وهذا أمير مصر السري بن الحكم، فقد ألحّ عليها إلحاحاً شديداً في أن تنزل في دار له نزل عنها لها، فبعد لأي وجهد قبلت أن تنزل في تلك الدار التي وهبها إليها، وقد سرّه قبولها، وحمد الله تعالى على ذلك[357]، فهي من آل بيت لايرضى ذووه أن يكون لأحد غير الله تعالى له عليهم نعمة ولا منّة; شمماً وإباء نفس. وهذا هو الأمير الذي بعث اليها بمائة ألف درهم، فلم تشأ أن تبيتها أو تدخرها، بل وزّعتها دون أن تبقي لها منها درهماً. وكانت السيدة نفيسة رضي الله عنها كثيرة البرّ والمواساة، عطوفة رحيمة، تحنو على القوم وتتّحد بهم، فتؤويهم إلى ظلّ رحمتها، وتمهّد لهم مهاد رأفتها. ولم يكن عطفها على ذوي قرباها بأقلّ أثراً من ذلك، فكثيراً ما نالهم برّها وشملهم خيرها. فهذه بنت أخيها السيدة زينب قد لاقت من عمّتها من الحنان والرأفة والإحسان، ما جعلها تخلص الودّ اليها، وتتفانى في خدمتها، وتقوم لها بما تحتاجه من أمورها، فإنّ عمتها ملكت قلبها ببرّها وعطفها، حتّى وفت لها أربعين سنة، تنشط لخدمتها، وتسهر على حاجتها، دون سأم أو ملل[358]. وكذلك أخلصت لها خادمتها «جوهرة» لما لمسته من عطف وحنان، فعاشت في كنفها مسرورة، تفديها بنفسها، وتسارع تلبية ندائها، وقضاء حاجتها. وهؤلاء جيرانها وقد عرفوا برّها وعطفها، فكانوا يودّونها ويثقون بها، حتى أولئك الذين كانوا يخالفونها في دينها. فهذه جارتها اليهودية لم تأمن على وحيدتها غير الشريفة السيدة نفيسة، بالرغم من وجود جمهرة من اليهود أبناء شيعتها يجاورونها، غير أنّها لم تر فيهم أحداً موضع ثقتها فتودع عنده فلذة كبدها إلى أن تعود من حمامها، فلم تجد غير تلك الأمينة العطوفة، فتركتها عندها، فنالت من بركتها ممّا سيأتي في حينه.