وإنما خص بالذكر إهلاك القرى دون ذكر الأمم كما في قوله ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ) لأن المواجهين بالتعريض هم أهل مكة وهي أم القرى فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأن تعليق فعل ( أهلكنا ) . بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشمول فهو مغن عن أدوات الشمول فالسامع يعلم أن المراد من القرية أهلها لأن العبرة والموعظة إنما هي بما حصل لأهل القرية ونظيرها قوله تعالى : ( واسأل القرية التي كنا فيها ) ونظيرهما معا قوله : ( ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون ) فكل هذا من الإيجاز البديع والمعنى على تقدير المضاف وهو تقدير معنى .
وأجري الضميران في قوله : ( أهلكناها فجاءها بأسنا ) على الإفراد والتأنيث مراعاة للفظ قرية ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متصل القرب ثم أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله : ( أوهم قائلون ) ( فما كان دعواهم إذ جاءهم ) الخ لحصول الفصل بين الضمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية وهو ( بأسنا بياتا ) لأن ( بيانا ) متحمل لضمير البأس أي مبيتا لهم وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال : ( أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم ) . و ( كم ) اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدم في أول سورة الأنعام .
والإهلاك : الإفناء والاستئصال . وفعل ( أهلكناها ) يجوز أن يكون مستعملا في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملا في ظاهر معناه .
A E والفاء في قوله : ( فجاءها بأسنا ) عاطفة جملة : ( فجاءها بأسنا ) على جملة : ( أهلكناها ) وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله إذ هو سبب الإهلاك عسر على جمع من المفسرين معنى موقع الفاء هنا حتى قال الفراء إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني . وعن بعضهم أن الكلام جرى على طريقة القلب والأصل : جاءها بأسنا فأهلكناها وهو قلب خلي عن النكتة فهو مردود والذي فسر به الجمهور : أن فعل ( أهلكناها ) مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) الآية أي فإذا أردت القراءة وإذا أردتم القيام إلى الصلاة واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال : " ومن أمثلة المجاز قوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) استعمل ( قرأت ) مكان أردت القراءة لكون القراءة مسببة عن إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في ( فاستعذ بالله ) وقوله ( وكم من قرية أهلكناها ) في موضع أردنا إهلاكها بقرينة ( فجاءها بأسنا ) والبأس الإهلاك