عوامل تذويب هوية الأمة وسبل مواجهتها
الشيخ محمد علي التسخيري
المستشار الأعلى لقائد الثورة الإسلامية في العالم الإسلامي
و رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
متى ينطرح السؤال؟
عندما تهاجم أمّة ذات وعي وموقف من الكون والتاريخ والإنسان ولها إيديولوجيا حياتية مستوعبة ممّا ينتج تماسكاً هو من صميم فكرها وشخصيتها، فيراد لها أن تغرق في اللاأبالية، ويستهدف تماسكها، وعندما يتمّ العمل على فصل الواقع عن جذوره التاريخية العريقة ومبانيه العقائدية، وخصوصياته المحددة،
وعندما يخطط الأعداء كي يميتوا العقل الجمعي والثقافة العامة والترابط الشعوري والتناسق السلوكي،
وعندما يراد قهر الإرادة وتفتيت الوحدة وكسر المقاومة،
وعندما يُعمل على دفع أية أمّة للتردي في وهدة الحالة الفولكلورية والسطحية لينتج من ذلك إمّا التمجيد والنرجسية الفارغة أو التعصب والعنصرية (وفي كلتا الحالتين ستكون النتيجة هي التقهقر الهووي والتراجعية والتطرف فكراً وثقافة واجتماعياً كما يعبر الدكتور فتحي التريكي([1])،
نعم عندما يتآمر العدو على أمّة ما يبرز سؤال (الهوية) أو (الهوهوية) كما يعبر بعض الفلاسفة.
والهدف الواقعي هو معرفة حقيقة الأمة كما هي ومعرفة حدود هذه الحقيقة ومشخصاتها دونما إغراق في التعميم والنمطية بحيث تتحوّل إلى حقيقة سيّالة ووجود منفتح، ولا تفريط بمعالم الشخصية وتضييع لفرديتها وتشخّصها الذي يمنحها ما تمتاز به على غيرها.
ما هي الهوية على صعيد الأمة؟
يطرح الفلاسفة حقيقة لا ريب فيها هي أنّ المفاهيم الكلية تبقى ذهنية فإذا أريد لها أن تدخل عالم الوجود تشخّصت بحدودها وتعيّنت بمميزاتها الوجودية ولكنها على أي حال لها هويتها في المرحلتين وهي تنطرح في الإجابة على سؤال ما هي أو ما هو؟ بل لا يمكن أن نتحقق من كون هذا الذي وجد هو مصداق لذلك المفهوم إلا إذا كنا نعرف أبعاد المفهوم نفسه.
ولذا يكون السؤال ما هي أبعاد مفهومنا عن ماهية الأمة الإسلامية نظرياً؟ له الأسبقية على سؤال ما هو واقع هذه الأمة ومدى انسجامه مع الصورة النظرية؟
وما نتصوّره لهذه الأمة نظرياً يتأطّر بالإطار التالي:
أولاً: تجمّع بشري يؤمن بتمييز الإنسان عن سائر الموجودات الحية بخصائص فطرية لا تتوفر بمجموعها فيها هي:
أ ـ العقل بأحكامه النظرية والعملية، وقدرته على التخلّص من سيطرة الواقع الحسّي وتأثيراته من خلال إدراكاته المتخيّلة، والموهومة والمستنبطة بالإضافة لمحسوساته التي يتجاوزها لتكوين المفاهيم الكلية التي يسرح بينها ليعود إلى الواقع المحسوس ويدرسه ويلاحظ نقاط القوة والضعف فيه وليفترض صورة جديدة تتخلّص من نقاط الضعف وتحتفظ بنقاط القوة،وليرسم لنفسه خارطة توصله للصورة النموذج، وحينئذ تبدأ عملية التغيير من خلال دوافع العلة الغائية ولذا يمكن أن يمتاز الإنسان بكونه الحيوان المغيّر.
ب ـ الغرائز والميول، وهي دوافع عمياء تشاركه في بعضها الأحياء الأخرى ويختص هو بميول متعالية (كالشوق إلى الكمال وحب الاستطلاع والتدين وأمثال ذلك).
ج ـ الإرادة الحرة التي تقرّر الموقف بمسؤولية مهما اشتدّت الضغوط العقلية والعاطفية.
ثانياً: ويؤمن بالله تعالى خالقاً للكون مدبراً له وبكل صفاته الحسنى الجمالية والجلالية، وبالأنبياء والرسل وآخرهم الرسول الأكرم محمد ’ الذي جاء بالرسالة الخاتمة الخالدة قادة للتاريخ الإنساني ومبلغين لشرائع الله الهادية إلى مدارج الكمال، وبالقيامة معاداً لهذه المسيرة ممّا يعطيها هدفية ومعنى ولكل هذه المعتقدات فروع كثيرة تستفاد منها منطقياً.
ثالثاً: ويؤمن برسالة إسلامية تنظّم الحياة وتبني المجتمع وتربّى العقل والعواطف وتوجّه السلوك كله نحو الكمال وتتصف بالواقعية والأخلاقية والتوازن والمرونة والشمول والعدالة والوسطية إلى ما هناك من صفات منسجمة.
رابعاً: ويؤمن بضرورة المساهمة في المسيرة الحضارية الإنسانية وامتلاك دور طليعي فيها، عبر انفتاح على الحضارات والثقافات وتشجيع على التقدم، واتخاذ منهج حواري منطقي مع الآخر، وتعاون عالمي في كلّ ما يخدم الصالح الإنساني العام ويدفع الظلم والعدوان على الحقوق وينصر المستضعفين ويحقق السلام العادل.
موارد الحذر
وفي مجال تحديد الهوية يجب الحذر من الجوانب السلبية وأهمها:
أ ـ السقوط في مفهوم ذاتوي متعال، ونرجسية تصعيدية لا مبرّر لها، ونمطية تهدّد كلّ أنواع الحوار وتنظر لنفسها على أنّها نهاية التاريخ ومنتهى التقدّم تماماً كما نشهده عند الليبرالية الديمقراطية ومنظريها اليوم، فهم مهما اختلفوا في الوسائل، أهي الصراع أو التنافس، يتفقون على أنّ المسار الحضاري يجب أن تتجه بوصلته نحو (الليبرالية الديمقراطية) لا غير وحتى أولئك الذين يبدون مرونة في التعامل مع الآخر الإسلامي فهم يبقون على الهدف ويخففون من قسوة الوسائل.
إنّ الهوية الإسلامية رغم قيمها الثابتة الفطرية تفسح المجال للاجتهاد الإنساني أن يقدّم إبداعاته التفصيلية، وحكمته العملية التنظيمية الإبداعية، ورغبته الاجتماعية المتغيّرة.
ب ـ السقوط في هاوية التفريط بالقيم الإنسانية الثابتة، وهو مرض قاتل للحضارة يعصف بالقيم والعقل والمنطق والحقيقة والمعرفة، وهو تماماً ما سقطت فيه حالة ما بعد الحداثة الغربية.
إنّ الواقع الإنساني يحوي ثوابت قيمية هي سر انطباع أية مسيرة بشرية بالطابع الإنساني ومتغيّرات طبيعية من قبيل بعض علاقات الإنسان بأخيه الإنسان أو بالطبيعة وإذا كان التعامل مع القيم ثابتاً فإنّ التعامل مع الجانب المتغيّر يتّصف بطابع المرونة.
وعليه، فنحن ندعو للمرونة الواقعية ونرفض الميوعة المفرطة، يقول الأستاذ الشهيد الصدر:
<فالتحرك الضائع بدون مطلق تحرّك عشوائي كريشة في مهب الريح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها. وما من إبداع وعطاء في مسيرة الإنسان الكبرى على مرّ التاريخ إلا وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق، والالتحام معه في سير هادف> غير أنّ هذا الارتباط نفسه يواجه من ناحية أخرى الجانب الآخر من المشكلة، أي مشكلة الغلو في الانتماء بتحويل النسبي إلى مطلق وهي مشكلة تواجه الإنسان باستمرار إذ ينسج ولاءه لقضية لكي يمدّه هذا الولاء بالقدرة على الحركة ومواصلة السير، إلا أنّ هذا الولاء يتجمّد بالتدريج ويتجرد عن ظروفه النسبية التي كان صحيحاً ضمنها، وينتزع الذهن البشري منه مطلقاً لا حدّ له للاستجابة إلى مطالبه، وبالتعبير الديني يتحوّل إلى إله يعبد بدلاً من حاجة يستجاب لإشباعها([2]).
ويقول الأستاذ التريكي: <والفهم الموضوعي (لقضية الهوية في قبال الفهم الذاتوي) يحاول إقرار تناظر وتناسق بين الهوية والعقل في صبغته المنفتحة والكونية في الآن نفسه، وهو يأخذ بعين الاعتبار ثوابت الوجود ومتغيّراته ويفتح الوجود على الحياة بتغيّراتها ومفاجآتها ونضالها وتوتراتها، فالذات في هذا الفهم مؤسسة للعقل والوعي المتحرك>([3]).
السلوك الرشيد
ومن هنا فإنّ من اللازم علينا ـ ونحن نعمل على تلافي تهديد التنميط وتداعيات التفريط ـ الالتزام بسلوك متوازن رشيد ومن أنماطه ما يلي:
1 ـ أن تمتلك الأمة نظرة عالمية إنسانية تستمد فلسفتها من وحدة الفطرة ووحدة المسيرة وضرورة التعاون الدولي في نظام عادل يعطي كلّ ذي حق حقه ويحترم الخصوصيات الثقافية كما يحترم حقوق الإنسان وحرياته دونما اعتداء.
وحينئذ يجب التنبيه والحذر من الوقوع في حبائل هذه العولمة المجنونة التي تعتمد الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية على الآخرين، وهي في الواقع إعادة إنتاج لنظام الهيمنة الرأسمالية القديمة مع تغيير في الأسلوب والوسيلة.
إنّنا لا نستطيع أن نخطط لأية قضية حتى ولو كانت تبدو لأول وهلة داخلية بحتة ـ من قبيل قضايا التربية والإعلام والبيئة الداخلية وحركة الطاقة الداخلية والمسيرة الزراعية والتنمية العلمية، وحتى المناسبات والقناعات الفولكلورية ـ إلا إذا لاحظنا المسيرة العالمية للعولمة في كلّ هذه المجالات وإلاّ فسيكون تخطيطنا ناقصاً تواجهه موانع بعد ملاحظة الفضاء العولمي والنفوذ العميق لثقافة العولمة إلى كلّ مجالات حياتنا شئنا أم أبينا.
وتلك بنفسها مشكلة تضغط على أنماط تخطيطاتنا.
ثمّ أنّ مفهوم الدولة وقدرتها بدأ يهتزُّ بشدة بالتالي راح دور الضغط الخارجي، والمراقبة الكونية يزداد. وربما كان هذا ذا أثر ايجابي في مجال نفي الأساليب الديكتاتورية والقمعية وإدانة انتهاك حقوق الإنسان، إلاّ أنّنا نعلم كون العولمة لا تستخدم هذه العناوين البرّاقة إلاّ لتبرّر تدخّلها لتحقيق مصالحها الضيقة، فإذا رأت أنّ تدخّلها ينقلب على أهدافه المخفية تخلّت عنه، وهو بالضبط ما رأيناه من تخلّي أمريكا عن مشاريعها في الشرق الأوسط الكبير والجديد، بل وحتى عن عملائها الذين ثارت بوجههم الشعوب.
2 ـ أن تعتمد الأسلوب الوسطي المتوازن في مختلف تعاملاتها مع الواقع وتتجنّب الإفراط والتفريط، فكلاهما يعدُّ خروجاً عن الجادة المستقيمة. ويمكننا أن نؤكّد أنّهما إذا ركّزا على أي شيء أفسداه حتى العلم والدين والمعرفة فإذا أصيبت هذه الأمور بالإفراط مثلاً تحوّلت إلى مسارات خطيرة ومنزلقات واسعة.
3 ـ أن تجعل عملية الحوار مع الآخر الداخلي والخارجي منطقها قبل أي خطوة أخرى. وها هو القرآن يتحدّث لنا عن أساليب من الحوار جرت ويمكن أن تجري بين أطراف متنوّعة ويرسم لنا أحسن الطرق في الحوار حتى أنا لنعتقد أنّ في القرآن نظرية متكاملة للحوار المنطقي السليم. ويخطئ من يتصوّر أنّ الحوار لغة العاجزين، بل هو على العكس لغة الأقوياء في منطقهم، المطمئنين إلى أصالتهم، الواثقين من هويتهم، الموضوعيين في تعاملهم. نعم إذا أراد الآخرون استغلال الحوار لكسب الوقت وتنفيذ الخطط الجهنمية أو لبثّ الشبهات الممزّقة والظلم للوجدان الاجتماعي فإنّهم هم الذين يسدّون باب الحوار.
4 ـ أن تعتمد الأمة منهج التغيير المستمر بهدف الوصول إلى الأفضل طبعاً مع الاحتفاظ بالثوابت الإسلامية التي هي جزء من الهوية. وتعمل على تعبئة كلّ طاقاتها المادية والمعنوية للتخلّص من حالة التخلّف الاقتصادي والعلمي والاجتماعي والتقنين والتربوي والإعلامي وغير ذلك وليكن المنهج التغييري سمة عامة وفق ما أراده الإسلام كما أشرنا إلى ذلك.
إنّ التجديد حتى في أساليب الاستنباط الديني، والتحريك في عملية الوعي، يشكل منّة على الأمة كما تذكرة الروايات.
5 ـ أن تمتلك الأمة المناعة الكاملة ضد التآمر على هوّيتها التقنينية وثقافتها الاجتماعية من خلال التأثيرات التي تتركها احتكار المؤتمرات الدولية والجو الإعلامي من قبل قوى التآمر.
وهذا المعنى ينسحب على عملية التقنين والتشريع الثقافي والاجتماعي؛ فها نحن نشهد مؤتمرات التنمية والسكان والمرأة تسعى جاهدة لتعميم الثقافة الغربية والتصوّرات الاجتماعية المنحرفة باسم (الحقوق الجنسية) و(الحرية الفردية للمراهقين) وأمثال ذلك، مضمّنة ذلك في خانة حقوق الإنسان، وهي الباب الواسع الذي تنفذ منه العولمة إلى جميع المجالات.
كما أنّنا نشهد تدخُّل العولمة الإعلامية من خلال الجوّ الخانق للمعلومات المتدفّقة عبر مئات المحطات الفضائية والانترنت لتغير الحقائق، وتثبط الهمم وتبثُّ الشائعات وتمزّق الأواصر، وتغيّر التصوّرات وتشكك في القناعات وتخلق الحزازات. وهذه أمامنا المؤامرة الضخمة التي تعمل على أن يخطئ العالم الإسلامي عدوه الحقيقي ويتوجّه إلى أعداء وهميين، بعد تحريك الكوامن الطائفية والقومية والجغرافية والتاريخية فيه.
وعلى نفس الوتر نذكر بالمشكلة الأخلاقية التي جلبها لنا إعلام العولمة فجعل الرذيلة والعري والتحلّل وكلّ المحرمات مباحة معروضة في العلن أمام شبابنا وكلّ من تتحرّك فيهم الأهواء. والأنكي أنّه خلق له قواعد ومحطّات داخلية تصبُّ جميعها على الترابط الخلقي بين مجتمعاتنا فلا يستطيع الخيّرون أن يصلحوا الأمر.
وقد ابتلينا أخيراً بالتدخّلات العسكرية الامريكية تحت غطاء العولمة ومساهمة القوى العظمى في دفع الأخطار عن البشرية ومحاربة الارهاب، بعد أن سوقت لمفاهيم عولمية خطيرة من قبيل مفهوم (الحرب الاستباقية) وأمثال ذلك.
وكانت التدخّلات الخطيرة في افغانستان وسورية والعراق ولبنان، والقائمة ممتدة، بالاضافة للعدوان الصهيوني المستمر في تطبيق الأجندة الغربية الممتدة.
ولاريب أنّ العالم كله قد شهد ما تركته هذه التدخّلات من آثار ثقافية واجتماعية واقتصادية مدمرة عانت منها مجتمعاتنا كثيراً.
وربما كان من سخرية المسيرة اليوم أن نجد نظماً حاكمة تتذرع بالدفاع عن شخصية الأمة ووحدتها وصمودها في قبال العولمة بتشديد الرقابة وزيادة القيود على الحرية وتكميم الأفواه ونشر الاستبداد، فتكون بذلك من قبيل المستجير من الرمضاء بالنار. وما هي في الوقاع إلا ذريعة للتشبّث بالحكم والسلطة وقد توافقها دول العولمة؛ لأنّها تؤمّن لها نفوذها وهيمنتها وهو المقصد الأول في كلّ العملية العولمية.
6 ـ يجب أن تقوم الأمة بالنظر إلى المستقبل والعمل له دون الغرق في الطوباوية ودون أن تهمل تاريخها؛ لأنّه أيضاً جزء من هويتها والذي يجب توظيفه لصالح التغيير التكاملي بدلاً من البقاء في أسر أحداثه المتلاطمة. إنّه يجب أن يكون عبرة للاعتبار لاوحدة للتخدير وأحياناً للاختلاف المرير.
إنّ الطوباوية في النظرة المستقبلية مثلها مثل الذاتية التخديرية في النظرة التاريخية تضرُّ بالمسيرة أيما اضرار.
7 ـ يجب أن تمتلك الأمة موقف الأمل بالله مع الاطمئنان ببقاء السنن الكونية.
فإنّه على ضوء إيمان المسلم بطلاقة المشيئة الإلهية ينشدّ بالله تعالى في حالاته، ويتعلّق بفضله، ولا ييأس من روح الله تعالى في أشدّ حالات الحرج. ومهما استعصت الظروف وبدا له أنّها لن تتفرج فهو معتقد بقدرة الله على تغييرها، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فهو يعمل على سلوك السبيل الطبيعي الذي يحقّق الهدف، نظراً لأنّه يعتقد بأنّ الله <أبى أن تجري الأمور إلاّ بالاسباب> وهاتان الجهتان: عدم اليأس، وسلوك السبيل الطبيعي، تشكّلان عنصرين مهمّين تتوازن بهما الشخصية الإنسانية. فعدم اليأس يبقى الدافع الأصيل ويحافظ على رباطة الجأش، ولا يدع القوى تتفتّت. وسلوك السبيل يرتفع بالإنسان عن العيش في الخيال، ويجعل منه إنساناً واقعياً يتعامل مع الواقع كما يتطلّبه الواقع.
8 ـ على الأمة أن توازن بين موقف التوكّل على الله وموقف الثقة بالنفس.
ولعلّ هذا النوع من التوازن يرتبط كلّ الارتباط بما قبله، فإنّ اعتقاد المسلم بالإرادة الإلهية المطلقة يجعله يوكل أموره إلى الله، ويعتقد أنّه لايملك من أمره شيئاً إلا بإذن الله تعالى فلا هداية إلا من الله تعالى، ولا توفيق إلا به تعالى، ممّا يركّز النظر عليه في كلّ تأثير... إلا أنّ هذا التوكّل على الله لا يفقده الثقة بنفسه وبقدرته على التغيير، بل يمنحه أعظم الثقة بنفسه، ذلك لأنّه يتصور أنّ الله تعالى منحه سلطان التغيير، وجعله خليفته على الأرض، يعمرها وينشئ فيها حضارة السماء أي الحضارة التي تشكّل تعاليم السماء روحها، وأوكل إليه عملية التغيير الكبير.
فهو إذن إنسان يعقل ويتوكّل، يغيّر ونظره مركّز على السماء، يبني وهو يعلم أنّ المدد الحقيقي من الله تعالى. وما أروع الثقة المنبعثة في النفس التي تتوكّل على الله تعالى خالق الكون فتقتحم الصعاب وتقدّم التضحيات.
9 ـ وعليها أن تقف موقف العلوِّ على المشاكل التاريخية مع تقدير دور كلّ عامل.
فبعد إيمان المسلم بأنّ العوامل المحركة للتاريخ مختلفة تتراوح بين القوانين التكوينية المحركة وغير المحسوسة إلى الفطرة بغرائزها، وفوق كلّ ذلك الإرادة الإنسانية التي تهيئ للإنسان مجال التحكُّم في مسيره... يكون قد علا على المشاكل التاريخية، بعد أن علم بأنّ له اختيار تنظيم حياته، وبيده صنع حضارته، فليست المشكلة التاريخية مفروضة عليه من الأعلى بحيث لايمكنه أن يتحرّك تجاهها، وإنما يمكنه ـ متى لاحظ عدم صلاح واقعه ـ أن يغيّره.
وهذا التصوّر يعطيه حركية دائمة على التطوير والتقدم التكنيكي، كما تعمل على التكامل المعنوي والفكري، كلّ ذلك ضمن تخطيط سماوي رائد يوضح له ما يجب أن يريده ويرشده لئلا يضلّ، ويعين له الهدف الذي يجب أن يسوق التغيير باتجاهه.
ومن هنا فهو ليس عبداً لعامل تاريخي معين، ولا لكل العوامل، بل كلّ العوامل التاريخية مسخرة لصالحه، وكل القوانين التكوينية المحسوس منها المحسوس قنّنت لصالحه، ويستطيع أن يستفيد منها في صنع حضارته ورقيه، تماماً كما يستفيد من قوانين: الضغط، والإزاحة، والجاذبية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو يحسب لكلّ عامل حسابه على ضوء التشريع الإلهي، فلا ينسى مثلاً دور العامل الاقتصادي ولا دور العامل الجغرافي أو العامل الغريزي الجنسي وغير ذلك، وهو يستهدف التشريع ليستثمر هذه العوامل لصالحه.
فهو هنا ـ إذن ـ يوازن تقدير عمل العوامل والعلوّ على جميع المشاكل التاريخية، فيكون واقعياً في سلوكه.
10 ـ وعلى الأمة أن تقف موقف الدقة في اختيار سبيل الخير مع الحذر من سبل الشر وذلك، لأنّه لما كانت السبل كثيرة، والإغواءات متوفرة، والشيطان يقعد للإنسان بكل مرصد فإنّ الإنسان المسلم يصمم على خوض تجربة الحياة.. ويتأكد بين الحين والآخر من صحة اختياره متسلحاً بسلاح الوعي مستمعاً لإرشادات الوحي، متجنّباً مزالق الضلال، مطمئناً بأنّه ليس للشيطان عليه أي سلطان، وأن سعادته تكمن في رجمه ورجم كلّ ما يمثله. وتـأتي التعاليم الإسلامية فتذكره بطرق الخير دائماً وأهمّها العبادات التي تشدّه شدّاً بالله تعالى، وتركّز على أن ينفي الشر عن حياته، وهذا ما يبدو بوضوح في رجم الجمرات مثلاً.
وعليها بالتالي أن تقف موقف الخوف والرجاء.
ويكاد هذا النمط من التوازن يشكّل معلماً بارزاً من معالم الشخصية المسلمة.
فعن الصادق(ع) أنه قال: <كان أبي يقول: ليس من عبد مؤمن، إلا وفي قلبه نوران، نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا>([4]).
فالرجاء العظيم برحمة الله تعالى يدفع الإنسان المسلم نحو الحياة ويفتح قلبه للمستقبل، والخوف العظيم من عقابه يدفعه لأن يحقق مقتضيات الرحمة الإلهية.
ويرتفع مقياس الخوف والرجاء كلما تعمقا في النفس الإنسانية وتجلّت لديها المعقولات فقربت من عالم الحس ومن ثمّ انعكست على السلوك الخارجي.
كما يقول الإمام الصادق (ع): <لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولايكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو>([5])
والملاحظ هنا ـ كما لاحظ ذلك بعض الكتّاب([6]) ـ أنّ الإسلام قبل أن يستفيد من خاصيتي الخوف والرجاء والتأثير بهما في النفس الإنسانية، لجأ إلى توجيههما الوجهة الصحيحة، فنفى كلّ متعلقاتهما الباطلة التي تحرف النفس عن الهدف، بل وتشكّل مصدراً للقلق الممزّق للنفس الإنسانية، المميّع لكل تماسك وتوازن فيها، وهو الداء الذي ابتلي به الماديون ففقدوا توازنهم الروحي وعاشوا مع الخوف حتى من الأمور الوهمية.
نعم، نفى الإسلام تعلُّق الخوف بأمور لا ينبغي الخوف منها، إلا في حدود الخوف من الأمر الصحيح. كما نفى الرجاء ولم يسمح له أن يتعلّق إلا في حدود الرجاء للأمر الذي ينبغي أن يرجى.
وبتعبير آخر: إنّ الخوف الحقيقي يجب أن يكون من عذاب الله وغضبه، والرجاء الحقيقي يكون لرضا الله ورحمته، فكل خوف أو رجاء لا يؤطّره هذان الأمران لا قيمة له في الحساب القرآني ويجب أن ينتفي من حياة الإنسان؛ لأنّه مصدر قلق بعد أن تعلّق بأمور غير منضبطة بل وخرافية أحياناً.
الصحوة الإسلامية الحاضرة ودور العلماء
ان ما نشهده اليوم على مستوى العالم الإسلامي عموماً وعلى صعيد العالم العربي بالخصوص يشكل بلاريب صحوة إسلامية رائعة حيث استعادت الشعوب وعيها بدورها الأصيل في صنع مستقبلها ورفض تحكم الطغاة في مصيرها وربطها بعجلة المصالح الغربية والصهيونية العالمية من جهة ومن جهة اخرى ادركت دورها الذي اراده الله لها باعتبارها أمة شاهدة على الحضارة حيث قال تعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ([7]) والملاحظ ان الاية تتحدث بهذه الروح العالمية في وقت يحاصر فيه الإسلام من قبل كل القوى المعادية.
إن كل المؤشرات على الساحة تؤكد على هوية هذه الصحوة، فالشعارات إسلامية والمنطلقات هي محال صلوات الجمعة والانتخابات تصب في مصلحة الإسلاميين.
وهنا ينبغي ان نذكر بدور العلماء الواعين في قيادة هذه الحركة التغييرية واعطائها المناعة الكاملة ضد كل عمليات التسلل والخيانة والانحراف، وترشيدها باستمرار لتصل إلى الهدف المنشود مختارة لسبل الخير متوكلة على الله.
ان الصحوة الإسلامية اليوم هي حالة طبيعية تعيشها الأمة رافضة كل مظاهر التخلف والانحراف والاستبداد والتبعية ومن هنا ينبغي لكل العلماء في العالم الإسلامي ان يقوموا بواجبهم في ترشيد الصحوة في كل مكان وتقويتها لكي تصمد في وجه مؤامرات اعداء الأمة ولتبقى على الخط الصحيح بعيدة عن الإفراط والتفريط محافظة على قوتها وزخمها وإصالتها.
كما ويجب ان يسعى العلماء إلى تطوير الوضع المعاصر للأمة إلى الحد الذي يحقق الصورة التي رسمها القرآن الكريم لها وعمل على تجسيدها رسول الله(ص) من حيث الاحساس بالاخوة الدينية، والتعاون على البر والتقوى والوقوف صفاً واحداً أمام التحديات والتواصي بالحق والصبر والابتعاد عن التفرق والتنازع وكل ما يؤدي إلى وهن المسلمين وفشلهم.
ومن اللازم ان يقوم العلماء بواجبهم في توعية المسلمين ليشخصوا عدوّهم المتمثل بالاستكبار العالمي والصهيونية الحاقدة وكل قوى الطاغوت بشتى اشكاله وبالتالي يجب أن يتحوّل التهديد الشيطاني إلى فرصة لاستعادة الأمة خصائصها وتقوية ايمانها بربها وثقتها بالنصر.
واخيراً؛
يجب توعية الجماهير الإسلامية بواجباتها تجاه بعضها البعض ولزوم اداء الحقوق وتحقيق التكافل الاقتصادي والتلاحم الاجتماعي والدفاع عن المقدسات والجهاد الواعي صفاً واحداً ضد اعداء الأمة.
والله ولي التوفيق
)[1]( الحداثة وما بعد الحداثة ص195.
)[2]( الفتاوى الواضحة ص753.
)[3]( الحداثة وما بعد الحداثة ص 201.
)[4]( الوسائل ج1، ص96.
)[5]( الوسائل ج 11، ص17.
)[6]( انظر: منهج التربية الإسلامية، ص157.
)[7]( البقرة 143.
ارسال نظر