها.

ومن الأصوات المنتمية إلى نجد الخير، نجد في أرض الشام من كان في طليعة هذا الانتماء. ويحتل الكواكبي مكانة مرموقة في صف الدعاة إلى الوحدة والوئام ونبذ التفرقة والخصام. نقف قليلا عنده في هذا الحديث.

عبدالرحمن الكواكبي، يعود نسبه إلى الأسرة الصفوية التي حكمت في إيران. تلقى العلوم في المدرسة الكواكبية بحلب، وعمل في الصحافة والمحاماة كما تولى بعض المناصب الرسمية، تعرض للاضطهاد والسجن مرارًا، هاجر من حلب عام 1381هـ/ 1900م فطاف في الجزيرة العربية وشرقي أفريقيا، والهند، والشرق الأقصى، ثم استقرّ في مصر.

أشهر مؤلفاته: طبائع الاستبداد، وأم القرى. توفي في القاهرة متأثرًا بالسمّ.

يعتبر الكواكبي من كبار رجال النهضة العربية بل الإسلامية، وكتابه طبائع الاستبداد ترجم إلى الفارسية على يد شخص مجهول، وكان من عوامل النهضة الدستورية في إيران، كما أن آية الله ميرزا محمد حسين النائيني تأثر به وأشار إليه في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملّة.

الكواكبي في كتابه أم القرى يعقد ندوة إسلامية عالمية يجتمع فيها الشامي، والمكي، والصيني، والهندي والقازاني، والانكليزي، والسندي، والأفغاني، والكردي، والتركي، والتاتاري، والرومي، والتبريزي، والمصري، والاسكندري، واليمني، والبصري، والنجدي، والمدني، والتونسي، والفاسي.. وكلهم يدور حديثهم حول سبب تخلّف العالم الإسلامي، مما يدلّ على أن هاجس النهضة كان هو الذي يسيطر على فكر الكواكبي واهتماماته.

ولم تغب الخلافات المذهبية والطائفية عن فكر الكواكبي في هذا المؤتمر.

فنجد في إحدى جلسات الحوار حديثًا عن التأليف بين مذاهب المسلمين، وأهمية هذا الحديث أنه من قول «المجتهد التبريزي» وهي تسمية لها دلالتها، فالمتحدث «مجتهد» وهذا يعني أنه شيعي ينتمي إلى المدرسة التي تجيز الاجتهاد، ثم هو تبريزي، أي إيراني تركي، وهو نفس الأصل الذي ينتمي إليه الكواكبي الصفوي، وجاء في هذا الحوار:

«قال المجتهد التبريزي: إني أرى أنّ الإسلام أصابه فتنتان عظيمتان، ولولا قوّة أساسه البالغة فوق ما يتصوّره العقل لما لبث الدِّين إلى الآن.

نعم، إن اختلاف الأئمة يكون رحمة إذا حَسُنَ استعماله، ويكون نقمة إذا صار سببًا للتفرقة الدينية والتباغض: كما هو الواقع بين أهل الجزيرة السلفيين، وبين أهل مصر والمغرب والشام والترك وغيرهم من المستسلمين، وبين أهل العراق العجم وفارس، والصنف الممتاز من أهل الهند الشيعيين، وبين أهل زنجبار ومَنْ حولهم من الإباضيين فهذه الفرق الكبرى يعتقد كل منهم أنهم وحدهم أهل السنّة والجماعة، وأنَّ سواهم مبتدعون أن زائغون. فهل ـ والحالة هذه ـ يتوهم عاقل أنّ هذا التفرق والانشقاق رحمة لا نقمة، وسببه، وهو التوسع في الأحكام ، سبب خير لا سبب شر؟

وكذلك اختلاف المجتهدين في كلّ فرقة من تلك الفرق، لا يتصوره العقل أن يكون رحمة إلاّ بقيد حَسُنَ استعماله، وإلاّ فيكون نقمة حيث يوجب تفرقة ثانية بين مالكي وحنفي وشافعي مثلاً.

والمراد من حسن استعمال الخلاف، هو أن كل قوم من المسلمين قد اتبعوا مذهبًا من المذاهب ترجيحًا أو وراثة أو تعصبًا، ولابد أن يكون في المذهب الآخذ به كل قوم بعض الأحكام الاجتهادية، التي تناسب أخلاق القوم أو لا تلائم أحوالهم المعاشية وطبائع بلادهم، فيضطرّون إلى الإقدام على أحد أمرين: إما التمسُّك بتلك الأحكام، وإن أضرّت بهم، أو الجنوح إلى تقليد مذهب اجتهادي آخر في تلك الأحكام فقط. وقد كان أكثر العلماء وفقهاء المسلمين إلى القرن الثامن، بل التاسع يختارون الشقّ الثاني، فيقلدون في هذه الحالة المذاهب الأخرى، ولكن بَعدَ النظر والتدقيق في الأدلة كما كان شأنهم في نفس مذاهبهم الأصلية، لئلا يكونوا مقلّدين تقليدًا أعمى لا يجوّزه الدِّين أساسًا إلاّ للجاهل بالكلية.

وهذه الطريقة هي الطريقة المتّبعة إلى اليوم في بلاد فارس، والعلماء المتصدِّرون لذلك هم أفراد من نوابغ العلماء المتضلِّعين في علوم مآخذ الدِّين، أكثرهم ولا سيّما الإيرانيون فهم متفقهون ومتخرّجون على مذهب الإمام «جعفر الصادق» (رضي الله عنه) المدوَّن عندهم.

وبنحو ذلك يسلم شرعنا من التلاعب والتضارب، ويتخلّص القضاء والإفتاء من التوفيق على الأهواء، وحينئذ يتحقّق أنّ الخلاف في الفروع رحمة.

والحاصل، أنّه يقتضي على علماء الهداية أن يقاوموا فكر التعصّب لمذهب آخر، فيكون سعيهم هذا منتجًا للتأليف وجمع الكلمة في الأمة».

ومهما كان رأينا فيما ذكره الكواكبي على لسان المجتهد التبريزي، فإنه يدل على أن الاختلاف المذهبي لا بد من دراسته ضمن إطار حضاري.

هذا الصوت الحلبي الشامي الحضاري علا في القرن التاسع عشر فما أجدر أن تعلو مثل هذه الأصوات في بلاد الشام ونحن في القرن الحادي والعشرين.

 

                                             المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

                                                               الشؤون الدولية