بمناسبة ذكرى ارتحاله ;
حديث التقريب .. المشروع الإصلاحي للإمام الخميني (ره)
المشروع الإصلاحي للإمام الخميني (ره)
بمناسبة ذكرى ارتحاله
يتلخّص المشروع الإصلاحي لآية الله الخميني في المحافظة على الانتماء الإسلامي لإيران وإبقائها في دائرة الحضارة الإسلامية، معتقدًا أن الذي تعرّضت له إيران منذ بداية توغّل النفوذ الغربي يستهدف فصل هذا البلد عن انتمائه الإسلامي، وربطه قوميًا وتاريخيًا وثقافيًا بما قبل الإسلام، وسياسيًا بمصالح القوى المسيطرة.
اتجه تفكيره أولاً إلى تقوية المؤسسة الدينية المسماة «الحوزة العلمية» لأنها تمثّل القاعدة التي يستند إليها الانتماء الحضاري الإسلامي في إيران، ثم دفع هذه القاعدة نحو تبنّي قضايا الجماهير والتصدّي لمشاريع المستعمرين، ثم بعد ذلك قيادة الجماهير نحو إسقاط النظام القائم وإقامة نظام يعيد إيران سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا إلى دائرة الحضارة الإسلامية. وممارسته العملية لتنفيذ المشروع اتسمت بالحكمة والأصالة والانفتاح والواقعية والرؤية العرفانية.
فالحكمة اقتضت أن لا يعلن آية الله الخميني أمرًا ولا يرفع شعارًا إلا حينما تتوفر الظروف المناسبة، ولذلك فإنّه كان يستشعر منذ نعومة أظفاره بضرورة تغيير النظام الحاكم، ولكنّه لم يعلن ذلك خلال السنوات المتمادية من حياة الدارسة والتدريس، بل كان يغلي صدره بهذا الأمر ـ كما يتضح من الكتابات والمذكرات التي نشرت له فيما بعد ـ دون أن يبوح به، حتى إذا توفّرت الظروف المناسبة له في بداية الستينات، أعلن عن نهضته المعروفة.
والأصالة تمثلت في مشروعه بالالتزام الصارم بنصوص التراث الإسلامي من قرآن وسنّة وسيرة وآراء الفقهاء الكبار دون أن يحيد عن ذلك بحجّة ضرورات العصر.
والانفتاح مشهود في مشروعه بالاستفادة من كل التجارب البشرية الناجحة في حقل إدارة المجتمع والدولة والعلاقات الدولية، وفي استيعاب التيارات الفكرية والعلمية في الساحة الداخلية والعالمية المعاصرة.
والواقعيّة تجسّدت في تعامله مع العادات والتقاليد والأعراف السائدة في المجتمع الإيراني بإيجابية، واستثمارها على طريق تحقيق مشروعه، وفي تفهّم المزيج التاريخي الثقافي الحضاري لشعبه بدقّة، والانطلاق منه إلى تحقيق أهدافه.
والرؤية العرفانية تجلّت في مشروعه بعدم الاعتماد فقط على المعادلات والحسابات المادية والرقمية في الأوضاع القائمة، والأخذ بنظر الاعتبار قيمة الإمداد الغيبي في المواجهة بين الحق والباطل. وهذا ما جعله يتخذ مواقف صَعُبَ بدايةً على مَنْ حوله أن يفهمها، غير أن حكمتها اتّضحت فيما بعد.
مراحل تنفيذ المشروع
1. المحافظة على مكانة الحوزة العلمية:
فهذه الحوزة ـ بما تخرجه من العلماء والدعاة والكتاب والباحثين في حقول العلوم الإسلامية تشكل ـ في رأي آية الله الخميني ـ قاعدة الانتماء الإسلامي لإيران، ولذلك اتجهت جهود القوى الطامعة إلى تفتيت هذه الحوزة، وعزلها عن الجماهير، وسلبها مكانتها الاجتماعية والدينية. ومن الطبيعي أن تعتمد هذه القوى على عناصر داخلية، وكان أبرز هذه العناصر رضا شاه والد الشاه الأخير. والواقع أن خطة رضا شاه كانت واسعة تشمل تغيير الخط العربي وإزالة المفردات العربية من اللغة الفارسية وتغيير الزي للرجال والنساء، ومنع جميع المظاهر الدينية.. وبالتالي شد إيران بدائرة المصالح الغربية وإزالة كل الموانع من أمام هيمنة الغرب.
وثارت الحوزة العلمية بوجهه، لكنه مارس تجاهها أشدّ ألوان البطش، وأوشك أن ينهيها تمامًا، لولا أن حافظ على تماسكها رجل عالم عالم حكيم هو الشيخ عبدالكريم الحائري أستاذ الخميني، فقد رأى هذا الرجل أن حوزة مدينة قم تتعرّض لخطر فادح، فترك محل إقامته بمدينة أراك واتجه إلى قم لينقذ الموقف، وفي نفس الوقت أيضًا غادر تلميذه الخميني أراك نحو قم ليساهم في الحفاظ على وجود الحوزة، ونجحت عملية إنقاذ الحوزة من الانهيار، وبقي السيد الخميني يعمل على تنشيط الدراسات الجادة فيها، وعلى تربية طلاب مؤهلين لحمل أعباء المراحل التالية من المشروع.
وبوفاة الشيخ الحائري 1355هـ/1937م فقدت الحوزة العلمية عمادها وعميدها، وتعرّضت لهزّة كبيرة، فتحرّك العلماء وتلاميذ الحائري وعلى رأسهم آية الله الخميني لترشيح وجه آخر لزعامة الحوزة، ووقع الاختيار على آية الله محمد حسين البروجردي، ونجحوا في ذلك، وأصبح المرجع البارز الذي حافظ على مسيرة الدراسات العلمية بعمق وحكمة وانفتاح. وتقدّم إليه الخميني باقتراح لإصلاح وضع الحوزة، وهذا الاقتراح ـ وإن لم يتحقّق ـ يدلّ على اهتمام الإمام بوضع هذا المعهد العلمي الديني.
وفي الأعوام التالية عصفت بإيران أحداث جسام منها تعرّض البلد إلى احتلال الحلفاء 1359هـ/1941م، وتنازل رضاخان عن العرش وتتويج ابنه محمد رضا بضغط من القوى الأجنبية، ثم الحركة الوطنية وتأميم النفط، واضطرار محمد رضا بهلوي إلى الخروج من إيران وإعادته بانقلاب عسكري مدعوم من أمريكا، ثم سيطرة أمريكا على مقاليد الحكم في إيران وتغلغل الصهاينة تحت المظلّة الأمريكية في أجهزة الدولة الحساسة.
كان آية الله يراقب كل هذه الأوضاع بدقّة، لكنه كان يواصل عملية الإعداد للانتفاضة عن طريق صيانة الحركة العلمية والتربوية في الحوزة ونشر الوعي بين الصفوة.
2- التحرك السياسي:
في سنة 1380هـ/1961م توفي السيد البروجردي، وتوفّرت للشاه فرصة كسر شوكة الحوزة، وفي السنة التالية صادقت الحكومة على لائحة المجالس المحلّية، وفيها بنود توفّر الفرصة للبهائيين (حركة مرتبطة بإسرائيل وأمريكا وتتخذ من الخرافات الدينية عقيدة لها) أن يتوغلوا في المراكز الحساسة من النظام. وجد الإمام الخميني الفرصة سانحة لأن يُعلن موقفه الساخط، وبدأ صوته يرتفع بإدانة مثلث: «الشاه» و«إسرائيل» و«أمريكا» وفي سنة 1382هـ/1963م طرح الشاه لائحة الإصلاح الزراعي للاستفتاء الشعبي وأسماها «الثورة البيضاء»، وأسماها الإمام في بياناته بالثورة السوداء، معتقدًا أنها مشروع لتثبيت نظام الشاه تحت المظلة الأمريكية والإسرائيلية. وأمام موقف الإمام هذا ومعه جلّ العلماء والطلبة قرّر نظام الشاه سحق هذه المعارضة، فأمر بالهجوم على الحوزة، ودخل رجاله في أهم مدارسها المسماة «الفيضية» وقتل عددًا من الطلبة. وبعدها دخل الإمام في مواجهة حادّة مباشرة صريحة مع النظام، وأصدر البيانات وألقى الخطب المندّدة والمحرّضة، مركّزًا على علاقات الشاه بإسرائيل وأمريكا.
اعتقل نظام الشاه الإمام الخميني وشاع خبر الاعتقال بين الناس، فخرجت الجماهير سنة 1382هـ/ 1963 في انتفاضة عارمة واجهت قمعًا سقط على إثره آلاف القتلى. أطلق الشاه سراح الإمام لتهدئة الموقف، لكن تلك الانتفاضة أنذرت ببداية حتميّة لسقوط نظام الشاه.
في سنة 1383هـ/1964م صادق نظام الشاه بضغط أمريكي على قانون «الحصانة السياسية والدبلوماسية للمواطنين الأمريكيين في إيران». مرة أخرى ثارت ثائرة الإمام، وأصدر البيانات التي تفضح التدخّل الأمريكي والإسرائيلي في إيران. وعلى أثر ذلك أقدم نظام الشاه على نفي الإمام إلى تركيا، ظلّ فيها أحد عشر شهرًا، ثم نُفي إلى العراق وأقام في مدينة النجف الأشرف مدة 14 عامًا.
3- الإعداد للثورة الشاملة:
أحداث إيران التي تلت نفي الإمام كانت في اتجاه تصفية كل معارضة وتثبيت سلطة الشاه بحماية أمريكية وإسرائيلية ومحاربة جميع ما يرمز إلى ارتباط إيران بدائرة الحضارة الإسلامية، وهي أحداث ألقت اليأس في نفوس كثير من دعاة الإصلاح، لكنّ الإمام الخميني كان يرى في هذه الأوضاع مؤشرًا لبدايات انفجار مرتقب، لذلك راح يعمل منذ سنة 1384هـ/1965 على التنظير العلمي والفقهي للدولة البديلة لنظام الشاه ضمن بحوث «ولاية الفقيه»، وهي بحوث كان يلقيها على طلابه من العلماء والمجتهدين في النجف. وكان يعمل بجد ودأب على فضح مخطّطات أمريكا في إيران. ويلاحظ أن خطاب الإمام خلال هذه الفترة كان يقوم على تحذير الأمة من خطر مثلث: الشاه ـ أمريكا ـ إسرائيل.
كانت البيانات المكتوبة والمسجلة على أشرطة الكاسيت تصل من منفى الإمام لتنتشر في كلّ أرجاء إيران عن طريق طلبة الجامعات والحوزات العلمية، ورغم كل أساليب البطش التي مارسها الساواك (الاسم المختصر لمنظمة أمن الشاه) كانت المعارضة الشعبية تتصاعد في النفوس دونما جرأة على الظهور العلني العام، وكانت هذه المعارضة تعرب عن نفسها في الخفاء عن طريق نشر بيانات التنديد وفي العلن أحيانًا عن طريق المظاهرات الطلابية الصغيرة، أو إلقاء الخطب المعارضة، مما جعل سجون الشاه ومنافيه تمتلئ بالمعارضين السياسيين.
في سنة 1394هـ/1976م وصل الديمقراطيون إلى البيت الأبيض الأمريكي، وكانت سياستهم تقوم على أساس منح شعوب البلدان التابعة لأمريكا شيئًا من الجو السياسي المفتوح كي يحولوا دون انفجار هذه الشعوب ضد أمريكا.
وبعد قراءة دقيقة للأوضاع الجديدة، وضع الإمام خطة تصعيد الثورة في إيران. واتفق أن توفي السيد مصطفى الخميني نجل الإمام الأكبر سنة 1977 فكانت الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة. مجالس التأبين التي عقدت في إيران للسيد مصطفى تحوّلت إلى تجمّعات ثائرة واجهت القمع والقتل، وتوالت مجالس التأبين للمقتولين، وسرت في كل المدن الإيرانية موجة عارمة من التحرك الشعبي المضاد لنظام الشاه، والإمام يوجّه بياناته مركزًا على : 1ـ الانضباط التام في التحرك والحذر من أي أعمال تخريبية.
2- المواصلة واستغلال الفرصة المتاحة حتى تحقيق النصر النهائي . 3- رفض الحلول الوسط والإصرار على إسقاط نظام الشاه. 4- اللجوء إلى كل السبل للضغط على نظام الشاه لإسقاطه ومن ذلك المسيرات والإضرابات. 5- عدم التصدّي للجيش حتى ولو أطلق الرصاص على المتظاهرين.
واستجاب الشعب لنداءات الإمام، وتوالت عمليات الضغط الشعبي على نظام الشاه، وتحوّلت إيران بأجمعها إلى مسيرات وإضرابات.
في 1398هـ/ أيلول 1978 اضطر الإمام الخميني أن يترك منفاه في النجف، فغادر العراق إلى باريس، وأقام في ضاحية «نوفل لو شاتو» يواصل منها قيادة الثورة، رافضًا كل الوساطات التي حاولت إقناع الإمام بحلّ وسط للوضع القائم في إيران.
في 1398هـ/ 16 كانون الأول 1978 هرب الشاه من إيران مع أسرته، وفي مطلع شباط 1979 عاد الإمام الخميني إلى طهران على ظهر طائرة خاصة من باريس واستقبل استقبالاً شعبيًا تاريخيًا. في 5 شباط عين المهندس مهدي بازركان رئيسًا للحكومة المؤقتة، وبدأت معسكرات الجيش تعلن ولاءها للثورة، وفي 11 شباط أعلن الإمام الخميني عن سقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الإسلامية.
4- إقامة الدولة:
بعد سقوط نظام الشاه واجهت الإمام الخميني ثلاث مسؤوليات جسام:
1- إقامة الدولة. 2- إرساء قواعد المجتمع المدني. 3- المحافظة على المكتسبات.
ففي حقل الدولة دفع الحكومة الموقتة ومجلس قيادة الثورة والجماهير إلى إجراء استفتاء لتعيين نوع النظام، فصوت 2و98 بالمائة من الشعب الإيراني لصالح نظام الجمهورية الإسلامية في 1399هـ/الأول من نيسان 1979م، ثم توالت الانتخابات: انتخاب مجلس تدوين الدستور وإقراره، وانتخاب مجلس الشورى الإسلامي، وانتخاب رئيس الجمهورية، وبذلك وطّد بسرعة مذهلة أسس الدولة الحديثة التي تستمد منهجها من الشريعة الإسلامية.
وعلى الجانب الشعبي شجّع الإمام المساجد لتكون مركز النشاط الجماهيري لإدراة المجتمع. فتأسست فيها اللجان الثورية التي نهضت بأعباء أمنية وسياسية واقتصادية وثقافية، وتأسست مراكز «جهاد البناء» من الشباب المتخصّصين المتطوّعين لإعمار القرى والأرياف ومساعدة المناطق الفقيرة، وتأسّس الحزب الجمهوري لتعبئة الجماهير في مختلف مجالات متطلبات الثورة والدولة.
ولعلّ قيادة الإمام الخميني برزت أكثر ما برزت في صيانة مكتسبات الثورة. إذ تعرّضت إيران منذ الأيام الأولى لانتصارها إلى تآمر داخلي وإقليمي ودولي واسع النطاق تمثل في إثارة النزاعات القومية والطائفية وفي حصار اقتصادي وفي حرب استمرت ثماني سنوات، وفي عمليات إرهابية فجّرت المؤسسات واغتالت كبار الشخصيات القيادية، وفي مؤامرات عسكرية و.. كان كل واحد منها كاف للقضاء على النظام الفتيّ، لكن قيادة الإمام الخميني المنبثقة من إرادة الجماهير والمتفاعلة مع عواطف الشعب وفكره وعقيدته جعلت إيران تحافظ على تماسكها وتدافع عن سيادتها وتخرج من كل هذه الأزمات بنجاح.
وبقي يواصل قيادة الثورة والدولة باعتباره «الولي الفقيه» حتى 1409هـ/ حزيران 1989م إذ توفاه الله.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية