و ( من ) في قوله : ( من دونه ) ابتدائية و ( دون ) ظرف للمكان المجاوز المنفصل وقد جر بمن الجارة للظروف وهو استعارة للترك والإعراض . والجرور في موضع الحال من فاعل ( تتخذوا ) أي لا تتبعوا أولياء متخذينها دونه فأن المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهية واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه والحلف باسمه فهم أيضا اتبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبة الدين إليها . فكل عمل تقربوا به إلى الأصنام وكل عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام فهم عند عمله يكونون متبعين اتباعا فيه إعراض عن الله وترك للتقرب إليه فيكون اتباعا من دون الله فيدخل في النهي وبهذا النهي قد سدت عليهم أبواب الشرك وتأويلاته كقولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ولفي ) فقد جاء قوله : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) في أعلى درجة من الإيجاز واستيعاب المقصود .
وأفاد مجموع قوله : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) مفاد صيغة قصر كأنه قال : لا تتبعوا إلا ما أمر به ربكم أي دون ما يأمركم به أولياؤكم فعدل عن طريق القصر لتكون جملة : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ) مستقلة صريحة الدلالة اهتماما بمضمونها على نحو قول السموأل أو الحارثي : .
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل A E وجملة : ( قليلا ما تذكرون ) هي في موضع الحال من ( لا تتبعوا ) . وهي حال سببية كاشفة لصاحبها وليست مقيدة للنهي : لظهور أن المتبعين أولياء من دون الله ليسوا إلا قليلي التذكر . ويجوز جعل الجملة اعتراضا تذييليا . ولفظ " قليلا " يجوز أن يحمل على حقيقته لأنهم قد يتذكرون ثم يعرضون عن التذكر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ويجوز أن يكون " قليلا " مستعارا لمعنى النفي والعدم على وجه التلميح كقوله تعالى : ( فقليلا ما يؤمنون ) " فإن الإيمان لا يوصف بالقلة والثرة " .
والتذكر مصدر الذكر " بضم الذال " وهو حضور الصورة في الذهن .
وقليل مستعمل في العدم على طريقة التهكم بالمضيع للأمر النافع يقال له : إنك قليل الإتيان بالأمر النافع تنبيها له على خطئه وإنه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حد التقليل دون التضييع له كله .
و ( ما ) مصدرية والتقدير : قليلا تذكركم ويجوز أن يكون ( قليلا ) صفة مصدر محذوف دل عليه ( تذكرون ) و ( ما ) مزيدة لتوكيد القلة أي نوع قلة ضعيف نحو قوله تعالى : ( أن يضرب مثلا ما ) . وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : ( فقليلا ما يؤمنون ) في سورة البقرة . والمعنى : لو تذكرتم لما اتبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النهي عن أن تتبعوا من دونه أولياء وهذا نداء على إضاعتهم النظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين .
وقرأ الجمهور : ( ما تذكرون ) " بفوقية واحدة وتشديد الذال " على أن أصله تتذكرون بتاءين فوقيتين ثانيتهما ذالا لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام .
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف " بتخفيف الذال " على حذف إحدى التاءين اختصارا . وقرأه ابن عامر : ( يتذكرون ) " بتحتية في أوله ثم فوقية " والضمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة أعرض عنهم ووجه الكلام على غيرهم من السامعين : إلى النبي A والمسلمين .
( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون [ 4 ] فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 5 ] ) عطف على جملة : ( ولا تتبعوا ) وهذا الخبر مستعمل في التهديد للمشركين الذين وجه إليهم التعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم . وقد ثلث هنا بتمحيض التوجيه إليهم