حديث التقريب ..

إقبال اللاهوري .. من رموز وحدتنا الحضارية

إقبال اللاهوري .. من رموز وحدتنا الحضارية

إقبال  اللاهوري .. من رموز وحدتنا الحضارية

في دائرتنا الحضارية الإسلامية شخصيات تجاوزت إطارها الاقليمي فأصبحت ذات خطاب عالمي.. وإقبال من هؤلاء فهو رجلٌ احيائي تواصل بين آداب وثقافة شبه القارة الهندية والفارسية والعربية فترك لنا تراثًا خالدًا باللغة الفارسية مع أنه من شبه القارة الهندية، فترجم الى العربية وإلى لغات العالم، ويتميز خطابه بأنه (إحيائي) وأنه دعوة إلى (الوحدة) وإلى (الاستئناف الحضاري).
لهذا الرجل الكبير مثله مثل رجال دائرتنا الحضارية يوم خاص في التقويم الإيراني، من أجل إحيائه وتكريمه. ونخصص حديث التقريب اليوم لهذه الشخصية.

إقبال وشعره
محمد إقبال ولد في مدينة سيالكوت من ولاية البنجاب سنة 1877م من بيت برهمي، وأسلم جدّه ، وكان أبوه رجلاً صالحًا، يغلب عليه التصوف. نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونيخ الألمانية، ونبع في الشعر. وفي العهد الأخير من حياته ازداد فكره نضجًا فنشر عدة دواوين بالفارسية باعتبارها اللغة الأدبية لبلاده (شبه القارة الهندية) ولأنها اللغة الثانية بعد العربية في دائرة الحضارة الإسلامية، كما أنها اللغة الأولى التي حملت مفاهيم العشق العرفاني.

من أفكار إقبال الإحيائية
يرى إقبال أن الغربيين يمتلكون حركة عقلية ويسميها «زيركي» أي المهارة، والشرقيون يمتلكون سرّ الكائنات وهو العشق، ويرى ضرورة امتزاج هذين العنصرين لخلق عالم جديد. يقول، ما ترجمته بالعربية:
الغربيون يملكون العقلانية لبناء العالم /والشرقيون يملكون العشق الذي يستبطن أسرار الكائنات/ والعقلانية بالعشق تعرف الحــق/والعشق يقوى أساسه بالعقلانية/وحيـن يلتحم العشق بالعقلانية/فإنــه يقيــم عالـمًا آخــــر/انهض وأقم أساسًا لعالَم آخــر/واجعل العشق ملتحمًا بالعقلانية/شعلة الغربيين بدأت تــــذوي/أعينهم متخصّصة وقلوبهم ميتة.
وبنفس نظر مولانا جلال الدين الرومي الى المرأة يُنشد إقبال اللاهوري ذاهبًا إلى أن الإنسان «الحيّ» يرى تكامل الإنسانية في وحدة المرأة والرجل، وأن المرأة هي التي تحمى نار الحياة في النفوس، وأن كل ماعندنا من كرامة فمنها، ولا يمكن أن يفهم قدسيتها إلا من طهّر نفسه يقول.
يا صاحب القلب الحيّ، هل تعلم معنى الحياة؟ أن نرى العشق واحدًا يتجلّى في إنسانين، المرأة تحافظ على توقدّ شعلة الحياة، فطرتها لوح أسرار الحياة، توقد نارنا من حياتها، وجوهرها يصنع من التراب إنسانًا، ممكنات الحياة في ضميرها، وثبات الحياة في تحركها، إنها شعلة يتطاير منها الشرر، ولا يمكن للروح والجسم أن يتشكلا بدون حرارتها، كرامتنا من كراماتها، ونحن من أشكال تصورها، الحق (الله) قد أعطاك قدرة النظر، فتطهّر لترى قدسيتها.
إقبال اللاهوري في مواضع متعددة من قصائده يؤكد على قدرة العشق على تفجير الطاقات يقول:
العشق لا يعرف السنة والشهر ولا التأخير والتسريع، ولا القريب والبعيد (أي ينعدم عنده عنصر الزمان والمكان)/ العقل يشقّ الجبل/ أو يطوف حوله / بينما الجبل أمام العشق كالقشّة/ القلب سريع في سيره كالسمك/ العشق يشنّ غارة على اللامكان/ لا يعرف القبر ولا مغادرة العالم/ قوة العشق ليست من الهواء والتراب والماء/ قوته ليست من قوّة الأعصاب/ العشق قلع باب خيبر بخبز الشعير/ العشق شقّ جسد القمر/ العشق رماد وهو أيضًا شرر/ وعمله يفوق عمل الدين والعلم/ العشق سلطان وبرهان مبين/ وتحت سيطرته العالمان.
وفي مواضع أخرى يرى أن قيمة الإنسان تتجلى في قدرته على التحرر من «الطين» والانطلاق في الكون الفسيح بحركة لا تحدها قيود. يقول بما ترجمته بالعربية:
وإن كان الإنسان ينمو من الماء والطين/ فإنه يحمل معه جمال الوردة وطراوتها في خروجها من الماء والطين/ إنه مؤسف إن بقي يتمرّغ دائمًا في الماء والطين/ إنه مؤسفٌ لو لم يحلّق من هذا المقام/ الجسد يقول: ابق في تراب الطريق/ وقالت الروح: انظر إلى آفاق العالم الآخر/ الحرّ يخرج هادرًا من التراب الأغبر/ إذ ليس من شأن الصقور أن تفعل فعل الفئران.
وفي موضع آخر يرى أن العشق يمثل جوهر الدين، ويدعو إلى أخذ الدين من العاشقين: 
انظر إلى سيرة هذا العصر الجديد/ انظر إلى نتيجة التهذيب اللاديني/ العشق للحياة شرع ومدرسة/ الدين أصل التهذيب، والعشق دين/ ظاهر حارق وملتهب/ باطنه نور ربّ العالمين/ الدين لا يستوي بدون آداب العشق/ خذ الدين من صحبة أرباب العشق.

في بيان أنّ الذات تستحكم بالمحبّة والعشق
تحت هذا العنوان ينشد إقبال بالفارسية في الحبّ، ويرى أنه نقط النور في ذواتنا الطينية، التي تتفجر بالضياء والقوّة. ويدعو إلى أن تبحث عن هذه الكيمياء (عن الحب) في طبيعتك الطينية لتخرج من الظلمات إلى النور.
ويشير في نشيده الى جلال الدين الرومي والشاعر الجاميّ مما يدلّ على تأثّره بهما.
وفي القصيدة ومضات من سيرة رسول الله(ص) باعتبارها من مظاهر العشق في حياة الرسول ويدعو لإحياء العشق في نفس الإنسان المسلم بالسيرة العطرة.
هذه القصيدة من ديوان «اسرار خودى ورموز بيخودى» (أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات) نقلها إلى العربية شعرًا الدكتور عبدالوهاب عزّام رضوان الله تعالى عليه:

نُقَط النُّور التي تُدعى الذواتْ      شرر في طيننا للحيواتْ
مشعلٌ بالحـبِّ منها الجـــوهرُ      يتجلَّى من قواها المضمرُ
قطرةٌ بالعشـــق توعي ضرَما      وهي بالعشق تنير العالما
لا يهاب العشقُ في السيف المَضاء      ليس من ماء وترب وهواءْ
هو في العالـــم صلحٌ وخِصامْ      للحياة الماء من هذا الحُسام
نظرةُ العشق بها شقُّ الصُّخور      هو عشقُ الحقِّ، والحقَّ يَصير
فابغ في طيـــنك هذي الكيمياءْ      اقبِسنْ من كاملٍ هذا الضياء
امض كالرومــيِّ شمعًا يشتعل      وارم من تبريز في الروم الشُّعل
إنَّ في قلبــك معـــشوقًا ثـــوى      أقبِلن أنبئك عن هذا الجَوى
عاشقوه قد شـــأوا كـــلَّ جميل      حبُّهم في كلِّ قلب لا يحولْ
عشقُه في القلب نورٌ أسفــــرا      للثُّريا يرتقي منه الثَّرى
تُربُ نجد منه قد خفَّ وضاء      طار وجدًا مصعدًا نحو السَّماء
مهجةُ المسلم مثوى المصطفى      عزَّةُ المسلم ذكرى المصطفى
موجةٌ من نقعه الــطورُ الأشمّ      داره، للكعبة العظمى حرمْ
ضــــاق عــن آنٍ حــواه الأبدُ      مستمدٌّ من مداه الأمد
آثــرت سحق حصيــر عِــفَّتهْ      وعلتْ تيجانَ كسرى أمَّتُه
خلــــواتٌ فــي حــــراءِ خـلَقا      أمّة منها وحُكمًا مشرقا
كــم ليالٍ قــد قضاها ســاهــدا      فحبا الأمة ملكًا خالدا
سيفه في الحرب قَطَّاع الحديدْ      عينه في الذكر بالدَّمع تجود
سيفه «آمين» تمحو الظالمين      حين يدعو الحقُّ بالنَّصر المبين
سنــنًا في كــوننــا قــد جــدّدا      ومن الماضين ملكًا بدَّدا
فتــح الدُّنيــا لــه مفتــاحُ ديــنْ      عقمت عن مثله أمُّ السِّنين
استــــوى مــــولىً لديه وغلام       هـــو والعبــــد سواءٌ في الطعام

                          *   *    *

أسرتْ في غزوة بنتُ الجواد      من علا طيَّا بجدواه وسادْ
رجلها في القيد والرأس حسيرْ      مطرقٌ في ذلةٌ الطرفُ الكسير
بردةً ألقى عليها ساترا      إذْ رأى وجهًا ورأسًا حاسرا
نحن أعرى في الورى من أخت طيّ      ليس يكسونا لدى الأقوام شيء
هو في الدنيا علينا ساترُ      وهو في الحشر إلينا ناظر
لطفُه والقهر كلٌّ رحمةُ      لصديقٍ وعدوٍّ رأفةُ
وبيوم الفتح هذا الغافر      قال: «لا تثريب» وهو القادر
إننا من قيد أوطانٍ براءْ      نحن من عينين نور لا مراء
نحن في مغربنا والمشرقِ      كالنَّدى في وجه صبحٍ مشرقِ
أسكرتْنا عينُ ساقٍ في البطاح      كزجاج نحن في الدنيا، وراح
قد محا الأنسابَ طُرًّا ذا العظيم      نارُه قد أحرقت هذا الهشيمْ
نحن زهرٌ وشذانا ائتلفا       ضمَّنا منه نظامٌ ألَّفا
نــحــــن كنَّا ســـرّه فــي قلبـه      فـــأذاعت صيحـــةُ الحــــقِّ بـه

                          *  *   *

عشقه ثارَ بعودي الصَّامتِ      ألفُ لحن في فؤادي السَّاكت
ما حديثي عن ولاء واشتياقْ؟      قد بكى جذعٌ مواتٌ للفراق
صورتي قد أوضحت مرآتُه      أنا صبحٌ أطلعتْ آياتُه
ثورةُ الحشر بليلي النائمِ      وهدوئي في اضطرابٍ دائم
إنَّني البستانُ في آذاره      في عروقي الماء من أمطاره
قد غرستُ العين في حقلِ الوداد      من سراحِ العَيْن لي هذا الحصاد
قد شأى الدارَين من يثربَ‌ طِيب      حبَّذا دارٌ بها مثوى الحبيب!
أنا للجاميِّ في الشعر فداءْ      نظمه والنثر من جهلي دواء
قال بيتاً بالمعاني يفهق      فيه دُرٌّ من مديحٍ يبرُقُ:
«هو عنوان كتاب العالَمين      سيِّد الكونين، مولى الثقلين»
كم يُريكَ العِشقُ من صهبائه      فترى التقليدَ من أسمائه
أحكم العِشْقَ بتقليد الحبيبُ      لتنال القربَ من ربَّ مجيب
في جراء القلب فاقعد خاليا      وإلى الحقِّ فهاجر راضيا
اقوين بالحقِّ ثمَّ ارجع إليك      واحطمنَّ اللاَّت والعزَّى لديك
قوِّينْ بالعشق في سلطانه      وابتغ الجلوة في فارانه
تظفــرنْ بالقربِ يـــا ذا السائــلُ!      وتكـن تفسير «إنــي جاعـــل»

                          *  *   *

إقبال العاشق والزهراء
العاشق مولع بكل جمال في الطبيعة والإنسان، ولذلك نرى الشعراء العشاق مولعون بأهل بيت رسول الله(ص) لما اجتمعت فيهم من خصال جمال الإنسان الكامل، ليس لولعهم منطلق سوى المنطلق الجمالي. ونورد أبياتًا من إقبال منظومة بالعربية عن الزهراء البتول كي تكون مسك ختام هذه الحديث:

أمُّ عيسى نسبةٌ واحدةُ      بثلاثٍ تزدهي فاطمةُ:
قرَّة العين لخير الأوَّلين،      خاتمِ الرُّسلِ، وخيرِ الآخرين
نافخُ الرَّوح بدنيا الوَهَنِ      خالقُ العصرِ جديدِ السُّنَن
وهي زوجُ المرتضى ذا البطلِ      أسدِ الله الحكيمِ الفيْصلِ
ملكٌ في الكوخ زهدًا قد أقام      كلُّ ما يملك درعٌ وحُسامْ
وهي أمُّ السَّيدين الأكرمَين      حسنِ خيرِ حليمٍ وحُسَين
ذا سراجٌ في ظَلامِ الحرَمِ      حافظٌ وحدَة خيرِ الأمم
ازدرى الملكَ ابتغاء الألفةِ      أطفأ النِّيرانَ بين الإخوةِ
ذاك في الأبرار ربُّ العَلَمِ      أسوةُ الأحرار في الخَطْب العَمي
سيرةٌ الأولاد صنعُ الأمَّهاتَ      وخِلالُ الخيرِ طبعُ الأمَّهاتْ
زهرةٌ في روضة الصدق البتولْ      أسوةُ النِّسوة في الحقّ البتولْ
فاقةُ السَّائل أذرت دمعها      ليهوديٍّ أباعتْ درعَها
كلُّ من في الأرض قد طاع لها      ورضاها حين تُرضي بعلَها
نُشِّئتْ ما بين صبرٍ ورضا      في الفَمِ القرآنُ، والكفِّ الرَّحَى
دمعُها من خشية الله جرى      في مصلاّها يفوقُ الجوهرا
لقطَ الروحُ الأمينُ  الدُّرَرا      وعلى العرش المعلَّى نثرا
أنا لولا الشَّرع عن هذا نَهَى      وإلى شرعِ الرسول المنتهى
طفْــــتُ حـــولَ القبـرِ إجلالاً لها       نــــاثرًا منْ سَجَداتــــي حولــها


المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية