جريدة (القدس العربي) :
إيران: تنافس المتباينين وتكامل المختلفين
مدينة القدس التي شرفها الله بالاسراء والمعراج وجعل فيها المسجد الاقصى، وهيأها لتكون مركز التقاء الديانات السماوية، تعيش تحت الاحتلال الغاشم منذ اكثر من خمسين عاما. وبدلا من ان تكون عاصمة للاديان وملتقى للثقافات يتم تهويدها تدريجيا ضمن مشروع صهيوني متواصل منذ اكثر من مائة عام. وبرغم النداءات المتواصلة لتحريرها من الاحتلال، والقرارات الدولية التي تؤكد عدم شرعية ذلك الاحتلال، الا ان التواطؤ الدولي خصوصا الأمريكي مع المحتلين يحول دون انهاء الاحتلال الغاشم.
هذه المدينة كانت محور المؤتمر الدولي الثاني والثلاثين الذي عقد الاسبوع الماضي في طهران بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف تحت عنوان: «القدس محور وحدة الامة». كان واضحا ان حكومة الجمهورية الإسلامية حرصت على اظهار المؤتمر مدخلا لحقبة جديدة تتمحور فيها العلاقات بين المسلمين حول أسس دينية وسياسية في مقدمتها مدينة القدس التي تعبر عن ظلامتهم. وفي الوقت نفسه حرصت على اظهار امور اخرى. اولا ان الحصار الشامل الذي فرضه الرئيس الأمريكي عليها لم يؤثر على مشروعها السياسي خصوصا في بعده العقائدي الذي تعتبره من مقومات امنها القومي. ثانيا انها ما تزال قادرة على حشد مئات العلماء والسياسيين والمفكرين والنشطاء من كافة اصقاع العالم حول القضايا التي تعتبرها مصيرية، ومن بينها قضية فلسطين التي تعتبر القدس واحدا من عناوينها الأساسية.
مؤتمر الوحدة الإسلامية: ماذا يعني وما مضامينه الايديولوجية والسياسية؟ ذلك هو التساؤل الذي يستحق التوقف مليا لاستشراف مسارات الجمهورية الإسلامية المستقبلية. طهران هذا العام تكتنز مشاعر متباينة. ففي الوقت الذي تشعر فيه بالغبن الناجم عن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الذي وقعته مع الدول الست الكبرى ضمن صيغة اصطلح على تسميتها (5+1) وادى لفرض حصار هو الاكبر في تاريخ العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، فانها تشعر بانجازات ضخمة، عقائدية وسياسية. فتراجع المشروع الطائفي الذي مزق امة العرب والمسلمين طوال العقد الاخير يعني استعادة مشروع «الوحدة الإسلامية» الذي طرحته طهران منذ السنوات الاولى بعد قيام نظامها الإسلامي. فاذا كان هناك من العلماء من تردد في حضور المؤتمر في السنوات الاخيرة بسبب رواج المشروع الطائفي، فان عدد الذين حضروا المؤتمر الاخير يؤكد ان العقدة المذهبية لم تمنع اغلب المدعوين من الحضور. وفي البعد السياسي وجدت إيران هذا العام في الحاضرين تناغما مع سياساتها الاقليمية خصوصا في تعاطيها مع العلاقات مع دول كالسعودية والامارات والبحرين، وهي الدول المشاركة في الحرب على اليمن. وجاءت قضية قتل الاعلامي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، ليبعد الانظار عنها ويسلطها على الرياض التي تشعر بحصار سياسي ودبلوماسي واخلاقي بعد انكشاف مدى ما يمكن ان تذهب اليه عند الخصومة. وتشعر ايضا ان اهتمامها بالحرب على اليمن قد يحقق ثمارا كبيرة للطرفين اليمني والإيراني. ويؤكد حضور وفد يمني كبير لمؤتمر الوحدة قدرة الجمهورية الإسلامية على استقطاب قطاعات يمنية واسعة ادلت بدلوها في السجالات الفكرية والسياسية التي دارت خلال المؤتمر.
من يتحدث للمسؤولين الإيرانيين يكتشف مدى عمق المشروع الوحدوي لديهم، فهم حريصون على توفير ظروف مناسبة للوفود الاجنبية مع تجنب القضايا التي تؤدي الى التماس المذهبي في بعض الاحيان. لذلك لم تواجه مشاكل كبرى في توجيه المشاركات نحو محوري وحدة الامة وتحرير فلسطين. فرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، اسماعيل هنية، الذي شارك عبر الاقمار الصناعية بعد ان رفضت السلطات المصرية السماح له بالسفر الى إيران من خلال اراضيها، أكد أن المؤتمر ينعقد في إيران «التي تدعم المقاومة وتتجاوز الخطوط الحمر في دعمها لفلسطين بشكل خاص». وقال ان الشعب الفلسطيني «لن يسمح لصفقة القرن أن تمر»، ولم يتردد رئيس الوزراء الاردني السابق، طاهر المصري، في الاستفادة من منبر المؤتمر لتوجيه نداء للمسلمين بالتحرك لمنع تهويد القدس وحماية المسجد الاقصى قبل فوات الاوان.
فالرئيس حسن روحاني قال ان «الاعتقاد بأن نقل مبنى من مكان لآخر سيضيع القدس منّا خاطئ وواجبنا الاتحاد والوحدة». وكان واضحا في حديثه عن فلسطين انه يستخدم خطابا بعيدا عن الخطاب الاصلاحي المعروف عنه، فقد تحدث عن «الغدة السرطانية» لوصف «اسرائيل» واستخدم لغة تنطوي على التحدي حين تطرق للحصار الأمريكي على بلاده بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. وحتى عندما تحدث عن حرب اليمن استخدم لغة ثورية غير معهودة من مسؤولي حكومته. لقد كان متناغما مع خطاب آية الله السيد علي خامنئي الذي استقبل ضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية وخطب فيهم حول ذكرى ولادة رسول الله وقضايا الامة.
وامام المئات من الحاضرين ومن بينهم سفراء ووزراء إيرانيون واجانب تطرق لبعض القضايا الساخنة قائلا: لماذا يجب أن يواكب اليوم الحُكامُ الإسلاميون أمريكا في حركتين إجراميتين جرحتا الشعور العام في منطقتنا للأسف؛ إحداها الحركة الإجرامية التي تستهدف الفلسطينيين وتستهدف قضية فلسطين المهمة، والثانية الحركة الإجرامية التي تستهدف اليمن؟ فهل توافقت القيادة الإيرانية على توحيد الخطاب؟ هل تحولت كلها نحو المشروع الثوري الذي اعتقد الكثيرون انه تراجع في السنوات الاخيرة. الامر المؤكد ان إيران تشعر بقدر من الرضا عن النفس حين ترى ان حلفاءها في المنطقة يحققون انجازات غير متوقعة. فلم يفت آية الله خامنئي التطرق للصراع العربي ـ الاسرائيلي ويشيد بانجازات مجموعات المقاومة اللبنانية والفلسطينية. وعبر عن فخره بما اعتبره «نصرا كبيرا» في المواجهة الاخيرة بين غزة وقوات الاحتلال الاسرائيلي، تلك المواجهة التي نجم عنها هدنة رفضها وزير دفاع العدو فاستقال من منصبه.
كيف تعيش إيران من الداخل في زمن الحصار؟ المؤتمر الثاني والثلاثون للوحدة الإسلامية كان احد تمظهرات العناد الإيراني الذي يرفض الانحناء امام الضغوط الأمريكية. فاختيار عنوان المؤتمر كان رسالة واضحة للادارة الأمريكية ذات شقين: الاول ان الجمهورية الإسلامية ما تزال ملتزمة بقضية القدس وترفض احتلالها او تهويدها، كما ترفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي، الثاني ان الحصار الاقتصادي لم يؤثر كثيرا على السياسة الخارجية الإيرانية. فمن الناحية الاخلاقية حققت إيران كسبا سياسيا ودبلوماسيا كبيرا بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي. فقد احدث ذلك الانسحاب غثيانا خصوصا لدى الدول الخمس الاخرى التي ساهمت في مفاوضات الاتفاق على مدى عشرة اعوام.
هذا لا يعني ان إيران لم تتأثر بذلك الحصار. فقد انخفضت مبيعاتها من النفط من ثلاثة ملايين الى اقل من مليون برميل يوميا. يضاف الى ذلك انها لا تستطيع استلام تلك العائدات بعد ان حظرت أمريكا على المصارف الدولية التعامل معها، وجمدت استخدام نظام «سويفت» للتحويلات المالية. وقد اضطر الكثير من المصانع لوقف العمل وحدثت اضطرابات سياسية في عدد من المدن الإيرانية في الشهورالاخيرة. كما تداعت عملتها كثيرا ولكنها استعادت بعض عافيتها مؤخرا. مع ذلك فهناك تململ في الشارع الإيراني بسبب ارتفاع الاسعار وهبوط العملة. ولكن المسؤولين يؤكدون قدرة الاقتصاد الإيراني على استيعاب الحصار وتضاؤل المدخول من العملة الصعبة، ويقولون ان اربعة عقود من الحصار المتواصل ساهمت في تصاعد القدرة على الاعتماد على النفس والعيش ضمن الامكانات المتاحة ضمن ما يطلقون عليه «الاقتصاد المقاوم».