وخص هذان الوقتان من بين أوقات الليل والنهار : لأنهما اللذان يطلب فيهما الناس الراحة والدعة فوقوع العذاب فيهما أشد على الناس ولأن التذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذبين تخيل نعيم الوقتين .
والمعنى : وكم من أهل قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم فكونوا يا معشر أهل مكة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنكم وإياهم سواء .
وقوله : ( فما كان دعواهم ) يصح أن تكون الفاء فيه للترتيب الذكري تبعا للقاء في قوله : ( فجاءها بأسنا ) لأنه من بقية المذكور ويصح أن يكون للترتيب المعنوي لأن دعواهم ترتبت على مجيء البأس .
والدعوى اسم بمعنى الدعاء كقوله : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) وهو كثير في القرآن . والدعاء هنا لرفه العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب وذلك أن شأن الناس إذا حل بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ومعنى الحصر أنهم لم يستغيثوا الله ولا توجهوا إليه بالدعاء ولكنهم وضعوا الاعتراف بالظلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدعوى .
ويجوز أن تكون الدعوى بمعنى الادعاء أي : انقطعت كل الدعاوى التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدد الآلهة وأن دينهم حق فلم تبق لهم دعوى بل اعترفوا بأنهم موكلون فيكون الاستثناء منقطعا لأن اعترافهم ليس بدعوى .
واقتصارهم على قولهم : ( إنا كنا ظالمين ) إما لأن ذلك القول مقدمة التوبة لأن التوبة يتقدمها الاعتراف بالذنب فهم اعترفوا على نية أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو فعوجلوا بالعذاب فكان اعترافهم " آخر قولهم في الدنيا " مقدمة لشهادة ألسنتهم عليهم في الحشر وإما لأن الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .
وأياما كان فإن جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكرهم في ظلمهم في مدة سلامتهم ولكن العناد والكبرياء يصدانهم عن الإقلاع عنه ومن شأن من تصيبه شدة أن يجري على لسانه كلام فمن اعتاد قول الخير نطق به ومن اعتاد ضده جرى على لسانه كلام التسخط ومنكر القول فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولاته في أفكارهم .
A E والمراد بقولهم : ( كنا ظالمين ) أنهم ظلموا أنفسهم بالعناد وتكذيب الرسل والإعراض عن الآيات وصم الأذان عن الوعيد والوعظ وذلك يجمعه الإشراك بالله قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) أي أن الله لم يظلمهم وهو يحتمل أنهم علموا ذلوا بمشاهدة العذاب وإلهامهم أن مثل ذلك العذاب لا ينزل إلا بالظالمين أو بوجدانهم إياه على الصفة الموعود بها على ألسنة رسلهم فيكون الكلام إقرارا محضا أقروا به في أنفسهم فصيغة الخبر مستعملة في إنشاء الإقرار ويحتمل أنهم كانوا يعلمون أنهم ظالمون من قبل نزول العذاب وكانوا مصرين عليه ومكابرين فلما رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم فيكون الكلام إقرارا مشوبا بحسرة وندامة فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصريح ومعناه الكنائي والمعني المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازا صريحا .
وهذا القول يقولونه لغير مخاطب معين كشأن الكلام الذي يجري على اللسان عند الشدائد مثل لويل والثبور فيكون الكلام مستعملا في معناه المجازي أو يقوله بعضهم لبعض بينهم على معنى التوبيخ والتوقيف على الخطا وإنشاء الندامة فيكون مستعملا في المعنى المجازي الصريح والمعنى الكنائي على نحو ما قرته آنفا .
والتوكيد بإن لتحقيق الخبر للنفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم أو بين جماعتهم جاريا مجرى التعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنهم جديرون به ولذلك أطلقوا على الشرك حينئذ الاسم المشعر بمذمته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل