حديث التقريب.. دمشق العشق لا الكراهية

حديث التقريب.. دمشق العشق لا الكراهية

يتحدث الشاعر الايراني "سعدي الشيرازي"، عن جفاف ضرب دمشق في عهده، فنضبت المياه وذبلت الزروع، وكان نتيجة ذلك أن الأحباب نسوا العشق. وقد تكون تلك إشارة إلى اقتران العشق بجمال الطبيعة، وهو أمر لا يصعب فهمه،


نسمع هذه الايام أصواتاً صادرة من دمشق ذات خلفية بعيدة عن الحب أو العشق. والعشق هو الحبّ الانساني في الأدب  الفارسي القديم والحديث.

هذا مقال أُلقي في دمشق تحت عنوان "دمشق في الأدب الفارسي" قد يكون مناسباً في أجوائنا هذه، نقتطع منه ما يلي : -
الحروف  المشتركة بين دمشق و عشق هي "شق"، وغير المشتركة هي "دمع"، وحتى لا أتلاعب بالألفاظ، أكتفي بالقول ان ثمة تلازماً بين "شق" التي منها المشقة و"الدمع" الذي يلازم عادة المشقة، اذ يقال : "طريق شاقّ مفروش بالدماء والدموع"، و"العشق" الذي هو هذا الطريق الذي لا يسلكه إلا ذو حظ عظيم، و"دمشق" التي لا يستطيع ان يفهمها كما يقول الأدب الفارسي إلا "العاشقون".. بين هذه الألفاظ مشتركات كثيرة.. أبتعد عن الخوض فيها، وإن كان الحديث التالي سيلقي الضوء على هذه المشتركات.

أذكر بعض الامثلة من الأدب الفارسي بشأن اقتران دمشق بالعشق، يقول الشاعر أوحدي مراغه-اي :
دمشق عشق شد اين شهر و مصر زيبايي/ زحسن طلعت اين دلبران يغمايي

يصف حسناوات دخلن مدينة فيقول :
إن المدينة أصبحت من حسن طلعتهن دمشق العشق، واصبحت مدينة الجمال.

لاحظوا الإضافة "دمشق العشق" وكأنّ دمشق هي مدينة العشق في كلام الشاعر الفارسي.

ولأنها مدينة العشق فإنها معيار لمعرفة العاشق من غير العاشق ومعيار لمعرفة عيار العاشق، كما يُعرف عيار الذهب ومقدار خلوصه.

يقول الشاعر العارف نظامي گنجوي  في مخزن الاسرار :
آن زر رومي كه به سنگ دمشق/ راست بر آيد  به ترازوي عشق

يتحدث عن ذهب رومي وقد يكون إشارة إلى (حسناء رومية) يقول عنها أن خلوص ذهبها يظهر إذا وضعت في ميزان العشق، وقيس خلوصها بمحك دمشق.

وخاقاني الشرواني. شاعر القرن السادس الهجري يذكر دمشق بما يشبه هذا المفهوم إذ يقول:
اينجا در دمشق ترازوي عاشقي است/ لاف از دمشق بس كه ترازوت بي زر است

يخاطب شخصاً يدّعي انه عاشق فيقول له:
نحن في دمشق التي هي ميزان العاشقين فكفّ عن ادعاء (الانتساب) الى دمشق لأن ذهبك في الميزان قليل.
لاحظ: أن دمشق هي ميزان العشق، وينهاه عن ادعاء دمشق، أي ينهاه عن ادعاء  العشق.

وجه الاقتران
وإذا كان هذا معنى العشق، فما هو وجه اقتران العشق بدمشق؟ سؤال فكرت فيه طويلاً ووصلت الى بعض النتائج، غير أن الأمر يحتاج إلى دراسات تاريخية وجغرافية وإنسانية.

ما توصلت إليه حتى الآن هو أن هذا الاقتران قد يعود إلى:

1 ـ مركزية دمشق في العرفان، ووفرة من فيها من الصالحين والعرفاء الذين هم العاشقون الحقيقيون؛ يؤيد ذلك سيرة مولانا جلال الدين الرومي ولهفته على الالتحاق بدمشق إذ يقول:
ما عاشق وسرگشته سوادي  دمشقيم/ جان خسته ودلبسته سوادي دمشقيم
زان صبح سعادت كه بتابيد از آن سوى/ هر شام و سحر مست سحرهاي دمشقيم
اندر جبل صالحه كانيست زگوهر/ كاندر طلبش غرقه درياي دمشقيم
أي: نحن لدمشق عشاق وفي حبها هائمون/ نفوسنا منشدة وقلوبنا طربة لدمشق
من صُبح السعادة الذي يشرق من كل مكان/ في كل مساء وسحر نحن منتشون لاسحار دمشق
تحت جبل الصالحية (قاسيون) منجم للجواهر/ نحن في طلبه غارقون في بحر دمشق

وقد يشير بهذا المنجم الى قبر العارف ابن عربي.

2 ـ وقد يعود ذلك إلى جمال دمشق وبهائها. وهذا الجمال النسبي هو المنطلق نحو الجمال  المطلق في رأي العرفاء. يؤيد ذلك ما يقوله سعدي:
العيون القديمة ما عادت تفور، ولم يبق ماء سوى ماء عين اليتيم.
نزل بدمشق قحط بحيث أن الأحباب نسوا العشق.

العيون القديمة ما عادت تفور، ولم يبق ماء سوى ماء عين اليتيم.
بخلت السماء على الأرض بحيث أن الزرع والنخيل أصبحت ذابلة الشفاه.

العيون القديمة ما عادت تفور، ولم يبق ماء سوى ماء عين اليتيم.
العيون القديمة ما عادت تفور، ولم يبق ماء سوى ماء عين اليتيم.

في هذه الأبيات يتحدث سعدي عن جفاف ضرب دمشق في عهده، فنضبت المياه وذبلت الزروع، وكان نتيجة ذلك أن الأحباب نسوا العشق. وقد تكون تلك إشارة إلى اقتران العشق بجمال الطبيعة، وهو أمر لا يصعب فهمه، فالبيئة الجميلة تشع على الإنسان دائماً بروح التحليق إلى الجمال المطلق، وتحيي في نفسه الأشواق إلى السموّ والكمال، ولا يخفى ما لدمشق وغيطانها من جمال تذكره كتب التاريخ والرحلات والمذكرات على مرّ العصور.

نسأل الله سبحانه أن يكون الحب أو العشق هو اللغة السائدة اليوم أيضا كما كانت سائدة سابقاً في دائرتنا الحضارية الاسلامية.

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية