حديث التقريب..
زينب سلام الله عليها تواصل مسيرة أخيها الحسين عليه السلام
بعد موقعة كربلاء أخذ قتلة الحسين (عليه السلام) من تبقى من آل بيت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أسرى وسبايا إلى الكوفة ثم إلى الشام، ونهضت زينب بنت علي (عليه السلام) بالدور الكبير في مواصلة الطريق نحو تحقيق أهداف أخيها الحسين (ع)، فماذا فعلت؟
دور زينب
عقيلة بني هاشم كان لها الدور الأكبر بعد الحسين في عملية إحياء المجتمع المسلم، فماذا كان دورها الرسالي في تحقيق هذا الهدف الكبير.
لابدّ أن أذكر أولاً أنها كانت – في اعتقادنا – مؤهّلة تماماً لحمل هذا الدور. لا تتوفر لدينا وثائق كثيرة عن شخصيتها، ولكن ما ذكره لنا التاريخ من نتف عابرة هو كاف لمعرفة شخصية هذه المرأة وتأهّلها لهذا الدور. يكفي ما ذكره لنا التاريخ أن هذه المرأة يخاطبها الحسين في أعظم وأصعب موقف في ليلة الاستعداد للقتل والسبي.. في ليلة العاشر من محرم ويقول لها: «يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل».
وثمة وثيقة أخرى بقيت خالدة عن هذه المرأة هي قولها عند وقوفها على جسد أخيها المدمى المقطع بالسيوف المحزوز الرأس.. وهو مشهد يهدّ الجبال ويضعف الأبطال، قولتها المشهورة : «اللهم تقبل منّا هذا القربان».
وثمة وثيقة ثالثة تبيّن تأهّل هذه المرأة لمثل هذا الدور الرسالي ما ذكره المؤرخون أنها أدّت ليلة الحادي عشر من محرم صلاة الشكر..
يا إلهي كفى على عظمتك شهيداً أنك خلقت أمثال هؤلاء العظماء الذين لا تقاس بهم عظمة سماواتك وأرضك!!!
الدرس الكبير العملي الذي قدمته زينب (س) للأمة الإسلامية، هو "كيف يمكن تبديل حالة الذل إلى حالة العزّة والكرامة"؛ والبديع في الأمر أن أسرها ساعدها في النهوض بهذا الدور الرسالي التاريخي.
لو كانت زينب (س) عزيزة بـإخوتها وأهل بيتها وعشيرتها وأصحابها لما استطاعت أن تؤدّي هذه المهمة. ولكنها وقعت في ذلّ الأسر بعد أن فقدت إخوتها وأهل بيتها وحماتها، ولا شك أن الأسر ذلّ ما بعده ذلّ، خاصة حين يكون بيد أناس ذبحوا ابن بنت رسول الله وأحرقوا خيم عياله ورضّوا أجساد القتلى بالخيل ومارسوا ألوان الفظاظة والقسوة والدناءة.
ولكن دور زينب هو أنها حوّلت هذا الذل إلى عزّة وكرامة، وكأني بها قالت للمجتمع الذي خيّم عليه الذل: أنا امرأة وحيدة لا ناصر لي ولا معين حوّلت حالة الذلّ التي وقعت فيها إلى حالة عزّ فهل فيكم من بقايا كرامة؟!!
كيف مارست زينب هذا الدور الرسالي الكبير؟
1- عدم الشعور بالهزيمة :
وهذه صفة هامة لمن يتأهّل لتحويل الهزيمة إلى انتصار. لو بدى على زينب الانكسار أو الضعف والانهيار لما استطاعت أن تؤدي مهمتها، لكنها في مواقفها كانت من القوة بحيث جعلت المؤرخين يتحدثون عن هذه المواقف.
قال بشر بن خزيم الأسدي: «ونظرت إلى زينب بنت علي عليها السلام يؤمنذ فلم أر خفرة أنطق منها كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكتت الأجراس».
هذا الموقف يدل على أن صلابة شخصية زينب (س) قد أثّرت على هذا الرجل كما أثـّرت على كل المخاطبين بحديثها في الكوفة. يقول الراوي : «لقد رأيت الناس يؤمئذ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلَّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يُخزى ولا يُبزى».
وهذه الصلابة وعدم الإحساس بالضعف أفقدت صواب والي يزيد عبيد الله بن زياد فما بالك بالآخرين الحاضرين في مجلسه حين أدخل عيال الحسين (ع) على ابن زياد فدخلت زينب (س) متنكرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفّت بها النساء؛ فقال ابن زياد : من هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل. فقالت بعض النساء هذه زينب بنت رسول الله (ص).
لاحظوا عظمة الموقف : دخلت على أعتى مستكبر وأبشع قاتل وأفظع طاغية، فما التفتت إليه، ولا وقفت أمامه، ولا أستأذنته في الجلوس، بل أهملته وانحازت وجلست مع النساء في جانب من القصر، ثم لم تجب على سؤال الطاغية رغم أنه كرره ثلاثاً.
هذا يعني أنها لم تستشعر بأي ضعف ولم يساورها أي شعور بالهزيمة.
2- المحافظة على روح العزّة :
حرصت زينب عليها السلام على صيانة روح العزّة لدى سبايا أهل البيت كي لا يستشعروا الذلة في أسرهم، ولكي يكونوا هم أيضاً صورة لمن يأبى أن يُذلّ.
في الرواية أن السبايا أدخلوا في دار إلى جانب المسجد الأعظم، ومن الطبيعي أن تزورهم النساء، فتجمّعن على باب هذا البيت للدخول على زينب، فخشيت زينب أن يساور نساء آل بيت النبوة نوع من الإحساس بالذلة أمام بقية النساء، فرفضت زينب دخول النساء عليها وقالت : «لا تدخل علينا إلا مملوكة أو أم ولد فإنهنّ سُبين كما سُبينا».
لاحظ أنها سمحت لدخول نوع خاص من النساء يشاركن أهل بيت النبوة في الأحاسيس والمشاعر، دون بقية النساء اللاتي لا يحملن مثل هذا الإحساس والتاريخ المشترك.
وفي الرواية أن قافلة السبايا حين دخلت الكوفة قدّم لهم بعض أهل هذه المدينة تمراً وخبزاً. فصاحت زينب: «إن الصدقة حرام علينا أهل البيت». فرمى كلّ واحد منهم ما في يده أو فمه وراح يقول لصاحبه: إنّ عمّتي تقول إن الصدقة حرام علينا أهل البيت».
بهذا الشكل جعلت هذه الأسرة الكريمة تستشعر عزتها وكرامتها في انتسابها لآل بيت رسول الله(ص).
3- الإيمان بالمستقبل :
من عناصر التربية القرآنية في تحقيق النصر الإيمان بالمستقبل، الإيمان بانتصار العدل على الظلم وانتصار الدم على السيف وانتصار المستضعفين على المستبكرين. هذا الإيمان كان راسخاً في نفس زينب وكان له الأثر الكبير في تحقيق هدفها الكبير.
في الرواية أنها رأت التأثر الكبير على علي بن الحسين وهو يستعرض ذكريات الواقعة الأليمة في كربلاء، ومشهد الأجساد المتناثرة على الرمضاء، فقالت له: «مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والأجسام المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لـمّا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على مرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلا علوّا».
وبهذا الإيمان بمستقبل تسقط فيه دولة الظالمين تخاطب يزيد قائلة :
«فكد كيدك واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض (تغسل) عنك عارها، وهل رأيك إلا فَنَد، وأيامك إلا عَدَد، وجمعك إلا بَدَد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله عى الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
4- الشجاعة:
وهي خصلة بارزة في مواقف السيدة زينب، وقد ورثتها عن أبيها، بل من مدرسة أبيها وجدها، وهي مدرسة القرآن التي تعلّم الإنسان أن يخشى الله ولا يخشى سواه، تربّت على أن الحوادث مهما كانت جسيمة لا يهتز لها قلب، ولا يرتجف لها جسد، وعلى أن تستقبل الموت وتطلبه، ومن طلب الموت كُتبت له الحياة وكُتب له الخلود.
فهي تقف أمام طاغية زمانها لتقول له :
«ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرّى».
الطاغية المتفرعن أمامها لا يستحق حتى التقريع والتوبيخ، فهي أكبر من أن تخاطبه بأي شيء حتى بالتقريع والتوبيخ.. أية شجاعة هذه؟!!
5- مفهوم النصر والهزيمة :
من العوامل الهامة التي تستطيع أن تحوّل الهزيمة إلى نصر والذلّ إلى عزّة ما يحمله الإنسان من مفهوم عن معنى النصر والهزيمة. والإسلام ربّى أبناءه كي لا يعرفوا للهزيمة معنى، فهم ينالون على أي حال إحدى الحسنيين، وانحسار الحق لا يعني فشله وضعفه بل يعني تمحيص المؤمنين الصادقين، وانتفاش الباطل لا يعني انتصاره لأنه هو استدراج أهل الباطل كي يزدادوا إثماً. هذه المفاهيم كانت زينب عليها السلام تبثها في المجتمع محاولة تصوير يزيد المنتصر بأنه هو المنهزم وبأنهم هم المنتصرون.. المنتصرون بما نالوا من فوز الشهادة.. والمنتصرون على المدى البعيد حين تهدم دماؤهم عروش الطواغيت.
تقول عليها السلام مخاطبة يزيد :
«أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لعِظَم خَطَرك عنده؟! فشَمَختَ بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحيث صفا لك ملكنا وسلطاننا؟!!
فمهلاً مهلا، لا تطش جهلا. أنسيت قول الله تعالى:وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(آل عمران:178)».
وتقول مخاطبة ابن زياد حين قال لها : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
فتقول له : «الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد(ص)، وطهّرنا من الرجس تطهيراً. إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله».
يعاود ابن زياد الطعن فيقول : كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟
لتجيبه بنفس تلك المفاهيم فتقول: «كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاجّون وتتخاصمون عنده».
وفي رواية أخرى وهي الراجحة في رأيي أنها قالت :
«ما رأيت إلا جميلا.. وسيجمع الله بينك وبينهم..». نعم.. ما رأيت إلا جميلا.. في هذه العبارة تتلخّص كلّ شخصية زينب بنت علي عليهما السلام.. وكل نظرتها العرفانية إلى الأمور.
أي جمال هذا الذي ينجلي لسليلة بيت النبوة ولا تراه العيون المحجوبة عن رؤية الجمال الحقيقي في هذا الكون!! وأي جمال تستشعره هذه العارفة بالله ولاتحسّه القلوب القابعة في أكنّة الآثام والرذائل!!
وفي عبارة أخرى تخاطب يزيد مؤكدة أنه أباد نفسه بنفسه حين فعل فعلته تقول له :
«فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا جززت إلا لحمك…
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(آل عمران:169)».
هذه المفاهيم بثتها زينب في المجتمع، وانتشرت وذاعت بفضل الدماء التي سُفكت في كربلاء، وكانت الشرارة التي أيقظت الناس من سباتهم العميق. وبقيت آثارها خالدة على مرّ التاريخ، وها نحن نراها اليوم تتجلى في ممرضات غزّة وفي النساء المفجوعات في غزّة.
فسلام عليكنّ بما صبرتنّ ونعم عقبى الدار.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية