حديث التقريب .. الوجدان البشري لا يزال حيًا
مع كل الجهود التي بذلتها الامبريالية الغربية في مسخ الإنسان وتقريع وجدانه من أية نزعة إنسانية، يبقى الوجدان البشري حيًا، لأنه جزء من فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، لا تبديل لخلق الله.
مدهش حقًا هذا الذي نراه في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وألمانيا من تدفق مئات الآلاف من المحتجين على جرائم العدو الصهيوني وعلى مواقف حكوماتهم مما يجري في غزّة.
من الطبيعي أن نرى هذا الحماس في الدفاع عن الحق الفلسطيني في البلدان العربية والإسلامية وبلدان أمريكا اللايتينية لكننا حين نراه في عقر دار البلدان التي ساندت العدوّ الصهيوني بكل مالديها من مال وسلاح واعلام و.. فهذا هو العجب العجاب!!
لقد تعرّض الإنسان الغربي، خاصة بعد ثورة الاتصالات، إلى قصف يومي متواصل بالإعلام المضلل الذي يحاول قلب الحقائق تجاه العالم الإسلامي عامة وتجاه فلسطين وإيران ومحور المقاومة بشكل خاص.
ومن قبل اقتضت المنظومة الفكرية للغرب الى تحويل الإنسان الغربي إلى إنسان فارغ من القيم الإنسانية لا يهمه إلاّ الاستهلاك.
وتقوم الإمبريالية النفسية بتحديد الهدف من الحياة للمواطن أو المشاهد، فهو ليس السعادة أو التوازن وإنما الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك، وكما يقولون في الخطاب الشعبي الأمريكي "Shop till you drop - فلتتبضّع حتى تسقط ميتا من الإنهاك". وهناك اصطلاح "مدمن التبضع shopaholic" أي الإنسان الذي يذهب للتبضّع لا لأنه يريد شراء شيئ ما وإنما لأنه أدمن هذه العملية.
وقد نجحت الإمبريالية النفسية في معظم أنحاء العالم، ولكن أهم ضحاياها، والذي تم افتراسه تمامًا، هو الإنسان الأمريكي ذاته؛ فقد قام الإعلام بتفريغه من الداخل، فالإعلام له سطوة في الغرب خاصة أنه فنيًا ناجح جدًا ومُسَل، فأتفه الأشياء يجعلونها مسلية وجميلة.
إن الإعلام الغربي نجح في ترسيخ الرؤية الاستهلاكية، كما نجح أيضًا بالفعل في عزل الإنسان عما يدور حوله في العالم، برغم أن جيوش الغرب والولايات المتحدة ومخابراتها تتحرك في كل أنحائه بشكل علني أحياناً، وسري أحياناً أخرى.
وقد أدى هذا إلى تبسيط الوجدان السياسي للإنسان الأمريكي والغربي بحيث يمكن للسلطة الحاكمة أن تملي عليه ما تريد من أفكار يعتنقها بتلقائية مدهشة بحيث لا يستطيع أن يتجاوز الحدود التي فرضت على وجدانه، والتي رسمتها له النخبة الحاكمة وعزلته عما يدور في أنحاء العالم.
لقد تحدث المفكرون كثيرًا عن ان الإنسان من منظور الإمبريالية النفسية هو أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لا يبحث إلا عن منفعته (الاقتصادية) ولذته (الجسدية)، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيًا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع.
هذا الإنسان لا يهدف إلا إلى تحقيق المنفعة واللذة لنفسه، ويرى أن خلاصه يكمن في ذلك. في الماضي كانت "الحاجة هي أم الاختراع"، أما في إطار الإمبريالية النفسية أصبح "الاختراع هو أبو الحاجة"، إذ لابد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم. ومن هنا يدخل الإنسان دائرة الإنتاج التي لا هدف لها والآخذة في الاتساع إلى ما لا نهاية.
تحول الإنسان ذاته إلى سوق بلا قرار يمكن أن تلقي فيه بالسلع والمزيد من السلع، وكلما زادت عجلة الإنتاج في الدوران وقف الإنسان، لا في مركز الكون كما هو الحال مع الفلسفات الإنسانية، وإنما مثل الثقوب السوداء في الفضاء التي تمتص كل شيء وينعدم فيها المكان والزمان.
ولكن الاستهلاكية أو الإمبريالية النفسية تمتاز عن الإمبريالية العسكرية في أن مجالها هو النفس البشرية، إذ إن فلاسفة هذه النزعة اكتشفوا حقيقة أساسية اكتشفها آخرون من قبل (فقهاء وعلماء اجتماع وشعراء) وهي أن النفس البشرية لا تشبع قط، وأنها في غياب الحدود يمكنها أن تتمدد دون توقف، إلى أن تُفني نفسها فيما حولها وفيما تشتهي. ولكن بالنسبة للفقهاء والعلماء والشعراء كانت هذه الحقيقة هي مصدر النكبة، أما بالنسبة لفلاسفة الاستهلاكية فهي تمثل نقطة ثبات تصلح أساسًا فكريًا ونفسيًا لفلسفتهم.
بدلا من إرسال الجيوش الإمبريالية لآسيا وأفريقيا لفتح الأسواق، تطلق أدوات الترويض المختلفة مثل البرامج التليفزيونية، والأفلام، والموضة (أو جماليات الصيرورة) لفتح الإنسان ولغزوه وقهره. وبدلا من النظرية العنصرية والتفاوت بين الأجناس التي استخدمتها الإمبريالية العسكرية لفتح الأراضي والقارات، تستند الاستهلاكية (أو الإمبريالية النفسية) إلى نظريتها في الطبيعة البشرية، فهي تنكر عليها أي ثبات، وترى أنها في حالة صيرورة دائمة وتغير دائم، غارقة في النسبية الشاملة، وأن الإنسان ليس بوسعه أن يفرق بين الأبيض والأسود أو الأصفر، فكلهم مجرد مادة نزعت عنها القداسة تصلح للطاحونة التي تدور والتي لا تبقى ولا تذر، كلهم مادة خام محايدة صالحة: التمدد الدائم والانتشار الذى لا نهاية له، أو الانتشار كنقطة ثبات وحيدة، تمامًا كما أن النسبية هي المطلق الوحيد.
مع كل الجهود التي بذلتها الامبريالية الغربية في مسخ الإنسان وتقريع وجدانه من أية نزعة إنسانية، يبقى الوجدان البشري حيًا، لأنه جزء من فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، لا تبديل لخلق الله.
وهذا الذي رأيناه بعد اندلاع "طوفان الأقصى"، يثبت هذه الحقيقة.. شوارع باريس وشوارع لندن وشوارع أمريكا تقول الوجدان البشري لا يزال حيًا.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية