يُوصَفُ بها الأناسيُّ أثبتَ لها الأذنَ التي بها يكون السمعُ من الأَناسي . فأنتَ الآن لا تستطيعُ أن تزعُمَ في بيت الحماسة أنه استعارَ لفظَ النواجذ ولفظَ الأفواه لأَن ذلك يوجبُ المُحالَ . وهو أنْ يكونَ في المنايا شيءٌ قد شبَّهه بالنواجِذ وشيء قد شبَّهَه بالأفواه . فليس إلاّ أن تقولَ : إنه لمّا ادَّعى أن المنايا تُسَرُّ وتَستَبْشِرُ إِذا هو هزَّ السيفَ وجعلَها لسرورها بذلك تضحُكُ أرادَ أن يبالغَ في الأمر فجعلها في صورةِ مَنْ يضحك حتى تبدوَ نواجذُه من شدَّة السرور . وكذلك لا تستطيعُ أن تزعَم أن المتنبي قد استعارَ لفظَ " الأُذن " لأَنه يوجِبُ أن يكونَ في الجوزاءِ شيءٌ قد أرادَ تشبيهَهُ بالأذن وذلك من شنيع المحال .
فقد تبيَّنَ من غيرِ وجه أن الاستعارةَ إنما هي ادِّعاءُ معنى الاسم للشيء لا نقلَ الاسم عن الشيء . وإذا ثبتَ أنها ادعاءُ معنى الاسم للشيء علمتَ أنَّ الذي قالوه من أنها تعليقٌ للعبارة على غير ما وُضعتْ في اللغة ونقلٌ لها عما وُضعتْ له كلام قد تسامحوا فيه لأَنه إذا كانتِ الاستعارةُ ادعاءَ معنى الاسم لم يكن الاسمُ مُزالاً عما وُضِعَ له بل مقَرّاً عليه .
واعلمْ أنك تراهم لا يمانِعون إذا تكلَّموا في الاستعارة من أن يقولوا : إنه أرادَ المبالغةَ فجعلَه أسداً بل هم يلجؤون إلى القول به . وذلك صريح في أن الأصلَ فيها المعنى وأنه المستعارُ في الحقيقة وأن قولَنا : استعيرَ له اسمُ الأسد إشارةٌ إلى أنه استعير له معناه وأنه جُعِلَ إياه وذلك أنّا لو لم نقلْ ذلك لم يكن ل " جعل " هاهنا معنى لأن " جعل " لا يصلحُ إلاّ حيث يرادُ إثباتُ صفةٍ للشيء كقولنا : جعلتُه أميراً وجعلتُه لصاً . تريدُ أنك أثبتَّ له الإِمارةَ ونسبته إلى اللصوصية وادَّعيتَها عليه ورميتَه بها . وحكم " جَعَلَ " إِذا تعدَّى إلى مفعولين حكم صيَّر فكما لا تقولُ : صيّرته أميراً إلاّ على معنى أنك أثبتَّ له صفة الإمارة كذلك لا يصحّ أن تقولَ : جعلتُه أسداً إلا على معنى أنك أثبتَّ له معاني الأسد . وأما ما تجدُه في بعض كلامهم من أن " جَعَل " يكونُ بمعنى " سَمَى " فمما تَسامحوا فيه أيضاً لأن المعنى معلومٌ وهو مثلُ أن تجدَ الرجلَ يقولُ : أنا لا أسَمِّيه إنساناً . وغرضُه أن يقول : إني لا أثبتُ له المعاني التي بها كان الإِنسان إنساناً . فأما أن يكون " جعل " في معنى " سمَّى " هكذا غُفلاً فمما لا يخفى فسادُه . ألا ترى أنك لا تجدُ عاقلاً يقول : جعلتُه زيداً بمعنى سميته زيداً ولا يقال للرجل : أجعلْ ابنَك زيداً بمعنى سمِّه زيداً و : ولد لفلان ابن فجعله عبدَ الله أي سماه عبدَ الله .
هذا ما لا يشكُّ فيه ذو عقل إذا نظر . وأكثرُ ما يكون منهم هذا التسامحُ أعني قولَهم : إن " جعل " يكون بمعنى " سمَّى " في قوله تعالى : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ