ورحمة الله : هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام .
وأثر الشيء : ما ينشأ عنه مما يدل عليه . فبرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق . و ( كيف ) بدل من ( أثر ) أو مفعول ل ( انظر ) أي انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حد قوله ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) إذ جعلوا ( كيف ) بدلا من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في مغني اللبيب . وقد مضى عند قوله ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) في سورة الفرقان وتقدم آنفا في قوله ( فيبسطه في السماء كيف يشاء ) . وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموت على سبيل الاستعارة .
وجملة ( إن ذلك لمحيي الموتى ) استئناف وهو إدماج دليل البعث عقب الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها . وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار : .
بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير إذ التقدير : فالنجاح في التكبير كما تقرر غير مرة .
واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أجرى عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه فالمعنى : أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى تقريبا لتصور البعث .
وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز ولما في الإشارة من التعظيم . وذيل ذلك بقوله ( وهو على كل شئ قدير ) فإنه يعم جميع الأشياء والبعث من جملتها إذ ليس هو إلا إيجاد خلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة .
والشبه تام لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم ( إلى أثر ) بالإفراد . وقرأه الباقون ( غلى آثار ) بصيغة الجمع .
( ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون [ 51 ] ) عطف على جملة ( وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ) وما بينها اعتراض واستطراد لغرض قد علمته آنفا . وهذه الجملة سيقت للتنبيه على أن الكفران مطبوع في نفوسهم بحيث يعاودهم بأدنى سبب فهم إذا أصابتهم النعمة استبشروا ولم يشكروا وإذا أصابتهم البأساء أسرعوا إلى الكفران فصور لكفرهم أعجب صورة وهي إظهارهم إياه بحدثان ما كانوا مستبشرين منه إذ يكون الزرع أخضر والأمل في الارتزاق منه قريبا فيصيبه إعصار فيحترق فيضجون من ذلك وتكون حالهم حالة من يكفر بالله وتجري على أقوالهم عبارات السخط والقنوط كما قال بعض رجاز الأعراب إذ أصاب قومه قحط : .
رب العباد ما لنا لك ... قد كنت تسقينا فما بدا لك .
" أنزل علينا الغيث لا أبا لك فالضمير المنصوب في ( رأوه ) عائد إلى ( أثر رحمة الله ) وهو الزرع والكلأ والشجر . والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه وسموا صفارا بضم وتخفيف الفاء : داء يصيب الزرع .
والمصفر : اسم فاعل مقتض الوصف بمعناه في الحال أي فرأوه يصير أصفر فالتعبير ب ( مصفرا ) لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون أن يقال : فرأوه أصفر .
وظل : بمعنى صار والإتيان بفعل التصبير مع الإخبار عنه بالمضارع لتصوير مبادرتهم إلى الكفر ثم استمرارهم عليه . والحاصل أن المعنى أنه يغلب الكفر على أحوالهم .
A E واعلم أن الإتيان بالأفعال الثلاثة ماضية لأن وقوعها في سياق الشرط يمحضها للاستقبال فأوثرت صيغة المضي لأنها أخف والمتكلم مخبر في اجتلاب أي الصيغتين مع الشرط مثل قوله ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) بصيغة المضارع لأن المقام للنفي ب ( لا ) وهي لا تدخل على الماضي المسند إلى مفرد إلا في الدعاء .
( فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 52 ] وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون [ 53 ] )