فأجابني عن هذه الرسالة برسالة أخرى وهي : ووقف عليه وتيمن بمجرد إقباله عليه وقبّله لقرب عهده بيديه وعدّه لجلاء المره وأمرّه على عينيه وشكره . وإن لم تزل حقائب الشكر محطوطة لديه لا برح السهد من جنى ريقه المعلّل والطرب بكأس رحيقه المحلّل والتيه وحاشاه منه في سلوك طريقه المذلل والسحاب لا يطير إلا بجناح نعمائه المبلّل والروض لا يبرز إلا في ثوب تزخرفه المجلل والبرق لا يهتز في مسبل ردائه المسلل والجهد ولو كلّف لا يجيء بمثل سيره المذلّل والنّصر يقضي لمواضيه على حدّ حسامه المفلّل والفجر لولا بيانه الوضاح لما أرشد ليله المضلّل والبحر لولا ما عرف من عباب كرمه الزاخر لما ذمّ على عرر المادة نواله المقلل والفخر وإن شمخ أنفه لا ينافس عقده الموشح ولا يتطاول إلى تاجه المكلّل وفهمه فهام واقتبسه فجلا الأوهام ونظر فيه فزاد صقال الأفهام وقصر عن إدراكه فما شك أنه إلهام . وانتهى فيه إلى الجواب في وصف أنواء تلك الليلة الماطرة وما موّهت به السحب من ذهب برقها وفتلته الأنواء من خيوطٍ ودقها ونفخت فيه الرياح من جمر كانونها وأظهرته حقيقة الرعود من سرّ مكنونها . وما ينبته عارضه ذلك العارض الممطر الذي هو أقوى من شآبيبها وأوقى مما أرقّته السماء من جلابيبها وأسرى من برقها المومض في غرابيبها وأسرع من سرى رياحها وقد جمعت أطواق السحب وأخذت بتلابيبها . وسبّح المملوك من عجب لهذه البلاغة التي كملت الفضائل وفصلت عن العلم وفي الرعيل الأول علم الأوائل . وفضلت مبدعها وحق له التفضيل وآتته جملة الفضل وفي ضمنها التفصيل . وأنطقت لسان بيانه وأخرست كل لسان وأجرت قلم كرمه وأحرزت كل إحسان ونشرت علم علمه وأدخلت تحته كل فاضل وأرهف شبا حدّه وقطعت به كل مناظر وكلّ مناضل . وقالت للسحاب وقد طبّق : إليك فإن البحر قد جال وللنوء وقد أغدق : تنحّ فإن الطوفان قد حصر أرجال وللرعد وقد صرخ : اسكت فقد آن لهذه الشقائق أن تسلّت وللبرق وقد نسخ آية الليل : استدرك غلطك لئلاّ تبكّت . أما ترى هذه العلوم الجمة وقد زخر بحرها وأثر في الألباب سحرها وهذه الفضائل وكيف تفننت فنونها عيونها وتهدلت بالثمرات أفنانها وزخرفت بالمحاسن جنانها ؟ وهذه الألمعية وكيف ذهّبت الأصائل وهذه اللوذعية وما أبقت مقالاً لقائل . وهذه الفاضل وقد ذبالها وتقدد بها أديم الظّلم وتشقق سربالها ؟ وهذه البراعة التي فاضت فكل منها سكران طافح ؟ وهذه الفصائح وما غادرت بين الجوانح ؟ وهذه البلاغة وقد سالت بأعناق المطي بها الأباطح ؟ وهذه الصناعة وقد استعين إلا رابح ؟ وهذه الحكم البوالغ وهذه النعم السوابغ وهذه الديم التي لا يملأ حوضها من إناء فارغ وهذه الشيم التي لو تنكرت ثم مزجت بالفرات لما سرت لسائغ ؟ وهذه الهمم التي برقت بتوجهه فكسفت عناية عارضها وكفت غواية البرق وقد ولع وخط مشيبه بخطّ عارضها حتى جلاها وأضحاها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها .
ونفخ رماد سحابها المنجلي عن اللهب وصفّح جوها الفضي وسمرته الشمس بالذهب وجلا صدأ تلك الليلة عن صفيحة ذلك اليوم المشمس وبدّل بذلك الضوء المطمع من ذلك الغيم المؤيس ونقى لازورد السماء من تلك الشوائب ووقى عرض ذلك النهار اليقق من المعايب وأترع غدير ذلك الصباح خالصاً من الرنق وضوّع عنبر ذلك الثرى خالياً من اللثق وأطلع شمس ذلك اليوم يوشّع جانب مشرقها ويوشّي بذائب اللهب رداء أفقها . فقلت : .
كأنما اليوم وقد موّهت ... مشرقها الشمس ولا جاحد .
ثوب من الشّرب ولكنّه ... طرّز منه كمه الواحد