تأليف كتاب" الخلاف" للطوسي :خطوة واسعة نحو التقريب بين المذاهب الإسلامية.
الشيخ الطوسي يضع الحجر الأساس للتقريب بين المذاهب الإسلامية
يعد الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الملقب بـ (الطوسي) من أجلّ علماء الإمامية على مدى تاريخها الطويل والحافل بكبار العلماء والفقهاء، وتدلنا مؤلفاته على علمية واسعة وثقافة موسوعية شاملة، فلم يترك باباً من أبواب العلم إلا وطرقه وحاز فيه على قصب السبق، فقد ألّف الطوسي في التفسير والحديث والفقه والأصول والعقائد وعلم الكلام والتراجم والسير والعبادات والفقه المقارن والأدعية وغيرها وقد امتاز بسعة الأطلاع في كل باب ألف فيه فكان ذا أفق واسع وعقلية متفتحة على آفاق العلم المتباينة ومصادره المتنوعة.
ولد أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي شيخ الطائفة في طوس سنة 385هـ وهاجر إلى العراق وحطّ رحله في بغداد سنة 408هـ، وهو في الثالثة والعشرين من عمره وانخرط في زمرة تلاميذ شيخ الأمة وعلم الإسلام الرفيع محمّد بن محمّد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد وابن المعلم المتوفى 413هـ.
وبعد وفاة الشيخ المفيد انحاز الشيخ الطوسي إلى علم الهدى السيّد الشريف المرتضى الذي حاز زعامة الشيعة ورئاسة المذهب بعد المفيد وارتوى من منهله العذب. وحيث رأى المرتضى في الطوسي الذكاء البالغ والكفاءة الفكرية الممتازة، بالغ في العناية به في تنظيم اموره ومعاشه لكي يتفرغ للدراسة والتحقيق، فاستمر الشيخ في سير مدارج العلم إلى أن وافى استاذه العظيم المرتضى الأجل وانتقل إلى رضوان اللّه في سنة 436هـ، فتوجهت أنظار الشيعة إلى الشيخ الطوسي واستقل بالزعامة الدينية وقصده العلماء المحققون من اكناف العالم الإسلامي وتزايد عدد تلاميذه بحيث قالوا أنه كان يجلس في مجلس درسه وتحت منبره أكثر من ثلاثمائة من المجتهدين الشيعة و السنة. ومن الناحية الاجتماعية والموقف الشعبي كانت داره في الكرخ مأوى الناس ومقصد أصحاب الحاجات وموضع فصل الدعاوي والخصومات.
لتخريج المشاهير من العلماء والفطاحل من الفقهاء والاصوليين والفلاسفة والأدباء والشعراء (سنة وشيعة)، وبدأ بتأليف كتبه القيمة التي تحتوي على أحاديث وأقوال أئمة أهل البيت وفيما يتعلّق بالشريعة في الحلال والحرام ومختلف الأحكام.
ويظهر لنا أن الشيخ الطوسي ألّف ما ألّفه وخلفه كتراث عظيم في النجف، ويبدو لنا أيضاً أنّ كتابه العظيم المعروف بـ "الخلاف" هو من أواخر تأليفاته، وبعد فراغه من التهذيب والاستبصار وكان تأليف الخلاف خطوة واسعة نحو التقريب بين المذاهب الإسلامية.
قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه "مسائل الخلاف" ما نصّه: "سألتم أيّدكم اللّه املاء مسائل الخلاف بيننا وبين مَن خالفنا من جميع الفقهاء مَن تقدم منهم ومَن تأخر، وذكر مذهب كل مخالف على التعيين وبيان الصحيح منه وما ينبغي أن يعتقد وأن اقرن كلّ مسألة بدليل نحتج به على مَن خالفنا موجب للعلم من ظاهر (قرآن) أو سنة مقطوع بها أو اجماع أو دليل خطاب أو استصحاب حال على ما يذهب إليه كثير من أصحابنا، أو دلالة أصل أو فحوى خطاب.
وأن اذكر خبراً عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يلزم المخالف العلم به والانقياد له، وأن أشفع ذلك بخبر من طريق الخاصة (السنة) المروي عن النبي والأئمة(عليهم السلام)... الخ".
و نوه شيخ الطائفة مؤسّس حوزة النجف العلمية ومرسي قواعد جامعته العريقة، الى مسائل الخلاف مبيناً انّ الخلاف ليس معناه التضاد، انّ الخلاف أعم من الضد لأنّ كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين. فالشيخ الطوسي (قدس سره) اقتدى بإمامه أمير المؤمنين علي بن ابيطالب(عليه السلام) في التقريب بين المسلمين، وقد ألّف استاذه الشريف المرتضى كتاب الخلاف في الفقه، إلاّ أن كتاب مسائل الخلاف الذي ألّفه الشيخ الطوسي كان أتم وأجمع ولم يكتب مثله في الخلاف، فهو أوّل فقيه حاول التقريب بين المذاهب الإسلامية.
و واصل الشيخ الطوسي طريق الحوار وعرض الآراء والسماح للرأي الآخر المخالف أيضاً بالعرض ومحاولة العثور على الرأي الصائب الأسدّ الذي يوافق الكتاب والسنة.
وجاء في النصف الثاني من القرن السادس العلاّمة الحلي وألّف كتاب مختلف الشيعة وكتاب منتهى المطلب في تحقيق المذهب تعرض فيهما خصوصاً في المنتهى لذكر جميع مذاهب المسلمين في الفقه، مع ذكر ما يمكن أن يكون حجّة لكل فريق على أحق الطرائق وأوثقها برهاناً وأصدق الأقاويل وأوضحها بياناً".
لم تزل مؤلفات شيخ الطائفة الشيخ الطوسي تحتل المكانة السامية بين آلاف الأسفار الجلية التي أنتجتها عقول علماء الجبارة، ودبجتها يراعة أولئك الفطاحل الذين عز على الدهر أن يأتي لهم بمثيل، ولم تزل أيضا غرة ناصعة في جبين الدهر وناصية الزمن وكيف لا وقد جمعت معظم العلوم الاسلامية أصلية وفرعية، وتضمنت حل معضلات المباحث الفلسفية والكلامية التي لم تزل آراء العباقرة والنياقدة حائمة حولها، كما احتضنت كل ما يحتاج اليه علماء المسلمين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وحسب الشيخ عظمة ان كتابيه (التهذيب) و (الاستبصار) من الأصول المسلمة في مدارك الفقه، ومن الكتب الأربعة التي عليها المدار - على مرور الاعصار - في استنباط أحكام الدين بعد كتاب الله المبين.
و من تلامذته:
سبق وأن ذكرنا فيما تقدم من حديثنا عن شيخ الطائفة أن تلامذته من الخاصة بلغوا أكثر من ثلاثمائة مجتهد(الشيعة) ومن العامة (السنة) مالا يحصى كثرة، وقد صرح بذلك المجلسي في (البحار) والتستري في (المقابس) والخوانساري في (الروضات) والمدرس في (الريحانة) وغيرهم في غيرها.
والأسف ان هذا العدد الكبير غير معروف لدى كافة الباحثين حتى بعد عصر الشيخ بقليل، فان الشيخ منتجب الدين بن بابويه المتوفى بعد سنة 585 . على قرب عهده من الشيخ الطوسي لم يستطع الوقوف على أسمائهم، فإنه لم يذكر منهم في كتابه (الفهرست) المطبوع في آخر (البحار) إلا ستة وعشرين عالما، وزاد عليهم العلامة السيد مهدي بحر العلوم في (الفوائد الرجالية) أربعة فتمت عدتهم ثلاثين، وهؤلاء معروفون ذكرت أسماؤهم في مقدمات كتب الشيخ المطبوعة في النجف الأشرف لكن الشيخ النوري لم يذكرهم، ونظرا لما حدث في أسماء بعضهم من التصحيف، ولما وقفنا عليه من أسماء جماعة أخرى من تلاميذه الذين ذكرهم الحجة الشيخ أسد الله الدزفولي التستري في كتابه (المقابس) ولم يتعرض لذكرهم مترجموه المتأخرون، فانا نسرد أسماء الجميع على ترتيب حروف الهجاء مقتصرين على ذكر الأوصاف التي وصفهم بها علماء الرجال والمفهرسون القدماء من (السنة و الشيعة) و ممايلي :
1 - الشيخ الفقيه الثقة العدل آدم بن يونس بن أبي المهاجر النسيفي.
2 - الشيخ الثقة المؤلف الجليل النبيل أبو بكر أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي النيسابوري.
3 - الشيخ الثقة أبو طالب إسحاق بن محمد بن الحسن بن الحسين بن محمد ابن علي بن الحسين بن بابويه القمي.
4 - الشيخ الثقة أبو إبراهيم إسماعيل شقيق إسحاق المذكور.
5 - الشيخ الثقة أبو الخير بركة بن محمد بن بركة الأسدي.
6 - الشيخ الثقة العين المصنف أبو الصلاح تقي بن نجم الدين الحلبي.
7 - السيد المحدث الثقة أبو إبراهيم جعفر بن علي بن جعفر الحسيني.
8 - الشيخ الامام المصنف شمس الاسلام الحسن بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بحسكا.
9 - الشيخ الفقيه الثقة أبو محمد الحسن بن عبد العزيز بن الحسن الجبهاني (الجهباني خ ل).
10 - الشيخ الجليل الثقة العين أبو علي الحسن ابن شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي.
11 - الشيخ الامام موفق الدين الفقيه الثقة الحسين بن الفتح الواعظ الجرجاني.
12 - الشيخ الامام الثقة الوجه الكبير محي الدين أبو عبد الله الحسين بن المظفر بن علي بن الحسين الحمداني نزيل قزوين.
13 - السيد عماد الدين أبو الصمصام وأبو الوضاح ذو الفقار بن محمد بن معبد الحسيني المروزي.
14 - السيد الفقيه أبو محمد زيد بن علي بن الحسين الحسيني (الحسني).
15 - السيد العالم الفاضل زين بن الداعي الحسيني.
16 - الشيخ الفقيه المشهور سعد الدين بن البراج.
17 - الشيخ الفقيه الثقة أبو الحسن سليمان بن الحسن بن سلمان الصهرشتي.
18 - الشيخ الفاضل المحدث شهرآشوب السروي المازندراني جد الشيخ محمد بن علي مؤلف (معالم العلماء) و (المناقب).
19 - الشيخ الفقيه الثقة صاعد بن ربيعة بن أبي غانم.
20 - الشيخ عبد الجبار بن عبد الله بن علي المقرئ الرازي المعروف بالمفيد.
21 - الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن أحمد الحسيني الخزاعي النيسابوري المعروف بالمفيد أيضا.
22 - الشيخ الفقيه الثقة موفق الدين أبو القاسم عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن بابويه.
23 - الشيخ الفقيه الثقة علي بن عبد الصمد الميمي السبزواري.
24 - الأمير الفاضل الزاهد الورع الفقيه غازي بن أحمد بن أبي منصور السلماني.
25 - الشيخ الفقيه الثقة الصالح كردي بن عكبر بن كردي الفارسي نزيل حلب.
26 - الشيخ الامام جمال الدين محمد بن أبي القاسم الطبري الآملي.
27 - الشيخ الأمين الصالح الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن شهريار. الخازن الغروي.
28 - الشيخ الشهير السعيد الفاضل السديد محمد بن الحسن بن علي الفتال. صاحب " روضة الواعظين ".
29 - الشيخ الفقيه الصالح أبو الصلت محمد بن عبد القادر بن محمد.
30 - الشيخ الثقة العالم المؤلف فقيه الأصحاب أبو الفتح محمد بن علي الكراچكي.
31 - الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن الحلبي.
32 - الشيخ الفقيه الثقة أبو عبد الله محمد بن هبة الله الطرابلسي.
33 - السيد صدر الأشراف المنتهي اليه منصب النقابة والرئاسة في عصره، السيد المرتضى أبو الحسن المطهر بن أبي القاسم علي بن أبي الفضل محمد الحسيني الديباجي.
34 - السيد العالم الفقيه المنتهى بن أبي زيد بن كيابكي الحسيني الجرجاني.
35 - العالم الفاضل الفقيه الوزير السعيد ذو المعالي زين الكفاة أبو سعيد منصور بن الحسين الآبي.
36 - السيد الثقة الفقيه المحدث أبو إبراهيم ناصر بن الرضا بن محمد بن عبد الله العلوي الحسيني.
هؤلاء ستة وثلاثون عالما من تلاميذ الشيخ الطوسي المعروفين، ولعل في كتابينا (إزاحة الحلك الدامس بالشموس المضيئة في القرن الخامس) و (الثقات والعيون في سادس القرون) من ترجمنا له ولم يأت اسمه هنا.
ولا يخفى إن فيما أضافه العلامتان السيد مهدي بحر العلوم والشيخ أسد الله الدزفولي ما يحتاج إلى التأمل، ففي تلمذ الشيخ عبيد الله بن الحسن على الشيخ الطوسي تأمل، فان ولده الشيخ منتجب الدين كان أولى بذكره مع تلامذة الشيخ في (الفهرست) مع انه لم يذكره وكذا الكراچكي المتوفى سنة 449 ه و كذا جمال الدين محمد الطبري إن كان المراد به عماد الدين محمد بن أبي القاسم على الطبري الآملي فإنه من تلاميذ الشيخ أبي علي ان الشيخ الطوسي كما ذكره الشيخ منتجب الدين، وجل رواياته عن مشايخه بعد الخمسمائة والله العالم.
لم يبرح شيخ الطائفة في النجف الأشرف مشغولا بالتدريس والتأليف، والهداية والارشاد، وسائر وظائف الشرع الشريف وتكاليفه، مدة اثنتي عشرة سنة، حتى توفي ليلة الاثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة 460 ه عن خمس وسبعين الحسن بن عبد الواحد العين زربي، والشيخ أبو الحسن اللؤلؤي، ودفن في داره بوصية منه وأرخ وفاته بعض المتأخرين بقوله مخاطبا مرقده الزاكي كما هو مسطور على جدار المسجد، وقد ذكره العلامة المرحوم الشيخ جعفر نقدي في كتابه " ضبط التاريخ بالأحرف " أيضا ص 13:
إلى أن قال:
أودى بشهر محرم فأضافه * حزنا بفاجع رزئه المتجدد
إلى أن قال:
بك شيخ طائفة الدعاة إلى الهدى * ومجتمع الاحكام بعد تبدد
إلى أن قال:
وبكى له الشرع الشريف مؤرخا * (أبكى الهدى والدين فقد محمد)
وتحولت الدار بعده مسجدا في موضع اليوم حسب وصيته أيضا، وهو مزار يتبرك به الناس من العوام والخواص، ومن أشهر مساجد النجف، عقدت فيه - منذ تأسيسه حتى اليوم - عشرات حلقات التدريس من قبل كبار المجتهدين وأعاظم المدرسين فقد كان العلماء يستمدون من بركات قبر الشيخ لكشف غوامض المسائل ومشكلات العلوم، ولذلك كان مدرس العلماء ومعهد تخريج المجتهدين إلى عصر شيخ الفقهاء الشيخ محمد حسن صاحب (الجواهر) الذي كان يدرس فيه أيضا، حتى بعد أن بنوا له مسجده الكبير المشهور باسمه، فقد كثر الحاحهم عليه وطلبهم منه الانتقال اليه لم يقبل ولم يرفع اليد عنه اعتزازا بقدسية شيخ الطائفة وحبا للقرب منه، وهكذا إلى أن توفي.
اعداد و تدوين
علي اكبر بامشاد