- لأن الشريعة الإسلامية حريصة على محو الرذائل الخلقية والضرب على أيدي العابثين بالأخلاق التي عليها قوام الأمم وسعادتها . حريصة على كرامة الناس وأنسابهم فلم يبق أمام الأمة إلا أن تمسك بالصيانة والحياء ولا تجاهر بالفواحش وإلا أوشك الله أن سلط عليها من لا يرحمها ( 1 ) .
( 1 ) لقد نهى الشارع الحكيم عن الزنا ونفر من النكاح الحرام وجعله من الذنوب التي تحبط الأعمال وتدخل فاعلها النار فقال تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } الآية 22 من النساء .
وقال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق إثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } فقد قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس التي حرم الله وهما من أفحش الذنوب وأكبر الكبائر التي حرمها الله تعالى فدل ذلك على عظم حرمة الزنا وأنه من أعظم الذنوب وأفحشها حيث عقب الله تعالى على ذكر هذا الذنب بأن فاعله يرتكب إثما عظيما ويضاعف الله له العذاب في نار جهنم ويمكث فيه مدة طويلة محتقرا مهانا كأنه مخلد فيها . وقال الله تعالى : { قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن } .
الآية 33 من سورة الأعراف . وقال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } آية 2 و 3 من سورة النور .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله A : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه والمفارق للجماعة ) . رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي رحمهم الله تعالى .
وعن عبد الله بن زيد Bه قال : سمعت رسول الله A يقول : ( يا بغايا العرب يا بغايا العرب إن أخوف عليكم الزنا والشهوة الخفية ) رواه الطبراني .
وروي عن أبي هريرة Bه قال : قال رسول الله A : ( إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه الإيمان ) رواه أبو داود واللفظ له .
وفي رواية للبيهقي قال رسول الله A : ( إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه ) .
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله A : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر ) رواه مسلم والنسائي - ورواه الطبراني في الأوسط ولفظه : ( لا ينظر الله يوم القيامة إلى الشيخ الزاني ولا العجوز الزانية ) .
وروي عن بريدة Bه عن النبي A قال : ( إن السموات السبع والأرضيين السبع ليلعن الشيخ الزانين وإن فروج الزناة ليؤذي أهل لنار نتن ريحها ) رواه البزار .
حد العبد .
اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى : على أن العبد والأئمة إذا زنيا فلا يكمل حدهما وأن حد كل واحد منهما خمسون جلدة وأنه لا فرق بين الذكر والأنثى منهم .
واتفقوا على أنهما لا يرجمان وإن أحصنا بل يجلدان لأنهم اشترطوا في شروط الإحصان الحرية فإن العبد ليس بمحصن وإن كان متزوجا واحتجوا على ذلك بقوله تعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) والحد لا يمكن أن ينصف .
الشافعية والمالكية - قالوا : إن الرقيق إذا زنى يجلد خمسين جلدة ويغرب نصف سنة لما روي عن النبي A أنه قال : ( إذا زنت أمة أحدكما فتبين زناها فليجلها الحد ولا يثرب عليها - أي لا يوبخها - ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فلبيعها ولو بحبل من شعر ) رواه الخمسة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
وروي عن عبد الله بن أحمد في المسند عن أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه . قال : أرسلني رسول الله A إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد قال : فوجدتها في دمها فأتيت النبي A فأخبرته بذلك فقال لي : إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين ) .
وروي عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال : ( أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد المارة خمسين خمسين في الزنا ) رواه الإمام مالك في كاتبه الموطأ .
فالذكر من العبيد إذا زنى يجلد مائة جلدة والأمة إذا ثبت عليها الزنا تجلد خمسين جلدة . واحتج الأئمة الأربعة على أن الأمة غير المتزوجة يقام عليها الحد بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنهم ( أن النبي A سئل عن الأمة زنت ولم تحصن فقال : ( إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو يضفير - أي بحبل مضفور - قال أبن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة متفق عليه ) .
وقال أبن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : إن العبد والأمة إذا لم يحصنا فلا يقام عليهما الحد وإنما يجب عليهما التعزير بحسب ما يرى الحاكم وإذا أحصنا فحدهما خمسون جلدة بالتساوي . وسبب اختلافهم - الاشتراط الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى : { فإذا أحصن } فمن فهم من الإحصان التزوج والإسلام وقال بدليل الخطاب قال لا يجلد غير المتزوجة ومن فهم من لفظ الإحصان الإسلام جعله عاما في المتزوجة وغير المتزوجة وهو الرجح .
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا : لا يجب التغريب في زنا العبد والأمة لأن العبد دنيء فلا يتأثر بالتغبير من الناس مثل الحر ولا العار بعظم الشرف والنسب والعبد مجرد منهما .
الشافعية - قالوا في أصح أقوالهم : أن العبد والأمة إذا ثبت الزنا على واحد منهما يغرب نصف عام لأنه على النصف من الحر في كثير من الأحكام .
حق السيد في إقامة الحد على عبيده .
الشافعية والمالكية والحنابلة - قالوا : للسيد أن يقيم الحد على عبده وأمته إذا قامت البينة عنده أو أقر بين يديه لا فرق في ذلك بين الزنان والقذف وشرب الخمر وغير ذلك . لن العبد معدود من مال السيد فله تفويت المنفعة فيه على نفسه . إيثارا لحق الله تعالى .
المالكية في بعض آرائهم والحنابلة - قالوا : يستثنى من ذلك حد السرقة فلا يجوز للسيد أن يقطع في حد .
السرقة بدون إذن الإمام أو نائبه .
الحنفية - قالوا : ليس للسيد إقامة الحد على إمائه في كل الأحول التي يجب فيها الحد بل يجب أن يرده إلى الإمام لأن إقامة الحدود بالأصالة من منصب الإمام الأعظم ومن خصوصياته وإنما جعل الشارع إقامة الحدود إلى الإمام الأعظم أو نائبه دون كل من قدر على إقامتها من المتغلبة ونحوهم دفعا للفساد في الأرض وعدم إشاعة الفوضى في المجتمع لغلبة عدم قدرة الرعية على رد نفوسهم عن تنفيذ غضبهم في بعضهم بعضا حمية جاهلية لا نصرة للإسلام ولا شريعة بخلاف الإمام الأعظم فإنه ليس له غرض عند أحد دون أحد في غالب الأحوال لقوة إرادته . ولأنه يقدر على تنفيذ حكمه في غيره ولا عكس فإذا قتل الإمام شخصا في حد ولو ظلما فلا يقدر عصبته أن يقتلوا الإمام لأجله عادة لأنه متحصن بالقانون ولأن قوة الجند والشرطة في يده .
حد الذمي .
الشافعية والحنابلة - قالوا : إذا زنى الذمي يقام عليه الحد مثل المسلم .
المالكية - قالوا : لا يقام الحد عليه لأنه غير محصن لأن الإحصان شرف يختص به المسلم فقط .
حد اليهودي .
الشافعية والحنابلة - قالوا : يقام الحد على اليهودي كغيره من النصارى والذميين والمستأمنين وذلك لأنهم مخاطبون بفروع الشريعة خصوصا إذا رفعت دعواهم إلينا ولأن إقامة الحد يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ولأن السنة أثبتت أن النبي A قد أقام حد الزنا على اليهودي واليهودية التي رفع يهود المدينة أمرهما إليه صلوات الله وسلامه عليه . فقد روي عن عبد الله بن عمر Bهما ( أن اليهود أتوا النبي A برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا : تسخم وجوههما - أي تسود - ويخزيان . قال : كذبتم : ( إن فيهما الرجم فأتوا التوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) فجاؤوا بالتوراة وجاؤوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه فقيل له : ارفع يدك فرفع يده فإذا هي تلوح فقال أو قالوا : يا محمد إن فيها الرجم ولكننا كنا نتكاتم بيننا فأمر بهما رسول الله A فرجما قال : فلقد رأيته يجنأ عليها ويقيها الحجارة بنفسه ) ومعنى يجيأ ( ينحني ) .
وعن جابر بن عبد الله Bهما قال : ( رجم رسول الله A رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وامرأة ) .
وعن البراء بن عازب Bه قال : ( مر على النبي A يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال : أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم ؟ قالوا : نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم ؟ قال : لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحريم والجلد مكان الرجم . فقال النبي A : ( اللهم إني أول من أحيا أمك إذ أماتوه ) فأمر به فرجم فأنزل الله D : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا : آمنا بأفواههم إلى قوله : إن أوتيتم هذا فخذوه } يقولون : ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تبارك وتعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وقلوه تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } قال : هي في الكفار كلهم رواه أحمد مسلم وأبو داود فهذه الحاديث تدل على أنه يحد الذمي كما يحد المسلم .
الحنفية والمالكية - قالوا : لا يقام الحد على اليهودي ولا المسيحي ولا الذمي ولا المستأمن لأنهم اشترطوا في الإحصان الإسلام فغير المسلم لأي يكون محصنا فلا يرجم وإنما يجلد ولأن الرجم تطهير من الذنب والذمي وغير المسلم ليس من أهل التطهير بل لا يطهر أبدا إلا بحرقه بنار جهنم ولأنه ليس مخاطبا بفروع الشريعة بل هم مخاطبون بأصولها أولا وقبل كل شيء وما روي من حديث أبن عمر مرفوعا وموقوفا ( من أشرك بالله فليس بمحصن ) ورجح الدر قطني وغيره الوقوف وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده على الوجهين .
وقد أجاب الحنفية والمالكية عن الحاديث التي تدل على جواز رجم غير المسلم بأنه A إنما أمضى حكم التوراة على أهلها ولم يحكم عليهم بحكم الإسلام . وقد كان ذلك عند مقدمة المدينة وكان إذ ذاك مأمورا بأتباع حكم التوراة ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } فقد شرع الله هذا الحكم الوارد في الآية الشريفة بالنسبة إلى نساء المسلمين فقط .
قال الشوكاني : - ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف ونصب فعله في مقابلة أحاديث الباب من الغرائب وكونه A فعل ذلك عند معدمه المدينة لا ينافي ثبوت الرعية فإن هذا حكم شرعه الله لهل الكتاب وقرره رسول الله A ولا طريق لنا إلى ثبوت الحكام التي توافق أحكام الإسلام إلا بمثل هذا الطريق ولم يتعقب ذلك في شرعنا ما يبطله ولا سيما وهو مأمور بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ومنهي عن اتباع أهوائهم كما صرح بذلك القرآن الكريم . وقد أوه A يسألونه عن الحكم ولم يأتوه ليعرفهم شرعهم فحكم بينهم بشرعه ونبههم على أن ذلك ثابت في شرعهم كثبوته في شرعه ولا يجوز أن يقال : إنه حكم بينهم بشرعهم مع مخالفته لشرعه لأن الحكم منه عليهم بما هو منسوخ عنده لا يجوز على مثله وإنما أراد إلزامهم الحجة .
غيرة المسلم على عرضه .
إن الإسلام قد حارب الزنا من أول وهلة فدعا الناس إلى العفاف والتمسك بالطهر والفضيلة وقال رسول الله A : ( عفوا تعف نساؤكم ) ورغب في التزوج بالنساء المصونات الصالحات العفيفات الحافظات لفروجهن فقال تعالى : { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } وقال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } وقال A : ( خير النساء الودود الولود التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنه حفظتك في مالك وعرضها ) .
ولما ظهرت حادثة الإفك واتهم الناس السيدة عائشة Bها وهي الطاهرة البريئة أنزل الله تبارك وتعالى براءتها في الفران الكريم ودافع عنها بخمسة عشرة آية في سورة النور حتى يطهر ساحتها ويظهر للعالم براءتها من هذه الفاحشة المنكرة ودافع الله D عن السيدة مريم أم سيدنا عيسى من تهمة الزنا في عدة آيات من كتاب الله تعالى : { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } وقال تعالى : { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } وقال تعالى : { يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } ودافع الله تعالى عن التهمة التي قالها بنو إسرائيل على سيدنا موسى فقال تعالى : { فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } حتى تظل ساحتها طاهرة وشرفه محفوظا أمام قومه .
( يتبع . . . )