حديث التقريب .. سعدي رائد مدرسة الذوق الجمالي (3)

سعدي رائد مدرسة الذوق الجمالي
بمناسبة الاحتفال بيوم سعدي الشيرازي في شهر ابريل (نيسان)
ذكرنا أن سعدي الشيرازي عاشق بالمعنى العرفاني، والعاشق بهذا المعنى هو الذي يغلي صدره بالمشاعر النبيلة التي تدفعه إلى حبّ الجمال والكمال، من هنا فالعاشق لا يستقرّ ولا يخنع ولا يستسلم للظروف، بل يتحرك رغم كل الصعاب على طريق الجمال.
وعلى العكس من العاشق الإنسان المتبلّد الاحساس، الضعيف الهمّة، الذي لا يهتزّ أمام السحر ولا يطرب أمام الجمال.
وتربية الذوق الجمالي هدف كل الأنبياء والمصلحين، لأنه يدفع الإنسان للحركة نحو الجمال المطلق ويجعل الكائن البشري مُعرضًا عن القبائح والسيئات.
نحن اليوم بأمس الحاجة لتربية الذوق الجمالي لشبابنا لكي يطلبوا الجمال في كل مجالات حياتهم، ويعرضوا عن القبيح في المظهر والسلوك. والذوق الجمالي يبعد الشباب عن الوقوع في مستنقع الرذيلة ، لأن الشاب – إن تحلّى بالذوق الجمالي - يستطيع أن يفهم قبح الرذائل، ويفهم الفرق بين الجمال الحقيقي والجمال السرابي الخدّاع.
وهي مسألة نحتاج إلى الوقوف عندها طويلاً، لكنّا نكتفي بهذه الإشارة ونعود إلى سعدي الشيرازي الذي سعى فيما سعى إلى أن يستثير الذوق الجمالي الفطري في مجتمعه، الذي تكالبت فيه ظروف سحق هذا الذوق وإماتته، بفعل الأوضاع الاجتماعية السيئة.
هو أولا يكرّر الدعوة إلى التأمل في مظاهر الطبيعة ومافيها من جلال وجمال وأسرار، وإلى التعمّق بما وراء الظواهر من علاقات تربط كل الكون بهدف تكاملي واحد. يقول:
بذكرش هرچه بينى در خروش است/ ولى داند درين معنى كه گوش است
نه بلبل بر گلش تسبيح خوانيست/ كه هر خارى بتسبيحش زبانيســت
أي: «كل ماتراه يموج بذكره/ لا يفهم ذلك إلا القلب السميع/ ليس البلبل فحسب يسبّح على وردته/ بل كل شوكةٍ لسانٌ ينطق بتسبيحه».
والقلب الذي يستطيع أن يتفهّم حقائق الأشياء هو القلب الذي يخفق بالعشق لا القلب المتبلّد الجامد. كلّ مظاهر الطبيعة تدعو الإنسان إلى أن ينفتح قلبه وينصقل ذوقه، بل لقد عُرِف عند العرب عن الجَمَل بأنه يطرب للصوت الجميل، فما بال الإنسان لا يهزّه الجمال؟!
يقول سعدي:
دانى چه گفت مرا آن بلبل سحري؟/ تو خود چه آدمى كز عشق بى خبرى
اشتر بشعر عرب در حالتست وطرب/ گر ذوق نيست ترا كژ طبع جانورى
أي: «أتدري ماذا قال لي البلبل في السحر؟ / أي إنسان أنت يامن لا معرفة لك بالعشق؟!/ الجمل في الشعر العربي له ذوق وطرب/ وإذا لم يكن لك ذوق فأنت حيوان معوجّ الطبع».
ثم يردف سعدي هذين البيتين بيت عربي فيقول:
وعند هبوب الناشرات على الحمى/تميـــل غصــــون البـان لا الــحجـــــر الصلــد
يضع سعدي مواصفات للعاشقين منها أنهم لا يملّون الطلب والبحث للوصول إلى الجمال، يقول:
چو يعقوبم ارديده گردد سپيد/ نبـــردم ز ديــدار يوسف اميد
طلبكار بايد صبور وحمــــول/ كه نشنيـــــده ام كيمياگر ملول
چه زرها بخاك سيه در كنــــد/ كه باشد كه روزى مسى زر كند
أي: «فلئن ابيضّت عيناي، كما ابيضّت عينا يعقوب / فلن أقطع الأمل، من رؤية يوسف/ ولابدّ للطالب أن يكون صبورًا قادرًا على التحمّل / إذ لم يُسمع أن كيماويًا (ساعيًا للحصول على الذهب من معادن أخرى) أصبح ملولاً / فما أكثر ما ينفقه من مال وذهب / لعلّه يومًا يستطيع أن يحوّل النحاس إلى ذهب».
ومن صفات العاشقين أنهم يشعرون - رغم ثقل أعباء العشق -بالبهجة والسرور والحبور.
وسعدي مبتهج دائمًا، لأنه يعيش في عالم مبتهج بخالقه، وسعدي عاشق لكل العالم، لأن كل العالم من فيض المحبوب. يقول:
بجهان خرّم از آنم كه جهان خرّم از اوست/ عـاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست
أي: «أنا مبتهج بالكون لأن الكون مبتهج به/ أنا عاشق لكل العالم لأن جميع العالم منه».
وما أجمل هذا الارتباط بالكون! إنه ارتباط يشرح الصدر، ويبارك العمر ويزكّيه ويرفعه، ويجعل العلاقة بين الإنسان والكون علاقة العاشق بالمعشوق.
ويفصل سعدي بين حديث العشق وحديث العقل، فالعشق حديث تضحية وفداء وتحمّل ومعاناة وإيثار، وحديث العقل حديث مصلحة ومنفعة واستئثار وطلب السلامة. يقول سعدي:
درديست درد عشق كه هيچيش طبيب نيست/ گر دردمنــد عشق بنالـــد غريب نيست
داننـــد عاقــلان كــه مجانيـــن عشــق را/ پــرواي قول ناصــح و پند اديب نيست
أي: «ما أشدّ ألم العشق الذي ليس له طبيب / وإذا ناح المصاب بالعشق فليس ذلك بغريب / يعلـم العقــّال أن مجانين العشــق / لا يرعوون لقول ناصح وموعظة أديب».
وهذا لا يعني أن سعدي يدعو إلى ترك العقل، بل يرى أن عالم العشق غير عالم العقل، عالم العشق يتجاوز الذات، وعالم العقل يكرّس الذات.
سعدي يضع العاشق مقابل الأناني وعابد الذات، وبذلك يدعو إلى أن يكون الإنسان عاشقًا ينشد الجمال بعيدًا عن الذاتية والأنانية، مندفعًا دائمًا ليقدم الخير والعطاء للبشرية جمعاء.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية