وهكذا لفظة «النار» وضعت حينما وضعت، وكان الملحوظ هي نيران الدنيا، لكن لا خصوصيّة للدنيويّة في أصل اللحاظ.. ومن ثَمَّ يشمل نيران الآخرة، نظراً في صميم اللحاظ العامّ. إذن فإطلاق لفظة النور على نور الأنوار الخالص الصفاء، أقرب إلى حقيقة الموضوع له من إطلاقه على الأنوار المتكدّرة.. حيث المعنى كلّما خلص من الشوائب والأكدار الأجانب كان إلى الحقيقة أقرب، وإطلاق اللفظ عليه أولى. بل يمكن القول بأنّ لفظة النور إذا كانت موضوعة للظاهر بذاته المظهر لغيره، فإطلاقها على غير الذات المقدّسة وإن كان مجازاً عند قاصري العقول.. لكنّه عند أرباب العقول الكبيرة المؤيّدة، وأصحاب المعارف العالية، حقيقة.. وهكذا جميع الألفاظ التي وضعت للمعاني الكماليّة، والتي كان مورد صدقها الأتمّ هو ذات الجمال والكمال.. وعليه فلفظتا «الرحمان» و«الرحيم» حيث وضعتا لمعنى كماليّ فائق.. فإطلاقهما على الذات المقدّسة، بنفس هذا اللحاظ، حقيقة بلا ريب»[326]. تلك دلائل أهل الكشف والشهود; تبريراً لموقفهم في إنكار وجود المجاز في القرآن! لكنّ الذي دعا بهم إلى هذا الرفض الباتّ هو زعم أنّ التجوّز في الكلام يستدعي نفي الحقيقة رأساً، ليكون المجاز وَهْم تخييل، الأمر الذي يتحاشاه كلام الحكيم. لكنّه خلط بين مصطلحين في المعنيّ بالحقيقة، التي هي عند أهل الفلسفة: هو الموجود في العين.. وعند علماء البيان: هو المعنى الأصل الموضوع له. فقولهم في المجاز: إنّه يجوز سلب الحقيقة عنه، يعني: سلب المعنى الموضوع له الأصل، كما في قولنا: رأيتُ أسداً يرمي.. أي رجلا شهماً شجاعاً يرمي النبال،