ترى تارة أن تبايعَ وأخرى أن تمتنعَ من البيعة . إِذا أتاك كتابي هذا فاعملْ على أيِّ الرأيين شئتَ وأنه لم يُعرفْ ذلك من لفظِ التقديمِ والتأخيرِ أوْ من لفظِ الرِّجْل ولكنْ بأنْ عَلِم أنه لا مَعْنى لتقديم الرِّجْل وتأخيرها في رَجُلٍ يُدْعى إلى البيعة . وأن المعنى على أنه أراد أن يقولَ : إنَّ مثلك في تردُّدك بين أن تبايعَ وبين أن تمتنعَ مثلُ رجلٍ قائمٍ ليذهبَ في أمرٍ فجعلتْ نفسُهُ تريه تارةً أن الصَّوابَ في أن يذهبَ فجعل يقدِّم رجلاً تارة ويؤخِّر أخرى .
وهكذا كل كلامٍ كان ضربَ مَثَلٍ لا يَخْفى على مَنْ له أدنى تمييز أن الأغراضَ التي تكونُ للناس في ذلك لا تُعْرَفُ من الألفاظِ ولكن تكونُ المعاني الحاصلةُ من مجموعِ الكلام أدلةً على الأغراضِ والمقاصِد . ولو كان الذي يكونُ غرضَ المتكلِّم يعلمُ من اللفظ ما كان لقولهم : ضَرَب كذا مثلاً لكذا معنًى . فما اللفظُ يُضرَبُ مثلاً ولكن المعنى . فإِذا قلنا في قولِ النبيِّ عليه السلام : " إيَّاكم وخَضراءَ الدِّمن " إنه ضرب عليه السلام خضراءَ الدِّمن مثلاً للمرأة الحسناء في مَنْبِتِ السُّوء . لم يكن المعنى انه ضَرَبَ لفظَ " خضراء الدِّمن " مثلاً لها . هذا ما لا يظنُّه مَنْ به مَسٌّ فضلاً عن العاقل . فقد زالَ الشَكُّ وارتفعَ في أنَّ طريقَ العلم بما يرادُ إثباتُه والخُبر به في هذه الأجناس الثلاثةِ التي هي الكنايةُ والاستعارةُ والتمثيلُ المعقولُ دونَ اللفظِ من حيثُ يكون القصدُ بالإِثبات فيها إلى معنًى ليس هو معنى اللفظ ولكنَّه معنًى يُستَدلُّ بمعنى اللفظ عليه ويستَنْبَط منه كَنحوِ ما ترى من أنَّ القصد في قولهم : هو كثيرٌ رماد القدر إلى كثرة القِرى . وأنت لا تعرف ذلك من هذا اللفظِ الذي تسمعه ولكنَّك تعرفُه بأن تستدلَّ عليه بمعناه على ما مضى الشرح فيه .
وإذْ قد عرفت ذلك فينبغي أن يقالَ لهؤلاء الذي اعترضوا علينا في قولنا إن الفصاحةَ وصفٌ تجب للكلام من أجل مزيَّة تكون في معناه وأنها لا تكونُ وصفاً له من حيث اللفظُ مجرداً عن المعنى واحتجوا بأن قالوا : إنَّه لو كان الكلام إِذا وصف بأنه فصيحٌ كان ذلك من أجل مزية تكون في معناه لوجب أن يكون تفسيرُه فصيحاً مثله : أخبرونا عنكم أترونَ أنَّ من شأنِ هذه الأجناسِ إذا كانت في الكلام أن تكون له بها مزية توجبُ له الفصاحةَ أم لا ترون ذلك فإِنْ قالوا : لا نَرى ذلك . لم يكلَّموا . وإن قالوا : نرى للكلام إذا كانت فيه مزيَّة توجبُ له الفصاحة قيل لهم : فأخبرونا عن تلك المزية أتكونُ في اللفظ أم في المعنى فإِن قالوا :