حديث التقريب .. دور الإسلام في التفعيل الثقافي

مسيرة الأربعين صور رائعة مدهشة تعبّر عن قدرة الإسلام على التفعيل الثقافي بين شعوب الأمة وقبائلها ومذاهبها الإسلامية منها وغير الإسلامية من أهل الكتاب.
انتهت مسيرة الأربعين لهذا العام في العشرين من شهر صفر الجاري بمشاركة ما يزيد على عشرين مليون من المشاة الذين قاوموا الحرّ الشديد والمشي لعشرات الكيلومترات في اطار هدف سامٍ رفيع هو إحياء ذكرى أربعين الحسين بن علي(ع).. ذكرى مقاومة الظالمين، ذكرى إباء الظيم والدفاع عن حقوق الأمة وبذل الغالي والنفيس من أجل تحرير المجتمع الاسلامي من السيطرة الطاغوتية ومن عمليات الاذلال وانتهاك الحرمات.
في هذه المسيرة صور رائعة مدهشة تعبّر عن قدرة الإسلام على التفعيل الثقافي بين شعوب الأمة وقبائلها ومذاهبها الإسلامية منها وغير الإسلامية من أهل الكتاب.
وتستوقفنا هنا مسألة دور الإسلام في التفعيل الثقافي.
دخول مجموعتين بشريتين في مشروع حضاري واحد يستتبعه تفعيل ثقافي بالضرورة، لأن المجموعة البشرية ـ حين تَخرج من ذاتياتها الضيقة، وحين تزول من أمام مسيرتها المثل العليا السرابية - تسلك طريق المثل الأعلى الحقّ. وهذا المثل الأعلى يفجّر في الإنسان طاقاته الخلاّقة ويدفعُهُ إلى حركة لا نهاية لها في عملية الهدم والبناء، هدم ما يعيق مسيرة التكامل الإنساني من عوائق، وبناء ما ينفع الناس.
ثم إنّ الإسلام قدّم للمجموعة البشرية تصوّرًا عن الإنسان تجعله يشعر بأنه محور الكون، ومحور التشريع الإلهي، وأنه يحمل الأمانة الكبرى.. ولابدّ أن يؤدّي هذه الأمانة بتحمّل مسؤولياته أمام ما أودعت فيه من قوى عقلية وفكريّة تمنحه قدرة الإبداع والتطوير.
وهذا التصور يمنح الإنسان ثقةً بنفسه وبإمكانياته وطاقاته وقدرته على الخلق والابتكار والإبداع.
وهذه الأمة تشكّلت في فترة زمنية قصيرة بفضل عظمة مثلها الأعلى، وتحركت بسرعة على طريق بناء الخير وهدم الشر في الساحة البشرية ولذلك كانت خير أمّة أخرجت للناس: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..) ( آل عمران/ 110).
وبسرعة مذهلة أيضًا تتناسب مع عظمة الأهداف تطورت، في داخل هذه الأمة، ثقافة هي مزيج مما كان عند العرب من خصال حسنة ومن تعاليم جديدة دفعت إنسان الجزيرة العربية إلى الحياة الحضرية وحرّمت عليه أن يعود إلى البداوة، فكان «التعرّب بعد الهجرة» من الكبائر، ووفّرت له ما تتطلبه الحياة الحضريّة من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي ودفاعي.
ولعل أهمّ محاور التفعيل الثقافي في التصوّر الإسلامي الانفتاح على الشعوب الأخرى والتعرّف على ما كسبته في مسيرتها الحياتية التاريخيّة من تجارب وأخذ النافع منها المتناسب مع المنظومة الفكرية والعملية الإسلامية.
والشعوب تختلف في مكتسباتها الحياتية باختلاف ظروفها التاريخية والاجتماعية وطبيعتها القومية والجغرافية، بل إن الاختلاف موجود داخل المجموعة البشرية الواحدة، والاختلاف بين الأفراد والجماعات أقرّه الإسلام، بل وجعل هذه التعددية من الأهمية بحيث تستطيع أن تفسّر سبب خلق الناس، لأنها ترتبط بما يتصف به الموجود البشري من إرادة تجعله فريدًا في هذا الكون: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( هود/ 118).
إلى جانب إقرار الإسلام بالتعددّية دعا إلى أن تتعارف المجموعات البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )( الحجرات/ 13 ).
وكما أن تعارف الذكر والأنثى لا يلغي صفة كل منهما؛ بل يجعل من تعارفهما أساس استمرار الحياة البشرية، كذلك تعارف الشعوب والقبائل أو تعارف الثقافات يؤدّي إلى استمرار الحركة الثقافيّة ومواصلة مسيرتها ونمائها.
كما أن مشاركة أبناء الأمة من غير المسلمين تستوقفنا لنشير إلى الموقف الإنساني من الآخر:
الدعوة الإسلامية موجهة إلى «الناس» والدعوة إلى التعارف موجهة إلى «الناس» والخطاب إلى أتباع الأديان الإلهية الأخرى يدعوهم إلى المشتركات:)قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ …( (آل عمران/64)، وأسلوب الخطاب مع الآخر يجب أن يكون )… ِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة( (النحل/ 125). وأن يكون بأفضل أساليب الإقناع: )… وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ… ((النحل/ 125)، ولا يجوز اتخاذ موقف رافض في الحوار مع الآخر: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24) .
وهذه وعشرات النصوص الأخرى تؤكد ضرورة تعامل الإنسان المسلم مع الآخر تعاملاً فيه شعور بالأخوّة والمحبّة والاحترام، فالإنسان موجود كرمه الله: )ولقد كرَّمنا بني…( (الإسراء/ 70). وكل البشر يشتركون في «الفطرة» التي تجعل الناس بأجمعهم أمام أهداف إنسانية سامية، وتخلق بينهم المشترك الحضاري، ولا أضرّ على الساحة الإنسانية ممّن يحملون روح الحقد والخصام رغم تظاهرهم بالشعارات البرّاقة، ويعيثون – متى ماتوفرت لهم القدرة – في الأرض الفساد، ويهلكون الحرث والنسل، أي يعتدون على نعم الله في الأرض وعلى كرامة البشرية، ولا يمكن أن تدخل البشرية في سلم إلاّ إذا أبعدت عن طريقها الحاقدين المخاصمين.
وما أجمل تسلسل الآيات في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 204 – 208).
فالبشرية مدعوّة إلى الدخول في السلم، وإلى التعامل الذي يحوّل العدوّ إلى وليّ حميم، لكنّ مشكلتها تبقى مع المنافقين الذين يظهرون مالا يبطنون من الحقد، ويصّرون على عنادهم ولجاجهم، وتأخذهم العزّة بالإثم. وهذه هي مشكلة التعايش الآمن بين البشرية في الماضي وفي حاضرنا الراهن وفي المستقبل.
وهذا الذي (يُعجبك قولهُ في الحياة الدُّنيا) (البقرة/ 204) مزودّ اليوم بوسائل إعلام ضخمة وأساليب دعاية مدروسة تجعل «قوله» ينطلي على الشعوب المضلَّلة، وهذا أكبر تهديد للأمن والسلام في العالم، لكنّ الأملَ في تقدّم وعي الشعوب تقدّمًا يجعلها تميّز بين الحقّ والباطل، وبين من هو ألدّ الخصام، ومن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أي يقدّم كل ما عنده لمسيرة البشرية نحو كمالها المنشود. وهو أمل يقوم على أساس الإيمان بأن مسيرة البشرية تطوي سلّم الكمال رغم تعثّرها وتراجعها في مقاطع من هذا الطريق الطويل.
والإسلام دعا إلى الجهاد بالمال والسلاح والكلمة، من أجل الناس..، وفي سبيل الله لا تعني إلا في سبيل الناس.. فالله لا يناله ثمرة إنفاق المنفقين ولا نتائج جهاد المجاهدين، ولا فائدة دعوة الداعين. بل الذي ينتفع من كل ذلك هو الناس. وأقصى نِعَم الله على الناس هو أن «يبدلهم من بعد خوفهم آمنًا» ولذلك يذكّر المسلمين الأوائل بقوله: (…وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ..) (آل عمران/ 103). وهذه النعمة لا تتوفر إلا بتخليص البشرية من ظلم الظالمين واستضعاف المستكرين:(وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء/ 75).
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية