إناثاً ) . فقد تَرى في التفسير أنَّ جعلَ يكون بمعنى سمَّى . وعلى ذاك فلا شُبهةَ في أنْ ليس المعنى على مجرد التسمية ولكنْ على الحقيقة التي وصفتُها لك . وذاك أنهم أثبتوا للملائكة صفةَ الإِناث واعتقدوا وجودَها فيهم . وعن هذا الاعتقاد صَدَرَ عنهم ما صَدَرَ من الاسم أعني إطلاقَ اسمِ البنات . وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإِناث ولفظَ البناتَ من غير اعتقادِ معنى وإثبات صفة . هذا محال . أَوَلا ترى إلى قولهِ تعالى : ( أَشَهِدوا خلقَهم سَتُكتبُ شَهادتُهُم ويُسْأَلونَ ) فلو كانوا لم يزيدوا على إجراءِ الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثباتَ صفةٍ لما قال الله تعالى : ( أشَهدوا خلْقَهم ) . هذا ولو كانوا لم يقصِدوا إثباتَ صفةٍ ولم يكنْ غيرَ أن وضعوا اسماً لا يريدون به معنًى لمَا استحقوا إلا اليسير من الذمِّ ولما كان هذا القولُ منهم كفراً . والتفسيرُ الصحيح والعبارة المستقيمة ما قاله أبو إسحاق الزّجاجُ رحِمَه الله فإِنه قال : إن الجعلَ هاهنا في معنى القول والحكمِ على الشيء تقول : " قد جعلتُ زيداً أعلمَ الناسِ " أي وصفتُهُ بذلك وحكمتُ به .
ونرجع إلى الغرضِ فنقولُ : فإِذا ثَبَتَ أن ليستِ الاستعارةُ نقلَ الاسم ولكن ادِّعاءَ معنى الاسم . وكنا إذا عَقَلْنا من قولِ الرجل : " رأيتُ أسداً " أنه أرادَ به المبالغةَ في وصفه بالشجاعة وأن يقولَ : إنه من قوة القلب ومن فَرط البسالة وشدّةِ البطش . وفي أن الخوفَ لا يخامرُه والذُّعرَ لا يعرض له بحيث لا ينقُصُ عن الأسد لم نعقِلْ ذلك من لفظ أسدٍ ولكن من ادِّعائه معنى الأسد الذي رآه ثبت بذلك أن الاستعارةَ كالكناية في أنك تعرفُ المعنى فيها من طريقِ المعقول دونَ طريق اللفظ .
وإِذْ قد عرفتَ أن طريقَ اعلم بالمعنى في الاستعارةِ والكناية معاً المعقولُ فاعلمْ أنَّ حكمَ التمثيلِ في ذلك حكمُها بل الأمرُ في التمثيلِ أَظهرُ وذلك أنه ليس من عاقلٍ يشُكُّ إذا نظرَ في كتابِ يزيدَ بن الوليد إلى مروان بن محمدٍ حينَ بلغه أنه يتلكَّأُ في بَيْعتِه : " أمّا بَعْدُ فإِني أراك تقدِّم رِجلاً وتؤخرُ أُخرى . فإِذا أتاك كتابي هذا فاعتمدْ على أيتهما شئتَ والسلام " . يعلم أن المعنى أنه يقولُ له : بلغني أنك في أمرِ البَيْعة بين رأيين مختلفينِ