ينشر موقع KHAMENEI.IR مقالاً للخبير في الشأن الفلسطيني محسن فايضي حول سبب صمود أهالي غزّة مقابل وحشيّة الصهاينة ومقاومتهم الجماعيّة والرواية الحقيقيّة بشأن عمليّة «طوفان الأقصى» إضافة إلى دور الإيمان والجهاد والقرآن في مشهد الصّمود الذي يعرضه الفلسطينيّون للعالم ومدى تأثير هذا الصّمود في جعل شعب فلسطين رمزاً للاستقامة.

بعد بلوغ عدد الشهداء والمفقودين في الحرب على غزّة أكثر من ثلاثين ألفاً خلال 110 أيام ضمن نطاق غزّة التي تبلغ 360 كيلومتراً، إلى جانب ارتكاب الجرائم وفرض الحصار، جعل صمود الشعب الفلسطيني جميع من في العالم يصابون بالحيرة والذّهول. كأنّ الجميع كانوا يبحثون عن الإجابة عن سؤال واحد: أيّ منطق وهدف وسبب يجعل 2.3 مليون يصمدون ويدافعون عن عمليّة «طوفان الأقصى» ويواصلون إعرابهم عن استعدادهم لتقديم المزيد من التضحيات؟

أثبتت التجارب التاريخيّة الكثيرة خلال القرن الأخير أنّ بعض المجتمعات تراجعت أمام الجرائم والإرهاب رغم اعتقادها بكونها محقّة، أو أنّها جزءٌ صغيرٌ من ذاك المجتمع أبدى استعداداً للاستقامة وخوض المواجهة. لكن ما يحدث في قطاع غزّة يُجسّد صمود شعب بأكمله، ومن أجل الردّ على هذا السؤال لا بدّ من عرض بضعة أمور.

«روايتنا عن طوفان الأقصى»[1]

إنّ أوّل سبب لصمود شعب فلسطين هو التجربة التاريخيّة. لقد اكتسب الشعب الفلسطيني وقطاع غزّة، على وجه الخصوص، تجربةً تاريخيّة خلال الأعوام السبعين وحقّق نضجاً تاريخيّاً. فتجارب الحكم المتنوعّة بدءاً من بريطانيا، والكيان الصهيوني، والسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة و«حماس» إلى جانب المعاهدات والحروب المتنوّعة جعلتهم يكوّنون خلفيّة تاريخيّة وفهماً للوقائع والأحداث. هي تجربة تحوّلت إلى جزء من إيمان الشعب الفلسطينيّ أيضاً.

كانت «طوفان الأقصى» ردّ فعل على أكثر من مئة عام من الاستعمار البريطاني والصهيوني لشعب فلسطين العريق الذي يحمل هويّة عربيّة وإسلاميّة. لقد بلغ شعب فلسطين في خضمّ تجربته التاريخيّة هذه النقطة، وهي أنّ الحؤول دون فقدانه أرضه وهويّته وقيمه لا يتحقّق إلا عبر مسارٍ واحد هو إطلاق الطوفان.

لم تبدأ معركة الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال والاستعمار في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بل إنّ الاحتلال بدأ قبل ذلك بمئة وخمسة أعوام، فهم قضوا 30 عاماً من الاستعمار البريطاني و75 من احتلال الكيان الصهيوني. كانت «طوفان الأقصى» خطوة ضروريّة وردّاً طبيعيّاً في مقابل مشاريع الكيان الصهيوني الرامية إلى إنهاء قضيّة فلسطين، كما كانت خطوة طبيعيّة ضمن إطار التحرّر من الاحتلال وتأسيس دولة فلسطين المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف.

قال الإمام الخامنئي في وقت سابق عن هذا: «كان سلوك هذا الكيان الظالم على هذا النحو: لم يرحم النساء والرجال، ولم يرحم الأطفال والشيوخ الفلسطينيين، وهتك حرمة المسجد الأقصى وأفلت المستوطنين مثل الكلاب المسعورة ليتعرضوا للشعب الفلسطيني، وسحق المصلين ركلاً تحت الأرجل. حسناً ماذا يفعل أيّ شعب مقابل هذا الظلم والإجرام كله؟ ما رد الفعل الذي يُظهره شعبٌ غيور وعريق أمام هذا الظلم كله؟ من الواضح طبعاً أنه سيفجّر الطوفان».

الإيمان والجهاد

العنصر الآخر الذي يساعد على فهم صمود الشعب الفلسطيني، وهو أهمّ العناصر أيضاً ويمكن لمسه لدى الشعب المحاصر في قطاع غزّة، عنصر القوة والاعتقاد، أي الإيمان المنبثق على مدى قرون طويلة عاشها هذا الشعب من المعارف الإسلاميّة، والقرآن، وسيادة الفكر الإسلامي هذه المنطقة خلال العقدين الأخيرين، وحضور كلمة «الجهاد» المفتاحيّة في المجتمع الغزيّ.

وقفت فلسطين بصلابة وإرادة، لأنّ أمثال الشيخ أحمد ياسين شرحوا على مدى عقود – إلى جانب التجربة التاريخية التي عاشها المجتمع وجرى التطرّق إليها – ماهيّة الجهاد والاستقامة الإسلاميّة، وعرضوا أيضاً النتيجة المثمرة لهذا المسار واستقاموا عليه وثبتوا وتمسّكوا به.

منح نجاح الحركات الجهاديّة والإسلاميّة من قبيل «الجهاد الإسلامي في فلسطين» و«حركة المقاومة الإسلاميّة» الفلسطينيّة (حماس) هذه الفرصة للأمّة الفلسطينيّة وسكان قطاع غزّة، أي أن يطبّقوا معتقداتهم الإسلاميّة ويتذوّقوا الطعم العذب والحلو للعزّة والمقاومة في وجه الفكر الخاضع والمستسلم الذي ينادي بالتراجع أملاً في التقليل من الجرائم، والحصول على الحقوق. هذه العزّة أدّت إلى صحوة المجتمعات العالميّة وتبدّل أجواء الرأي العام العالمي، فلاستقامة الشعب الفلسطيني وإيمانه قيمة تتخطّى أرض فلسطين التاريخيّة.

يؤكّد قائد الثورة الإسلاميّة تسليط الضوء على قوّة الإيمان وكذلك الصبر والصمود لدى أهالي غزّة، فيقول: «ليس الميدان ميدان غزّة و"إسرائيل"؛ إنّه ميدان الحقّ والباطل. الميدان ميدانُ الاستكبار والإيمان: في جانبٍ قوّة الإيمان وفي الطرف الآخر قوّة الاستكبار. طبعاً تبرز قوّة الاستكبار بالضغوط العسكريّة والقصف وارتكاب الجرائم والفجائع، [لكن] قوّة الإيمان ستتفوّق على هذه كلّها، بتوفيق من الله... استطاع أهالي غزّة بصبرهم تحريك الضمير البشريّ... ففي هذه الدول الغربيّة... يتوافد الناس بحشود غفيرة إلى الشوارع ضدّ "إسرائيل" ويُطلقون في عدد من الحالات الشعارات ضدّ أمريكا. لقد أريق ماء وجه هؤلاء».

«القرآن» من تجلّيات الإيمان

من النماذج لتبلور الإيمان لدى أهالي قطاع غزّة استخدامهم آيات القرآن في خطابات المقاومة وبياناتها، ونشر الآلاف من المقاطع المصوّرة والمشاهد لتكرار الشعب الفلسطيني آيات القرآن والاستعانة به عند تعرّضهم للقصف والجرائم... هذا ما شدّ انتباه سكّان العالم أجمع إلى القرآن وآياته، والقدرة التي يشتمل عليها هذا الكتاب الإلهي.

يطرح قائد الثورة الإسلاميّة هذه القضيّة خلال لقاء مع أئمّة الجمعة في إيران فيقول: «هذه هي خصوصيّة الصّبر والتوكّل. لقد روّج أهالي غزّة الإسلام بصمودهم. في أرجاء العالم وأكنافه، يسعى الباحثون للعثور على هذا العامل الذي يجعل المناضل الفلسطينيّ يصمد كذلك في الميدان: ما هذا الإسلام؟ لقد عرّفوا الإسلام وقدّموه، وجعلوا القرآن محبوباً في أنظار كثيرين» (16/1/2024).

الخلاصة

علّمت مقاومة فلسطين وشعبها العالمين الإسلامي والعربي أنّ السبيل الوحيد الواضح والمحفوف بالأمل والناجح أمام الشعوب التي تواجه العالم المتغطرس هو الإيمان والاستقامة والاعتقاد بـالقرآن المجيد. لقد استفادت الأمّة الفلسطينيّة من تجربتها التاريخيّة وهويّتها وإيمانها الاجتماعي بالإسلام والمقاومة، فجعلت العدوّ يعاني من الحيرة والضياع حتى الآن.

«هؤلاء النّاس صبروا للحق والإنصاف، وعُرض بعض المشاهد من ذلك عبر وسائل الإعلام في العالم وبلادنا: يُستشهد ابنه فيَحمدُ الله، ويُستشهد ابنه فيقول: فداء لفلسطين، والفتى الجريح يشكر الله ويتلو آيات من القرآن. صبر هؤلاء النّاس مهمٌّ للغاية. أراد العدو أن يُجبر هؤلاء على الاستسلام... لكنهم لم يستسلموا. هذه نقطة مهمة للغاية».

[1] «هذه روايتنا: لماذا طوفان الأقصى» عنوان مدوّنة نشرها المكتب الإعلامي لـ«حركة المقاومة الإسلاميّة في فلسطين» (حماس) في 21/1/2024.