ليس في أصناف العلومِ الخفية والأمورِ الغامضة الدقيقة أعجبُ طريقاً في الخفاء من هذا . وإنك لَتُتْعِبُ في الشيء نفسَكَ وتكدُّ فيه فكرَكَ وتجهد فيه كلَّ جَهدك . حتى إِذا قلتَ : قد قَتَلْتُه علماً وأحكمتُه فهماً كنتَ الذي لا يزالُ يتراءى لك فيه شُبهةٌ ويعرِضُ فيه شكٌّ . كما قال أبو نواس - الطويل - : .
( أَلا لا أرى مثلَ امترائيَ في رَسْمِ ... تَغَصُّ به عَيني ويلفِظُه وَهْمي ) .
( أتَتْ صورُ الأشياء بَيني وبينهُ ... فظنِّي كلا ظن وعِلْمي كلا علمِ ) .
وإنك لتنظرُ في البيتِ دهراً طويلاً وتفسِّره ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمْه . ثم يبدو لك فيه أمرٌ خفيٌّ لم تكن قد علمتَه مثالُ ذلك بيتُ المتنبي - الكامل - : .
( عَجَباً لهُ حَفِظَ العِنانَ بأُنْمُلٍ ... ما حِفْظُها الأشياءَ مِن عاداتِها ) .
مضى الدّهرُ - الطويل - ُ ونحن نقرؤه فلا ننكِرُ منه شيئاً ولا يقعُ لنا أن فيه خطأ ثم بانَ بأَخرَةٍ أنه قد أخطأ . وذلك أنه كان ينبغي أن يقولَ : " ما حفظُ الأشياءِ من عاداتِها " فيضيفَ المَصدرَ إلى المفعولِ فلا يذكرُ الفاعلَ ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحِفظَ عن أنامله جُملةً وأنه يزعم أنه لا يكونُ منها أصلاً وإضافتُه الحفظَ إلى ضميرِها في قوله : ما حفظها الأشياءَ يقتضي أن يكون قد أثبتَ لها حِفظاً .
ونظيرُ هذا أنك تقول : " ليس الخروجُ في مثلِ هذا الوقتِ من عادتي " ولا تقولُ : " ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي " . وكذلك تقولُ : " ليس ذمُّ الناسِ من شأني " ولا تقولُ : " ليس ذمِّي الناسَ من شأني " . لأن ذلك يوجبُ إثباتَ الذمِّ ووجوده منك .
ولا يصحُّ قياسُ المصدر في هذا على الفعْل أعني لا ينبغي أن يُظَنَّ أنه كما يجوز أن