حديث التقريب ...
وثيقة تقريبية معاصرة
وثيقة تقريبية معاصرة
في زماننا هذا حيث جنّد أعداء الإنسانية أنفسهم ليمزّقوا الشعوب ويثيروا العداوة والاحقاد بينها ويشعلوا نيران الحروب والصراع بين أبنائها، يجدر بنا في حديث التقريب أن نقف عند وثائق من شأنها أن تدعو إلى التقارب الإنساني، وخاصة بين أبناء الدين الواحد، وأقصد السنة والشيعة، ونذكر هنا وثيقة كتبها الاستاذ أحمد أمين المعروف كمقدمة على كتاب تاريخ القرآن لأبي عبدالله الزنجاني. والزنجاني هو عالم شيعي كبير، وهو أول مسلم كتب عن (تاريخ القرآن) وناقش فيه المستشرقين بروح علمية عالية، وكتابه هذا طبع مرارا في دمشق والقاهرة وطهران وطبعة القاهرة تحمل هذه المقدمة المذكور لأحمد أمين وفيها روح تقريبية ذات دلالة على التقريب العلمي الذي ندعو إليه في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
وجاء في هذه المقدمة:
«أتيحت لي فرصة أن أقدم للقراء تاريخ القرآن للأستاذ أبي عبدالله الزنجاني، فاغتبطت لذلك لأسباب:
أولها: أن الأستاذ من أكبر علماء الشيعة ومجتهديهم، وكاتب هذه السطور سنّي، وطالما حزّ في نفسي أن أرى الخلاف بين السنيّين والشيعيّين يشتد ويحتد ويؤدي إلى جدل عنيف، وتدابر وتقاطع، ولم يقف الأمر عند الجدل الكلامي، والبغض النفساني، بل كثيرًا ما تعداه إلى تجريد السيف واحتدام القتال.
ولو أحصينا ما كان بينهم من عهد علي(رض) إلى الآن لبلغت حوادثه المجلدات الضخمة، كلها خلاف وكلها دماء، ولو كان أنفق هذا الجهد في سبيل الإصلاح لبلغ المسلمون ذروة المجد، ولكن أبت السياسة أحيانًا، والمطامع الشخصية أحيانًا، إلاّ أن تثير الفتن، وتدبر الدسائس، وتفرق بين الأخوة. ويعجب المؤرخ أن يرى النزاع يبلغ هذا المبلغ بين فئتين يجمعهم الاعتقاد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن المؤمنين إخوة. ولئن ساغ في العقل أن يقتتلوا أيام كان هناك نزاع على الخلافة، مَنْ هو أحقّ بها ومن يتولاها، فليس يسوغ بحال من الأحوال أن يقتتلوا على خلاف أصبح في ذمة التاريخ لا يستطيع القتال والنزاع أن يعيده إلى الوجود، بل بعد أن أصبحت الخلافة نفسها مسألة تاريخية بحتة، وليس للمسلمين خليفة فِعلي يضم كلمتهم، ويجمع شتاتهم، وأصبح كل الخلاف خلافًا في التاريخ، وخلافًا في الاجتهاد. ولولا ألاعيب السياسة واستغفال الماكرين لعقول العامة، واحتفاظ أرباب الشهوات والمطامع بجاههم وسلطانهم، لا نمحى الخلاف بين الشيعي والسنّي، ولأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، ولتعاونوا على جلب المصالح ودرء المفاسد لجميعهم، ولنظر بعضهم إلى بعض كما ينظر حنفي إلى مالكي، ومالكي إلى شافعي.
وأظن أن الوقت قد حان لأن يفكر عقلاء الطائفتين في سبيل الوئام، ويعملوا على إحياء عوامل الألفة وإماتة الخصام، ويتركوا للعلماء البحث حرًا في التاريخ، ويتلقوا النتائج بصدر رحب، كما يتلقون النتائج في أيّ بحث علمي وتاريخي؛ وتبعة هذا الخلاف تقع على رؤساء الطائفتين، ففي يدهم تقليله وفناؤه، كما في يدهم إشعاله وإنماؤه.
ففرصة سعيدة أراها أن يؤلف الكتاب شيعي، ويقدمه للقراء سنّي، ولعلها بادرة حسنة من بوادر السير للوئام، والدعوة إلى السلام، والعمل لخير المسلمين من غير نظر إلى فرقة أو مذهب، وهو ما يتطلبه ويوجبه موقف المسلمين الحاضر.
وثانيها: أنه كان من حسن التوفيق أن عرفت الأستاذ أبا عبدالله الزنجاني حين زيارته مصر سنة 1935، فتوثقت بيننا الصلة، وتأكدت الصداقة على قرب العهد بالتعارف، وقصر زمن اللقاء، ولكن قرب الأرواح يفعل مالا يفعله تراخي الزمن وطول العهد، وصدق الحديث: «الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» وقد رأيته واسع الاطلاع، عميق التفكير، غزير العلم بالفسلفة الإسلامية ومناحيها وأطوارها، على صفاء في نفسه، وسماحة في خُلقه، مما حبّبه إليّ، وحبّب لي أن أقدم كتابه لقرائه.
وثالثها: موضع الكتاب أو الرسالة وهو تاريخ القرآن من حيث الخط والجمع والترتيب والإعراب والإعجام، وهو موضوع شاق عسير تعرض له الأقدمون، ولا يزال مجال القول فيه ذا سعة.
وقد كان في نية الأستاذ الزنجاني أن يفيض فيه، ويخرج كتابًا واسعًا يجمع إلى سعة الرواية إعمال العقل، ولكن حالت ظروف دون ذلك فخرج الكتاب موجزًا مختصرًا، ومع هذا فقد جمع فيه كثيرًا مما تشتت في ثنايا الكتب من مؤلفين سنّيين وشيعيّين.
ولعل الزمن والظروف تهيئ له أن يتبع خطوته هذه بخطوة أخرى، فيهدي للقراء في هذا الموضوع بحثًا أوفى، وكتابًا أوسع يكشف ما غمض من هذه المسائل العويصة، والدقائق العميقة، وهو بذلك جدير، وفقه الله (انتهى كلام -أحمد أمين).
يجدر بهذه المناسبة أن نذكر أن ما كتبه أهل السنة وقدّم له عالم شيعي وما كتبه شيعي وقدّم له عالم سنّي كثير. من ذلك ما كتبه العالم الكبير محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954م) في كتاب (تحرير المجلة) على ماجاء في مجلّة الأحكام العدلية للدولة العثمانية، ومن ذلك مقدمة الامام الأكبر الشيخ شلتوت (ت 1963م) على تفسير (مجمع البيان) للعلامة الطبرسي (ت 548هـ) ونأمل أن تستمر هذه الروح العلمية في التقريبية في الدراسات، كي نتغلب على الصغائر وعلى ما يراد بنا من تفرق وتشتيت.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية