قواعد قراءة النص الإسلامي
الدكتور محمود عكام
أستاذ الفكر والشريعة الإسلامية بجامعة حلب
خطيب جامع التوحيد الكبير بحلب
بسم الله الرحمن الرحيم
استهلال وباعث
الحمد لله الذي أقرأ نبيه قرآنه، وكفل له جمعه وتبيانه، والصلاة والسلام على من أزال عن الفكر الإنساني أدرانه. ونوره بالرسانة العظمى وزانه، ورضي الله عمّن وعوا نصوص الرسالة، فاجتهدوا في توضيح مراداتها، وصدروا عنها في التفسير والتوضيح والإبانة.
وبعد:
فالعالم اليوم يشهد صحوةً إسلامية ملحوظة التزايد والشمول. تتمثل في تشخيص ضرورة اعتماد الإنسان على نص يغطـّي سلوكياته ويغني تصوراته، وهذا لا يتوفر إلا في النص الإسلامي، يمتلك البعد الإلهي في مصدريّته، والمدّ الشّمولي العمومي في صلته بالإنسان، محور الكون المشهود ومحل التكليف المعهود، وقد ثبت هذا عبر طريقي التوثيق والتحقيق، ولم يعد المجال قابلا للحديث عن بعض ارتياب في نسبته للخالق؛ فقد وثـّق، أو أدنى شكّ في إمكانية استيعابه للإنسان في كل أحواله وظروفه، فقد حُقـّق، والسؤال الذي شكل الباعث لدي لكتابة هذا البحث هو أنه:
إلى أي مدى يحسن المسلمون اليوم التعامل مع هذا النص؟
وإلى أي مدى يأخذون بالاعتبار إدراك الواقع المتغيّر والمعقد بآلات فهم علمية، ليكونوا قادرين على بسط الإسلام على حياة الناس وتقويم سلوكهم بشرع الله؟ أي إلى أي حد يعي المسلمون الخطاب الإلهي والمخاطب الإنساني ومنهجة وصل الثاني بالأول صلة خاصة. وضرورة داخلية مستوعبة.
تلك هي المعادلة المطلوبة والمفقودة لدى مسلمي اليوم، وبدونها لا تتحقق القيادة للناس والشهادة عليهم، التي هي من وظائف هذه الأُمة وخصائصها:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النـّاس ويكون الرسول عليكم شهيدا)([1]).
ولعلنا إذ نساهم في تبيان قواعد قراءة هذا النصّ الإسلامي، الزاخر بالفهوم والأحكام، نكون قد أدّينا بعض واجب علينا حيال هذه الصحوة. التي ينتظر منها التفصيلُ بعد الإجمال، وتحويل الدين – الذي هو تعاليم ونصوص إلهية ونبوية – إلى تديُّن فاعل واعٍ، أعني إلى موقف إنساني، يحقق للإنسان هدفه وبعده ووجوده، دون المكوث في ساح الشعارات التي لاقت.
هذا رجاؤنا، وما أجمل الرجاء في حضرة من لايُخيّبه، فهو وليّنا ونعم الوكيل، وها نحن أولاء نشرع في الحديث عن الأبعاد الاصطلاحية لـ(قواعد قراءة النص الإسلامي) إضافة ولقباً([2]).
وفق السيّاق الإسلامي، بحسب المخطط الذي مرّ في صدر هذه المحاضرة.
تمهيد: الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية
إن مفردات النصّ الإسلامي اكتسبت بعدا معنويا جديدا بسبب وجودها فيه، وقد أطلقنا على هذا البعد (الحقيقة الشرعية)، في مواجهة (الحقيقة اللغوية) التي كانت لنفس المفردة قبل تبني النص الإسلامي لها، ولم تعد المفردة هذه تستخدم حال إطلاقها – ضمن السياق الإسلامي – إلا في الحقيقة الشرعية، التي أعطيت لها من قبل الشارع، (فالحج) مفردة من النصّ الإسلامي لم تعد تطلق للدلالة على مجرد (القصد إلى معظّم)، وإنّما غدت مصطلحا يدلّ، ومن دون توقف، على (القصد إلى الكعبة المشرّفة)، وكذلك الصلاة. والصيّام، والرّسول، والنبي، والأمة،.. إلخ. والعلاقة بين الحقيقة الشرعية واللغوية علاقة تضمنية متبادلة، فقد تكون الشرعية أعمّ من اللغوية، كما هو الحال في الصّلاة([3])، وقد تكون اللغوية أعمّ، كما هو الحال في الصيّام([4]). وقد يختلف بُعدُ كل منهما([5]).
1- قواعد القراءة:
1- القواعد في بُعدها الشرعي:
فالقواعد تعني الأُصول والآليات، التي ارتضاها الشارع مفاتيح لاستنباط الأحكام من نصوصه الواردة عنه، والموثّقة النسبة إليه، وليس المراد بها أيّة قواعد، أو أيّة أُصول، وهنا يكمن الخلاف بين فئة تقتحم النص بأدوات لا تأخذ إذن الشرع عليها، وفئة تقتحم النصّ بالأدوات الملائمة بإقرار الشرع، وتصديق العقل الذي يقرُّ بوجوب الاشتراك في الصفة بين المقتحم والأداة، وهي أن يكونا شرعيّين، وإلا كان هناك تناقض بينهما وهذا مرفوض.
وإذا أردنا تحديد القواعد الشرعية لاقتحام النصّ الإسلامي واستنباط مفهوماته قلنا انها:
أ- اللغة العربية، أو (الضابط اللغوي)
اللغة ذات الحقائق القرآنية أو الإسلامية، اللغة المصطلحاتية أو الاصطلاحية وقواعدها، لأن النصّ ورد بها، واختارها وعاءً تظهر معانيه من خلالها، فكان لابدّ منها والإلمام بها، والتعرّف على أساليبها ونحوها وصرفها وبلاغتها([6]).
Pلِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ O([7]).
Pفَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَO([8]).
ب – المنطق وقواعده. أو (الضابط العقلي)
ونعني به: الخلفية الذهنية للتراكيب اللغوية، إذ تصدر عنها بعد أن يرتـّب العقل معانيها الترتيب الذي لا يتنافى وبدهيّاته ومصادراته وأحكامه، ضمن حدود الزمان والمكان، لتبقى الأعراف والعادات مظللة بالمعقولية المعايرة، وعلى ضوء المعلومة الخبرية الصادقة، التي وثق العقل بها ورودا عن الخالق، من خلال أدوات التوثيق التي أهل بها: Pوَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراًO ([9]).
ج - روح الشريعة ومقاصدها، أو (الضابط التكاملي أو الغائي)
أولاً – نريد به تمثـّل روح الشريعة بشكل عام، وفهم مقاصدها، والنظر في مآلات تطبيقها وليس هو منطقا أو عقلا مشخصاً ذاتياً. لأن النصّ الإسلامي ليس لغة فحسب، يفهم على أساس من قواعد اللغة وأساليب البيان، بل هو – قبل كلّ شيء – يمثل إرادة المشرّع من التشريع، ومن هنا يقول الشاطبي: (إن قصد الشارع من المكلّف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصد الله في التشريع)([10]).
وثانياً: نريد به اعتماد (منهج الغائية) في استنباط الأحكام من النصّ، أو المنهج القائم على اعتبار المصلحة المعتبرة شرعاً، أي تلك التي تتضافر عليها روح الشريعة ومقاصدها، واعتبار مآلات الأفعال في تطبيقها، ولهذا يقول الشاطبي رحمه الله: (من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شُرعت له فقد ناقض الشريعة، ومن ناقض الشريعة فعمله في المناقضة باطلٌ، فما يؤدي إليها باطل)([11]).
وإذا أردنا تحديد الناظم لروح الشريعة وفهم مقاصدها والنظر في مآلات تطبيقها قلنا إنه: (العدل الإلهي) متمثل في المصلحة المعتبرة شرعاً، من خلال فهم العقل العارف بالشريعة إجمالاً، وعلى هذا نفهم المقولة: (حيثما وجدت المصلحة فثمّ شرعُ الله) أي المصلحة المحقّقة للعدل الإلهي([12]). الذي يتقبله الإنسان بفطرته.
2- ظروف النص الأولى، أو (الضابط الظرفي)
أي معرفة الظروف التي حفت بالنصوص، فالوقائع والأحداث التي كانت أسبابا للنزول القرآني، وورود الحديث النبوي، تحمل من القرائن ومن متقضيات الأَحوال، ما يكون ضروريا في فهم المراد الإلهي من النصوص التي وردت في شأنها، والتغافل عنها قد يكون مدعاة إلى صرف المعنى عن حقيقة المراد إلى ما يخالفه أو يناقضه، من أجل هذا كان ابن مسعود يعلن اختصاصه بمعرفة الظروف التي ألمّت بنزول النصوص، فكان يقول: (والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت أية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت) ([13]).
ويتبع ذلك معرفة أحوال العرب وعاداتهم حال نزول النصّ، فإن النصوص نزلت على مقتضى هذه العادات والأحوال، فيتوقف فهم مرادها على فهمها([14]).
وقد يُشكل على بعضهم فهم علاقة المعنى الذي يتضمنه النصُّ. بالسبب الذي نزل فيه. فيقع الميل إلى تخصيص الحكم بذلك السبب أحداثا وأشخاصا، وفهمه على أنه مقصور عليه. وهذه نزعة نلحظ لها رواجا اليوم لدى من يرمون المروق من مبدأ الاستمرارية في الهدي الديني، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية، لكن الحكمة الإلهية لم تجعل الأسباب مضمنة في النص القرآني (على وجه الخصوص). بل ظل النصُّ هذا مصوغا في قالب كلي عام، حتى يبقى ذلك العموم في البيان مفيدا للعموم في الأحكام، مطلقا عن قيود التشخيص في الزمان والمكان، ولذلك قال الأصوليون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، فما بالك بمن يقصر الأحكام كلها على عصرها، ولا يعدّيها إلى سواه؟ معتبرا أنها تنزيلة نسبيّة إنسانية للمحتوى المطلق، مؤقّتة بوقتها، وعلى أهل كلِّ عصر أن يرموا جانبا ما أخذ من النص من أحكام، ليقدّموا بديلا عنها يعبّر عن عصرهم([15]).
2- العلاقة بين القراءة والفقه
والقراءة تعني الفقه([16]). في السيّاق الإسلامي العامّ، ولا تعني التلاوة فقط، وإن كانت من معانيها اللغوية، لكننا وبعد الرجوع إلى استخداماتها في النصوص الإسلامية وجدناها (فقهاً)، ويستمر العمق الشرعي ليدلّ الفقه بدوره على استنباط الأحكام ومعرفتها من خلال النصّ الإسلامي، هذه الأحكام هي التي تغطي كلّ الاحتمالات السلوكية التي تصدر عن الإنسان، منفرداً أو مجتمعا.
وإذا كانت القراءة منطلقا لعملية (الفقه)، فإن إرادة الفقه من خلالها إنّما أخذت من القاعدة اللغوية القائلة: (يطلق اللفظ على معناه الآن، وعلى مايمكن أن يؤول إليه، أو ما ينبغي أن يؤول إليه فيما بعد)، وما كانت القراءة، والدعوة إليها في النصّ الإسلامي، إلا من أجل أن تتحول إلى فقه وفهم عميق:
(أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ([17]).
(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ([18]).
ولن يتفقهوا إلا بعد المرور بمرحلة القراءة، التي هي الفقه باعتبار ماستكون، وفي هذه الكلمة (المصطلح) تتّحد الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية، لتشكل مفهوما واحداً ينعكس عن منطوق القراءة على سبيل الترادف بين القراءة في الشرع والقراءة في اللغة، فهما كالكلمتين المختلفتين باللفظ باعتبار اختلاف الوضع، إذ اللغة لها مصطلحاتها الصّرفة، وكذلك الشرع.
2- النص الإسلامي تحديداً وموقعا
1- تعريف النص الإسلامي وتحديده
وهو بكل بساطة ووضوح (القرآن الكريم)، و(الحديث الشريف) قولاً أو فعلاً أو تقريراً، إذا صحّت النِّسبة وحُكم على أحد هذه الأنواع الثلاثة بالقبول، من خلال علم قائم بذاته خصص لهذا، يسمى (مصطلح الحديث) أو (أُصول الحديث) ([19]).
ولهذا يقول الشيخ محمّد أبو زهرة: (نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية هي التي يقوم عليها كلّ استنباط في الشريعة الإسلامية) ([20]).
وإنّ المستند النّصّي لنصيّة القرآن الكريم والسنّة النبوية والحديث الشريف الآية الكريمة: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ([21]).
والحديث الشريف الذي يقول فيه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنّة رسوله) ([22]).
2- موقع النص في التصور العام للإسلام
ويقرُّ المسلم – اعتقادا – أنه مخلوق، وأن هناك خالقاً، انبثقت عن الخالقية هذه حاكمية مطلقة على المخلوق بشكل عام، والمخلوق المكلّف الذي هو الإنسان بشكل خاص، وها هو ذا القرآن الكريم يعلن ذلك في أكثر من موطن وموضع، نذكر بعضها تمثيلاً لا حصراً: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)([23]).
(إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إيّاه) ([24]).
(والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب) ([25]).
فعلى هذا يكون الحاكم هو الله، والمحكوم عليه هو الإنسان، من خلال أفعاله وأقواله وإشاراته التي هي بدورها المحكوم فيه.
والحديث الشريف، الصادر عن رسول الحاكم، يُلحق بالنصّ الصادر عن الحاكم، ويشكل معه النص، لأنّ الله أوكل إليه تبليغ نصّه وشرحه وتبيانه، فكان منه:
(يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرَّسول إذا دعاكم لما يحييكم)([26]).
ومافي النصّ من خطاب هو الحكم([27]).
خلاصة
المعنى اللقبي لـ(قواعد قراءة النص)، وقد غدت علما، تحت عنوان يطلق عليه علماؤنا (أُصول الفقه الإسلامي).
وفي النهاية، وبعد أن عرّفنا (قواعد قراءة النصّ الإسلامي) تعريفا إضافيا، يحسن أن نذكر مجملين (التعريف اللقبي) ليغدو هذا العنوان (قواعد قراءة النص) علما على ما ذكرنا مجموعا، وكأنه كلمة مفردة، لا يدلّ جزؤها على جزء معناها، فنقول:
(قواعد قراءة النصّ الإسلامي) هي: العلم بالأصول والأدوات – أو هي الأُصول ذاتها – الشرعيّة المعتبرة، من لغة، ومنطق، وفهم لروح الشريعة، وتمثل لمقاصدها، ونظر في مآلات تطبيقها، ومعرفة للظروف التي حفت بالنص، واستخدام كل ذلك في اقتحام (فقه – فهم) النصّ الصادر عن الحاكم (الخالق)، الذي هو الله، والنصّ الملحق به، الصادر عن رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن الثاني يلحق بالأول، بتقرير وإقرار الأول، لاستنباط الحكم من أمر ونهي أو وضع، ليتعلّق بفعل المكلف ويؤطره ويلتزم به المكلّف، فلا يخرج عنه، حتى يحقق من خلاله عبوديته لله وإسلامه له، إذ الفعل هذا محكوم فيه، ومن قام به محكوم عليه، يشترط له شروط لاعتباره أهلا للتكليف وقابلا للخطاب.
ويبقى النص ثراً، يمدّ المكلّف بأحكام تغطي كل احتمال لفعل أو قول يصدر عنه) ([28]).
فلنكن مسلمين حال ورودنا النصّ، ننهل بالأدوات الشرعية ما ينفعنا في اصطباغنا بالعبودية الحقة لله تعالى.
اللهمّ وفّقنا لتلاوة نصك، وبعدها لفهمه وتدبره، ثم لقراءته وفقهه واستنباط الأحكام منه وفق مايرضيك، واجعلنا لأحكام الوجوب منفذين بحب يسودنا، ولتلك التي هي الحرام من المجتنبين، أما المباح فاجعلنا ممّن يغتنم منه ما يساعده على القيام بالواجب وترك الحرام.
(والحمد لله رب العالمين)
الهوامش:
([1]). سورة البقرة: 143.
([2]).أي من حيث كونه تركيبا إضافيا يدل جزؤه على جزء معناه، ومن حيث كونه لقبا. إذ أضحى في دلالته على معناه شاملا كاملا لا يتجزأ، وكأنه لفظ مفرد لا يدل جزؤه على جزء معناه، فها هو ذا علم قائم بذاته. مهمته سبر النصّ واستخراج الحكم منه، على تفاوت في الاضطلاع به حيال النصوص المختلفة وضوحا وخفاء. منطوقا ومفهوما.
([3]). الصلاة في اللغة (الدعاء). في حين أنها في الشرع (أفعال وأقوال مخصوصة) وتشمل فيما تشمل الدعاء.
([4]). الصيام في اللغة (مطلق الإمساك) لكنه في الشرع إمساك مخصوص في وقت مخصوص.
([5]). اختلاف البعدين: ماورد في سنن أپي داود والترمذي والطبري، من أن المسلمين يوم حاصروا الروم في القسطنطينية، حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فاعتبر هؤلاء أن أخاهم الذي غامر واخترق صف العدو قد ألقى بيده إلى التهلكة، مخالفا قول الله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، فقام الصحابي أبو أيوب الأنصاري وقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الأية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار. لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه: فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة / 195. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. قال راوي الخبر: فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دُفن في أرض الروم.
([6]).وقد نشأت في تاريخ الفكر الإسلامي من عدم التقيد بأدب اللغة العربية أفهام غريبة عن حقيقته، بل مهدرة لتلك الحقيقة أحياناً، ويكفي في ذلك مثالا ما آل إليه غلاة الباطنية (المتأولة) من تفسيرات لنصوص القرآن والحديث، تكاد تؤلف دينا آخر غير دين الإسلام. ويقابل هؤلاء قوم من الظاهرية، الذين قصروا دلالات اللغة على ظواهر اللفظ، وتحللوا من قانون اللسان العربي في المجاز، الذي هو ركن عظيم في الدلالة على المعاني. انظر: (في فقه التدين). د. عبد المجيد نجار.
([7]). سورة النحل: 103.
([8]). سورة الدخان: 58.
([9]). سورة النساء:82.
([10]).انظر: الموافقات 2 : 331.
([11]). انظر: الموافقات 2: 333.
([12]). ضمن هذا الأصل نفهم فقه عمر(رض) في منع قطع يد السارق عام المجاعة. وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة. ويمكن أ ن نطبق فروعا وفروعاً غيرها.
([13]). انظر: الموافقات 4/228.
([14]). انظر: الموافقات للشاطبي 3/225. والمستصفى للغزالي 2/61. وكان عمر بن الخطاب يقول: (عليكم بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم). نقلا عن : (مصادر التشريع ومناهج الاستنباط). د. محمّد أديب الصالح. ص 60.
([15]). انظر: (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة). للدكتور محمّد شحرور، ص 32.
([16]). لعله استئناس أن نذكر بأن مادة (قرأ) وردت في القرآن الكريم باشتقاقات مختلفة عشرين مرة – دون كلمة (القرآن) أو (قرآن)، التي عددناها علما على كتاب الله ولم نعدها من اشتقاقات (قرأ) - في الوقت الذي ذكرت فيه مادة (فقه) مع اشتقاقاتها عشرين مرة أيضاً. وهذا يؤكد انطابق الحقيقتين الشرعيتين على سبيل البدل، وإن كانت كلمة (الفقه) أشهر في الدلالة على ما ذكرنا من كلمة (القراءة) في السياق الإسلامي والفكر الإسلامي والفهم الإسلامي المنبثق عن النصّ الإسلامي.
([17]). سورة محمّد:24.
([18]). سورة التوبة:122.
([19]). وقد يطلق على (الحديث) بهذا المعنى مصطلح (السنة) وبعضهم خصص (السنة) بالحديث الفعلي والتقريري، (والحديث) بالقولي، وبعضهم عمّم إطلاق (السنة) على الكل، وخصص الحديث (بالقول) فقط، انظر: (منهج النقد في علوم الحديث) للدكتور نور الدين عتر.
([20]). في كتابه (أُصول الفقه)، ص 185.
([21]). سورة الانفال:24.
([22]).أخرجه مالك في الموطأ.
([23]).سورة الأنعام: 57.
([24]).سورة يوسف: 40.
([25]).سورة الرعد: 41.
([26]).سورة الأنفال: 24.
([27]).ومن هذه الحيثية تتحدد مواضيع أُصول الفقه وهي:
ألف - الحاكم: (الله ورسوله) وما يصدر عنه من نصوص، وما يمكن أن تفرزه هذه النصوص من أدلة أخرى معتمدة من قبله. حال غياب النصّ الجلي، من إجماع وقياس واستحسان واستصلاح واستصحاب وشرع من قبلنا وعرف وسد للذرائع ومذهب الصحابي، على خلاف بين الأئمة في تسمياتها واعتباراتها. ويتصل بذلك دراسة النصوص وروداً ودلالةً ووضوحاً وخفاءً وعموماً وخصوصاً ونسخاً واستمراراً وأمراً ونهياً.
ب - والحكم: وهو الخطاب من النصّ، وتعلقه بأفعال العباد، وضعاً أو طلباً أو تجهيزاً.
ج - والمحكوم فيه: وهو فعل المكلف من حيث كونه متعلق الخطاب.
د - والمحكوم عليه: وهو الإنسان من حيث كونه محلّ الخطاب.
([28]).أطلنا في التعريف من أجل التوضيح، وابن خلدون يقول معرفا هذا العلم بشكل مختصر أكثر: (أُصول الفقه: وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتكليف. وأصول الأدلة هي الكتاب ثم السنة النبوية المبينة له. بما يصل إًلينا منها قولا أو فعلاً أو تقريرا بالنقل الصحيح). انظر: (المقدمة)، ص 452.
ويقول عن هذا العلم أيضاً في نفس الصفحة من المقدمة: (أُصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدراً وأكثرها فائدة).
- ومن المناسب أن نذكر في نهاية هذا المطلب لمحة موجزة عن مدارس التفسير (للنصوص) في القانون الوضعي، لنرى الفرق بين ما اعتمد من منهج في تفسير النص الإسلامي، وما اعتمد من منهج في تفسير القانون الوضعي. وأهم هذه المدارس هي:
ألف - مدرسة الشرح على المتون أو (التزام النص): نشأت في أوائل القرن الماضي على إثر الثورة الفرنسية، وهي تقوم على تقديس النصوص والاعتداد بإرادة المشرع عند التفسير وتقديسها، (وهي بذلك تتصور إرادة مفترضة).
ب - المدرسة التاريخية: نشأت في ألمانيا، وتقول: إن دور المشرع لا يعدو أن يكون تسجيلا للقانون المتولد عن البيئة. وكأنهم حكموا عليه بالانهيار، فيما يخص الصفة الأساسية للقانون. وهي الثبات.
ج - المدرسة العلمية: جمعت بين محاسن المدرستين فهي التي تقول: إن لم يكن هناك نصّ يواجه الواقعة المعروضة، فلابدّ من اللجوء إلى المصادر الرسمية الأخرى ومن أهمها العرف(*).
والموسوعة الفرنسية تتحدث عن خلوّ القانون المدني من أية ضوابط أو قواعد في مضمار التفسير، مما جعل القاضي يفسر القانون عند الاقتضاء تبعاً لمواهبه المسلكية وحسب ذمته، وإن كان ذلك تحت رقابة محكمة التمييز. ولهذا كان الفقهاء الرومان يقولون: إن أحسن القوانين هو القانون الذي يترك أقل ما يمكن من الحرية لهؤلاء القضاة(**)
(*) انظر: (المدخل للعلوم القانونية) للدكتور سليمان مرقص. و(الموجز في المدخل إلى القانون) للدكتور حسن كيرة. و(أُصول القانون ) للدكتور مختار القاضي، و(المدخل إلى علم أُصول الفقه) للدكتور معروف الدواليبي، وكتابات العلّامة السنهوري كلها.
(**) La grande Encyclopedie des siences, des lettres,v des art” pages: 903-904.
ارسال نظر