وقد نهى النبي A عن السكوت عن المنكر إذا علم به المرء في زوجته أو أهل بيته أو شك في سلوكهن فإن السكوت على المنكر من أفظع الأمور التي تضيع كرامة المرء في الدنيا وتوجب العقاب الشديد في الآخرة . قال رسول الله A : ( لا يدخل الجنة ديوث ) والديوث هو الذي انعدمت شهامته وغيرته على عرضه فأصبح لا يبالي بمن يدخل على أهل بيته ومن يخرج ولا يهمه سلوك نسائه وبناته بك يسكت على المهانة ويرضى بالدون ويقر الخطيئة في أهله فهذا من أبغض الناس عند الله يوم القيامة ولن تنفعه عبادة ولا طاعة ولا قربة يتقرب بها إلى الله ما دام فيه هذا الداء الخطير .
روى الإمام أحمد واللفظ له والنسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد أن الرسول A قال : ( ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر في آهل الخبث ) . وروى الطبراني بسند صحيح قال الحافظ المنذذري : لا أعلم فيه مجرحا أن رسول الله A قال : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر قالوا : يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث ؟ قال : الذي لا يبالي بمن يدخل على أهله . قيل : فما الرجلة من النساء ؟ قال : التي تشبه بالرجال ) .
كل هذه القضايا التي ذكرناها في هذا الباب والتي تركناها ولم نذكرها خوفا من الإطالة والملل لنقيم الدليل على أن جريمة الزنا من أفحش الأمور ومن أخطر الجرائم على الأفراد والأسر والجماعات وعلى أنها سبب في ضياع الأموال وانتشار الخمور وقتل الأنفس وفساد المجتمع وأنها توقع العداوة والبغضاء بين صفوف المؤمنين وتوهن من قوتهم وتضعف من عزيمتهم وتسلبهم العزة والكرامة والمروءة أركانه فلا تتعجب من اهتمام الشارع بهذه الجناية وتحريم مقدماتها من النظرة المريبة ولمس المرأة الأجنبية وسماع صوتها والخلوة بها وغير ذلك حتى يسد الباب عن الوقوع في الزنا .
ولا تتعجب من سن الشارع هذا الحد الرادع من جلد مائة جلدة وضرب المحصن بالحجارة حتى يموت وعدم الشفقة والرحمة بهم وتشريع اللعان وتحريم القذف وإقامة الحد على القاذف حتى تحفظ على الناس أعراضهم ويبقى المجتمع في أمن وسلام وسعادة واطمئنان ولا تنس أن أول جناية قتل حصلت في الوجود بعد أن خلق الله الأرض وعمرها سيدنا آدم إنما هي من جراء شهوة الفرج ومن أجل النساء وهي قضية قابيل وهابيل .
فائدة .
قال الله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } قال المفسرون : يحتمل أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يعطل الحد أو ينقص منه والمعنى لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة وهذا قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير .
وقيل : يحتمل أن لا تأخذكم رأفة بأن يخفف الجلد ويحتمل كلا الأمرين والأول أولى لأن الذي تقدم ذكره في الآية الشريفة الأمر بنفس الجلد ولم يذكر صفته فما يعقبه يجب أن يكون راجعا إليه وكفى برسول الله أسوة في ذلك حيث قال : ( لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) . ونبه بقوله : ( في دين الله ) على أن الدين إذا أوجب أمرا لم يصح استعمال الرأفة في خلافه .
وأما قوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فهو من باب التهييج والتهاب الغضب لله تعالى ولدينه . قال الجبائي تقدير الآية : { إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود } وهذا يدل على أن الاشتغال بأداء الوجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة . والجواب عليهم : أن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه أن الأولى أن لا تقام تلك الحدود - كما ظن بعض الجهلة - وحينئذ يكون منكرا للدين فيخرج عن الإيمان بهذا الفهم الخاطىء ورد في الحديث ( يؤتى بوال نقص من الحد سوطا فيقال له : لم فعلت ذاك ؟ فيقول : رحمة لعبادك فيقال له : أنت أرحم بهم مني فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقال له : لم فعلت ذلك ؟ فيقول : لينتهوا عن معاصيك فيقول أنت أحكم بهم مني فيؤمر به إلى النار ) .
وجوب الستر على من وقع في هذه الجريمة .
اتفقت كلمة العلماء على أن الجريمة التي لم يصل خبرها إلى الحاكم لا يقام من أجلها حد وأن الجريمة التي علم بها الحاكم ولم تثبت لديه بالإقرار او بشهادة الشهود لا يقام الحد عليها لما روي عن أبن عباس Bهما أنه قال : ( قال رسول الله A : لو كنت راجما أحدا بغير بينة رجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها ) رواه أبن ماجة ومعنى ( ظهر منها الريبة ) أي أنها كانت تعلن بالفاحشة ولكن لم يثبت عليها ذلك ببينة أو إقرار .
وفي قصة هلال بن أمية حين لاعن زوجته قال رسول الله A : ( إن أتت به على الصفة الفلانية فهو لشريك بن السحماء وإن أتت به على الصفة الفلانية فهو لزوجها هلال بن أمية ) ولما أتت بالولد على الوجه المكروه قال A : ( لولا الإيمان لكان لي ولها شأن ) .
واتفقت كلمة الأئمة على أن من أقر بحد من الحدود أمام الحاكم ولم يفسرهن فلا يطالب بتفسيره وبيانه ولا يقام عليه الحد إن لم يثبت ويتعين لما روي عن أنس Bه أنه قال : ( كنت عند النبي A فجاءه رجل فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فلم يسأله قال : وحضرت الصلاة فصلى مع النبي A فلما قضى النبي A قام إليه الرجل فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله قال : أليس قد صليت معنا ؟ قال : نعم . قال فإن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك ) قال النووي في شرح مسلم هذا الحديث معنا أنه فعل معصية من المعاصي الموجبة للتعذير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة ولو أنها موجبة لحد أو غيره لم تسقط بالصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الوجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة . وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن المراد الحد المعروف قال : وإنما لم يحده لأنه لمس يفسر موجب الحد ولم يستفسره النبي A إيثارا للستر بل استحب تلقين الرجل صريحا . لأن الإسلام أمر بالستر على الأعراض حتى لا تشيع الفاحشة بين المجتمع لقول الرسول A ( من ستر عورة مسلم ستر الله عورته يوم القيامة ) وقال : ( من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا مؤودة ) رواه أبو داود . وقد جاء ماعز إلى النبي A فأقر عنده بالزنا واعترف بجنايته فرده النبي ( أربع مرات عسى أن يتوب ويستر نفسه ولا يرجع إليه ) . وروي عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أنه قال : بلغني أن رسول الله A قال لرجل من أسلم يقال له : هزال - وقد جاء يشكو رجلا بالزنا - وذلك قبل نزول حج القذف - : ( يا هزال لو سترته بردائك كان خيرا لك ) وذلك كناية عن عدم إذاعة هذه الفاحشة فإن الرسول A يقول : ( ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ) .
أخرج الحاكم والبيهقي في صحيحيهما : أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه ارتحل من المدينة المنورة إلى عقبة بن عامر - أمير مصر - في ذلك الوقت فخرج إليه فعانقه ثم قال : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله A يقول : ( من ستر مؤمنا في الدنيا على عورة ستره الله يوم القيامة ) فقال له أبو أيوب : صدقت ثم قفل راجعا إلى المدينة . والشاهد إذا رأى الجريمة بعينه فهو مخير في أداء الشهادة حسبة لله تعالى وغيرة على حدوده ومحارمه أن تنتهك فقد ورد في الحديث الشريف ( الحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا ) أو ترك الشهادة رغبة في الستر على أخيه الممن وعدم إشاعة الفاحشة لقول الرسول A : ( ومن ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة ) ولآن الله يحب الستر على عباده ويكره إشاعة الفاحشة وفضيحة المسلمين بل نفر من شيوع خبرها والحديث عنها والميل إلى إشاعتها فقال تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } .
ستر المسلم على نفسه .
إن الإسلام قد أوجب على المسلم إذا وقع في ذنب من هذه الكبائر أن يقلع عن الذنب ويتوب إلى الله تعالى ويستر على نفسه ولا يفضحها بالتحدث بالذنب أما الناس والتجاهر بالمعصية . وقد روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : ( أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى ) ذلك لأن المجاهرة بهذه الفاحشة تبجح في عصيان الله تعالى واستهتار بمحارمه وجليل على انهيار المجتمع وانحلالهن وضياع الحياء من أفراده لأن المخطئ لابد أن يكون عنده بقية من حياء يمنعه من الإعلان عن خطئه بين الناس وحجبه عن المجاهرة بذنبه في المجتمع الذي يعيش فيه وخلع برقع الحياء مع الله D فالإنسان إذا فقد الحياء من الله وأما الرأي العام كان خطرا على نفسه وعلى الناس جميعا لأنه فقد أعز شيء لديه ولن في المجاهرة بالمعصية إشاعة للفساد وتحرضا عليه وحملا للغير على اقترافه كالمريض الذي يخالط الصحيح فلا شك أن يعديه وينقل أثر المرض إليه ولهذا ندبنا الشارع الحكيم وعلمنا رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عله أن الواحد منا إذا وقع في معصية أن يكتم على الخبر ويعتصم بالستر ويطلب من الله المغفرة ولا يحدث أحدا عما وقع منه كما روي عن النبي A أنه قال : ( من أتى من هذه القاذورات ( المنكرات ) فليستتر بستر الله D ) وقد شدد الإسلام النكير على المتجاهرين بالمعصية وجعلهم من المحرومين من مغفرة الله وعفوه ورحمته . قال رسول الله A ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل العبد عملا بالليل ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا .
قد بات ستره الله Dن ويصبح يكشف ستر الله عليه عنه ) . أما أرباب الحياء والدب من الله تعالى الذين يتركون الذنوب ويكتمون على أنفسهم ولا يحدثون الناس بهفواتهم ويندمون عما حدث منهم من المعاصي ( إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس وقرره بذنوبه فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) رواه الإمام أحمد .
الحدود كفارات لأصحابها .
اتفقت كلمة العلماء على أن الحدود كفارات لأربابها لأن في إقامتها كسرا لشوكة الظالمين وإخافة لهل الشر والمفسدين وحفظا للمجتمع من الدمار والهلاك والفساد والضياع لما روي عن أنس Bه أنه قال : ( قال رسول الله A : إذا استحلت أمتي خمسا فعليهم الدمار إذا ظهر التلاعن وشربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ) رواه الترمذي والبيهقي .
فإقامة الحدود على من وقع فيها تكفر ذنبهن وترفع عنه العقاب في الدار الآخرة لأن الله تعالى لا يجمع على عبده عقابين على ذنب واجد فقد روي عن النبي A أنه قال في شأن المرأة الغامدية التي وقعت في الزنا ثم ندمت واعترفت بين يديهن وأقيم الحد عليها ( لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أنها جادت بنفسها لله تعالى ) .
وكما روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه أقسم على ماعز بن مالك السلمي الذي أقر بالزنا وندم على ذنبه وأقيم عليه الحد وجم بالحجارة بأن الله غفر له ذنبهن وأدخله الجنة وتاب عليه توبة صادقة وان إقامة الحد عليه كان فارة له فقال A لمن اعترض عليه ( والذي نفس بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ) . وروى عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال : كنا مع النبي A فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه .
إن شاء عذبه ) زاد في رواية ( فبايعناه على ذلك ) رواه الخمسة إلا أبا داود .
فقول النبي A ( فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ) صريح في أن الحدود كفارة الذنوب . وجوابر للمحدود لا زاجرات فقط وقد ورد في رواية للترمدذي C أن رسول الله A قال : ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة ) قال الإمام الشافعي C لم أسمع في الحدود حديثا أبين من هذا وقد روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : ( وما يدريك لعل الحدود نزلت كفارة للذنوب ) فهذه الرواية تشبه الحديث السابق وتؤيده في معناه . فإقامة الحدود مطهرات للنفوس من الذنوب والخطايا وللمجتمع من الفساد والضياع وهذا هو رأي جمهور العلماء من السلف وعليه الأئمة الأربعة رحمهم الله تبارك وتعالى وذهب بعضهم إلى أن الحدود زواجر فقط وعليه العقاب يوم القيامة . ولكن الراجح هو الرأي الأول وهو اللائق بالكرم الإلهي والفيض الرباني وهو الذي أخبر به الحبيب المصطفى A .
التحريم بالمصاهرة .
الحنفية - قالوا : إن حرمة المصاهرة تثبت بواحد من الأمور الآتية وهي : .
- 1 - العقد الصحيح .
- 2 - الوطء الحلال .
- 3 - الوطء بالنكاح الفاسد وكذا الوطء بشبهة .
- 4 - اللمس بينهما بشهوة .
( يتبع . . . )