حديث التقريب.. خطر الهوس الديني
الدعاة المخلصون لطالما عانوا من المبتلين بالهوس الديني؛ ونقف في هذا الحديث عند أحدهم وهو الشيخ العلامة الكبير محمد الغزالي (1917-1996)، الذي اتجه إلى الاصلاح في فترة مبكرة من حياته، وألف وخطب ودرّس فيما رآه ضروريًا لمشروعه الاصلاحي.
التديّن هو ارتباط الإنسان بالله والالتزام بما جاء به رسول الله وأن يضع الفرد نصب عينيه مقصد الشريعة الإسلامية التي جاءت لتخرج الناس من ظلمات الجهل والتعصب والتوحش إلى نور العلم والانفتاح والحركة الحضارية. أما الهوس الديني فهو أن يتصرف الفرد وفق ما تمليه عليه عقده النفسية، فلا يلتزم بعلم العلماء، ولا يؤدي ما فرض الله عليه بل ما تفرضه عليه أهواؤه وعصبياته وأغراضه الشخصية وُعقَده النفسية.
الدعاة المخلصون لطالما عانوا من المبتلين بالهوس الديني؛ ونقف في هذا الحديث عند أحدهم وهو الشيخ العلامة الكبير محمد الغزالي (1917-1996)، الذي اتجه إلى الاصلاح في فترة مبكرة من حياته، وألف وخطب ودرّس فيما رآه ضروريًا لمشروعه الاصلاحي.
في كتابه «دستور الوحدة الثقافية» يظهر أن الشيخ الغزالي عانى كثيرًا من التعصّب، وواجهه بكل شجاعة، واكتوى بناره، وراح يفكّر مليًا في حالة المتعصبين، فخرج بما يلي، يقول: -
«لقيت متعصبين كثيرين، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية، فوجدت آفتين تفتكان بهم:-
الأولى: العجز العلمي، أو قلة المعرفة! هؤلاء يحفظون نصًا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا، ويجهلون أخرى، وهم يحسبون ما أدركوه الدين كلّه.
ولو أن هؤلاء اكتفوا بمنزلة المتعلم التابع ما عابهم ذلك كثيرًا، فليس كل مسلم مطالبًا بمعرفة جميع الأقوال الواردة والدلالات المحتملة.
المصيبة أن يشتغلوا مفتين أو موجهين، وهم بهذا المستوى الهابط!…
والآفة الثانية في التعصب المذهبي: سوء النية، ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنساني المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط. كنت في مجلس قرآن ختم القارئ فيه التلاوة بقوله: صدق الله العظيم. فإذا جالس ينتفض كأنما لسعته عقرب يقول: هذه بدعة.. قلت له: لا أبحث معك أنها بدعة أو سنّة، وإنـّما أسالك: ما هذا الفزع؟ لكأنما سقط على رأسك حجر!! الأمر ما يعالج بهذه العاصفة، إجلس.
هذا الصنف من الناس لم يهذّب نفسه بالأخلاق التي بُعث بها صاحب الرسالة ليتمّم مكارمها.. إن صور العبادة عنده غطاء لقلب غليظ، وغرائز فجّة.
وهو يجد متعة في قضايا الخلاف ليثور ويفور، وظاهر الأمر الغضب للدين، وهو في الحقيقة ينفّس عن طبيعة معتلّة، وتربية ناقصة أو مفقودة».
حين تحدّث الغزالي عن آفة المتعصبين، لخصها في آفة العجز العلمي وآفة سوء النية، الأولى : علمية، والثانية : نفسية؛ والواقع أن الرجل يهتم بالعامل النفسي أكثر، وهذه هي النقطة البارزة في مشروع الشيخ.
يخصص فصلاً للانحرافات النفسية والبدنية، ويرى أن الانحرافات النفسية أخطر من البدنية؛ فالمعاصي البدنية : -
«شهوات محددة الخطر ـ على قبحها وسوء مغبتها ـ فالإسراف في الطعام مثلاً، يسلب المرء عفّته. وربّما كان للبدن تطلّعات أشدّ ضراوة، ومع ذلك فهو أدنى من جنون العظمة أو عبادة الذات التي تقود إلى الفرعنة وقسوة القلب وإهلاك الحرث والنسل في سبيل المجد الشخصي!!».
«والاغترار بالنفس أو الدوران حول الذات لا يبدو في طلب الرياسة بالأساليب القذرة وحسب، كلاّ إنه قد يبدو في تنقّص رجل معروف أو اعتناق رأي شاذ، أو المكابرة في حوار، أو ما شابه ذلك من مواقف لأناس يعملون في الميدان الديني أو الميدان المدني على سواء…».
«وفي ميدان التدين تعتبر الطاعات التي يقوم بها هؤلاء ستارًا لنيات مغشوشة أو ترجمة معكوسة لما يكمن في عقولهم الباطنة..».
«وهؤلاء المرضى بالشذوذ والحقد يكثرون من التلاوة وصور العبادة، وينتهزون الفرص التي تتنفس فيها طباعهم فيضربون ضربتهم، وقد كانوا كثرًا في جيش علي بن أبي طالب، ولكنهم شغلوا عليًا عن هدفه حتى انهزم، وكانت صيحتهم: لا حكم إلا لله! وكان تعليق علي: «كلمة حق أريد بها باطل»!! إنّ المتدينين من هذا الصنف الغاش بلاء على الدين وعقبة أمام امتداده».
ويظهر أن الشيخ الغزالي مثله مثل كل الدعاة المخلصين قد عانى من مرضى النفوس كثيرًا، ولذلك فإنه يحاول أن يبحث عن جذور هذا المرض. يقول:-
«لقد عناني من أمر العلل النفسية أو معاصي القلوب لأني اكتويت بنارها، ورأيت من أدعياء التدين ما يدعو للجزع» .
ويقول أيضًا في لغة حادّة : -
«وهؤلاء المرضى المعتوهون يفهمون في المرويات فهمًا ما، ثم يقولون: هذا هو النص! ما نراه نحن هو رأي الله ورسوله، أي حكم الله ورسوله!
ومعنى ذلك أنك حين تقاومهم تقاوم الإسلام نفسه وتحارب الله ورسوله. وهذا هو البلاء المبين.
ونقول جادين: إن الإسلام لن يحكم ولا يجوز أن يحكم إذا كان أولئك العميان قادة قافلته والمتحدثين باسمه، فإن أمراضكم النفسية والفكرية تمحق دين الله ودنيا الناس على سواء..الإسلام نور وهؤلاء ظلمة، إنه طهر وهؤلاء قذى !!».
ثم يدعو الشيخ الغزالي الى فتح باب الاجتهاد لمواكبة متطلبات العصر والخروج من حالة الجمود فيقول : -
«سدّ باب الاجتهاد عند أهل السنّة على مرّ التاريخ حوّل الفقه إلى شروح على حواش وحواش على شروح وجعل عددًا كبيرًا من الفقهاء المتأخرين يحشّون مؤلفاتهم بنظرات غير سديدة وأقوال غير مفيدة، بل تصوّر بعضهم أمورًا مستحيلة، ووضع لها باسم الله أحكامًا ، وهي لا تزيد في قيمته المعنوية عن خيالات ألف ليلة وليلة.
ومن المستيقن أن أئمة المذاهب أبرياء من هذا اللغو، بل إنّ الرجال المعتدّ بهم في كل المذاهب يستعلون على هذه الهنات».
«والضرورات صارخة بأن الإسلام يحتاج اليوم إلى جهود ذكية دؤوب في الفقه الدولي والفقه الدستوري والفقه الإداري ، وإلى ملاحقة ما تجدد في عالم المال والتجارة وشؤون العمل والعمال…الخ».
«وقد تغيظت لأن بعض المنسوبين إلى العلم الديني حاول الاجتهاد، فذهب إلى دورات المياه ودور العبادة يستعرض عضلاته العلمية هناك… مسكينة أمتنا».
«ومع الاجتهاد لابدّ من الموافقات والمخالفات بين المجتهدين فإذا توافقنا فبها ونعمت، وإذا تخالفنا تعاونـّا فيما اتفقنا عليه، وعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه».
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية