وأمّا ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة، فلا ضير فيه بعد توقّف إحياء الإنسانية على تحميل الحقّ المشروع على عدّة من الأفراد بعد البيان وإقامة الحجّة البالغة عليهم. وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول، فإنّ المتمرِّد المتخلِّف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها، ثمّ يحمل عليها بأيّ وسيلة أمكنت ولو انجرَّ إلى القتال حتّى يطيع وينقاد طوعاً أو كرهاً. على أنّ الكره إنّما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثمّ إنّ التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعاً. وأمّا ما ذكروه من أنّ سائر الأنبياء جروا على مجرّد الدعوة والهداية فقط، فالتاريخ الموجود من حياتهم يدلّ على عدم اتّساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح (عليهما السلام)، فقد أحاط بهم القهر والسلطنة آنذاك من كلّ جانب، وكذلك كان عيسى (عليه السلام) أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة، وإنّما انتشرت دعوته وقبلت حجّته في زمان طروّ النسخ على شريعته، وكان ذلك أيّام طلوع الإسلام. على أنّ جمعاً من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصّه التوراة، والقرآن الكريم يذكر طرفاً منه، قال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبّ الصابرين وما كان قولهم إلاّ أن قالوا ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) [32]، وقال تعالى ـ يقصّ دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقةـ: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) [33] إلى أن قال تعالى: (قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاْذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون) [34]، وقال تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل