مذكرة بشأن مشروع (تيسير الفقه)
الدكتور عبدالستار أبو غدة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
لا يخفى موقع علم الفقه في الدين، فانه أهم علومه بعد العقيدة التي يكفى فيها الاعتقاد الصحيح الجازم ولو كانت نتيجة فطرة خالصة من الشوائب، فالفقه هو الترجمة العملية لما جاء به الكتاب العزيز والسنة الشريفة. وهو أيضاً الضبط الأصيل لما استظلت به العهود الإسلامية من نهج قويم أمكنها به الابقاء على أصالتها، والحفاظ على ثوابتها، ووضع المعايير الصحيحة لمتغيراتها.
والفقه علم ميداني لا ينمو ولا يزكو إلا بمقدار صلته بالواقع الحي ومعالجته للتصرفات الواقعة للناس في معاشهم وعاداتهم، ولا يتم له ذلك إلا بتقريبه إلى أفهام العامة ليكون في دائرة استفادتهم منه، كما يستفيدون من علوم أخرى اجتماعية أو مهنية ظهرت في صور مبسطة دون اخلال بمقولاتها التخصصية. فانهم الآن محجوبون عن الفقه بسبب اسلوبه الخاص بأهل التفرغ له، ويشعرون أن بينهم وبينه حائلا كثيفا، وأنه لفئة معينة ليسوا منها ولو كان لهم حظ من الثقافة أو التعمق في علوم أخرى. مع أن الفقه ما هو إلا (الأحكام العملية) أي التنظيم الواقعي لكل مايعمله الناس.
وأكتفى بهذه التوطئة قبل الكلام في صميم الموضوع من خلال العناوين التالية:
- أسباب صعوبة الكتب الحالية للفقه.
- دواعي تيسير الفقه ومحاولاته ونتائجها اجمالا.
- خصائص مشروع (تيسير الفقه) المقترح.
- الوسائل الشكلية للمشروع.
- الاجراءات الفنية للتنفيذ.
أولا – أسباب صعوبة كتب الفقه الحالية
لا يخفى أن هناك عدة عوامل للصعوبة الملحوظة في الكتب الفقهية الموجودة وفيما يلي اشارة إليها مع التأكيد بأنها لم يكن لها مثل الأثر السلبي الذي نواجهه الآن بسبب اعتياد أهل العصور السابقة على ذلك فضلا عما كانوا يبذلونه من اهتمام وتجرّد وما نذروا أنفسهم له مما أصبح الآن نادرا أو شبه معدوم:
أ – الشكل الغالب على كتب الفقه (كغيرها من كتب العلوم) بناؤها التأليفي على طريقة المختصرات (المتون) المتبوعة بالشروح ثم الحواشي وربما التقريرات.. مما نشأ عنه للقارئ المعاصر انقطاع الأفكار في المسألة الواحدة وصعوبة تتبعها في تلك المؤلفات المندمجة في مؤلف واحد.
ب – الأسلوب العلمي الجزل الذي كتبت به حيث يقتصد المؤلف في اللفظ على حساب المعنى. وليس معنى هذا تفضيل الأسلوب الادبي بل الدعوة إلى الأسلوب المرسل الذي لا تقال فيه العبارة المحتاجة إلى شرح، بل يذكر الكلام الواضح مباشرة..
ج – الاختصارات في القيود، وفي حصر الخلاف والتقسيمات، واستخدام الرموز للكتب والمؤلفين بطريقة مختزلة موهمة.
د – عدم تطوير الأمثلة مع استدعاء الحاجة العصرية ذلك، ليس في حاضرنا بل منذ عصور خلت، فقد ظلت الأمثلة كما هي مع الحاجة إلى تبديل بعضها أو الحاق أمثلة جديدة.
هـ – الاخلال بذكر الأدلة بأنواعها من منقولة أو معقولة. وحين تذكر الأدلة لايلتزم فيها الصحيح من الأحاديث أو المقبول، مما اقتضى تصنيف كتب خاصة لتخريج مافي كتب الفقه من أحاديث وآثار.
و – الفصل بين مسائل الفقه التي يجرى فيها التقاضي وبين مسائل فقهية تطلب على سبيل الديانة وهي مايسمى (الآداب الشرعية) أو أبواب الحظر والاباحة أو الكراهية والاستحسان، مما أورث الفقه بعض الجفاف وفسح المجال لكتب يغلب عليها الوعظ والورع المؤدى إلى الحرمان من كثير من الرخص والمباحات..
ز – الاستقلال التام في عرض المذاهب، دون أى مقارنات يهدف تحقيق المصلحة، بل قد تجرى المقارنة لابداء التفوق ويكون العرض مشوبا بالميل للمذهب المتبنى للمؤلف أن لم يتعد إلى مواقف سلبية. مع ان ثراء الشريعة وكمالها لا يتحقق إلا من خلال جميع الفقه المستمد منها.
ح – الاقتصار على ذكر المصطلحات الفنية دون شرحها، والاكثار من الألفاظ الغريبة، وهذا استدعى وضع تآليف معروفة لشرح المصطلحات، ولتفسير غريب الفاظ كتب الفقه.
ثانيا: دواعي تيسير الفقه ومحاولاته ونتاجها اجمالاً
كانت لكل عصر محاولاته في تقريب الفقه إلى أهل ذلك العصر، ويعرف ذلك من تتابع التآليف واختلاف حلقاته ومستوياته بالطريقة المألوفه، والقائمة على اعادة الاختصارات أو تجديد الشروح.
ولكن لا ندري هل بلغت الثقافة – من حيث العموم والشمول للافراد – ما بلغته الان على مافيها من دخل أو ضعف نوعي.. ويهمنا الان النظر في العصر القريب وهو خلال القرن الرابع عشر الهجرى حيث اعتبرت بعض المشاريع الفقهية ماقبله ملحقة بعهود الكتابة العلمية الملتزمة إذ كانت للعبارات موازينها الخاصة وكان المشتغلون بالكتب يضيقون ذرعا بكل ماليس له فائدة الاحتراز أو التقييد أو زيادة معنى فسيعتبرون حشوا وتطويلا في العباره. في حين اختلفت الكتابة العصرية للعلوم مع بداية القرن الرابع عشر بالتخفف من ذلك الالتزام، وغلبة أسلوب مزيج بين العلمي والادبي غابت فيه الحبكة وكثرت فيه المتراد فات واعادة المعاني بعبارات متعددة والتسامح في ترتيب الفكره والاكثار من التمهيدات أو التذييلات.
ولهذا التغيير ظروفه من مثل غياب التعويل التراثي على العلم الشرعي كعمود فقرى لأصل المعرفة تتشعب منه بقية العلوم والاختصاصات وظهور (التعليم العام) بمراحله المختلفة وانواعه التي احدها التعليم الشرعي. فاحتيج إلى تبسيط الفقه لتؤخذ منه مقررات للتربية الإسلامية ومقررات شرعية لكليات الحقوق ولاسيما في احكام الاسرة والعقد والملكية الخ... واحيانا في العبادات، فضلا عن أُصول الفقه وتاريخه.
وكانت هذه الكتابات جزئية وغير منتسبة إلى مذهب بعينه، والكتب في هذا المجال كثيرة معروفه. وقد أثراه أيضاً الرسائل العلمية للدرجات الدراسية والترقية وابحاث المؤتمرات والندوات فبالرغم من عمق موضوعاتها فان اسلوبها لم يخرج عن الاساليب الميسرة المألوفة في عصرنا.
على انه ظهرت مبادرات لبعض المؤلفين لاعادة عرض فقه المذاهب (منفصلة) باسلوب يراد به المعاصرة مع تفاوت نسبة النجاح في تحقيق ذلك.
وهذه الزمرة لم يكتب لها الشيوع ولا مواصلة التطوير لأنها لم تعالج إلا قليلا من الصعوبات المشار إليها.
وهناك كتابات لم تقتصر على موضوع واحد أو زمرة، كما لم تختص بفقه مذهب ما، بل شملت كل الأبواب وراعت جميع المذاهب أو اكثرها. وهذه الكتب معدودة، ولكل منها طابعه الخاص... ومن المتبادر ذكره منها: الفقه على المذاهب الاربعة للجزيرى، وفقه السنة لسيد سابق، والفقه الإسلامي وادلته للزحيلي. ورغم ما تحقق بها من نفع عاجل في حالة الفراغ والعوز الملحوظة فان الحاجة مازالت قائمة إلى اعمال منهجية تهدف بصورة اساسية إلى تيسير الفقه في المضمون، وتطويره في الشكل، ليستعيد دوره بين جمهرة المسلمين للعلم والعمل في عصرنا الحاضر ومابعده...
ثالثا – خصائص مشروع (تيسير الفقه) المقترح
لن يكون الكلام هنا بتفادي السلبية فقط، بطريقة قلب الصعوبات للتعبير بأضدادها، فان التيسير هدف أكبر من تحاشي الصعوبات فهو عمل ايجابي يقتضي بيان الخصائص المطلوب توافرها في المشروع وهي:
أ- كتابة الفقه بأسلوب مرسل، لا أثر فيه للاختصار بقصد الاختصار، بل يعمد إلى الشرح الذاتي الذي يستغني فيها عن الشرح اللاحق، مع تحاشي التركيز في العبارة، أو الايجاز في التقسيمات.
ب – تقديم التمهيدات والتوطئات التي يقتضيها المقام لاعطاء التصور العام للموضوع أو المسألة وتحديد موقع ذلك مما قبله. هذا ليس بدعا من الأمر فقد أهتمت به بعض كتب الفقه، كالمقدمات لابن رشد الجد، وبداية المجتهد لابن رشد الحفيد وكتاب البدائع للكاشاني، والعناية شرح الهداية للبابرتي وغيرها. كما عنيت به بعض الحواشي اما تصديرا، أو تحصيلا في آخر العرض..
ج – الإشارة إلى جوامع الأدلة من الكتاب والسنة والاجماعات المسلمة وكذلك المستقر من وجوه المعقول والأقيسة، دون غوص في المناقشات الاستدلالية المحتملة للنزاع والايرادات والأجوبة.
د – الادماج المذهبي في عرض الأحكام، بالنظر إلى مافي المذاهب المعتبرة على أنه ثروة واحدة وان نسبتها إلى الأئمة المستقلين في الاجتهاد بمنزلة المقارنات الداخلية في المذهب الواحد بين مجتهديه المنتسبين وطبقات التخريج والترجيح مع اختيار الأوسع عرضا لجوانب الموضوع أو المسألة ليندرج فيه غيره ويبدأ ببيان (المتفق عليه) ثم يعقب بما هو (المختار) بسبب وضوح ادلته أو تسليم صحتها، أو بسبب ظهور تحقيقه لمقاصد الشريعة، أو بسبب اشتماله على اليسر في مواطن الحرج دون تأثيم أو تشذيذ.
وقد جرب هذا المنهج بصورة مبدئية في المؤلفات المدرسية فظهر نجاحه، وتفودي فيه مايؤدى إليه ابراز استقلالية المذاهب من محاذير لا تخفى على المشتغلين بالفقه من مختصين وغيرهم.
ثم هناك طرائق للربط بالمذاهب حفاظا على اصالة الفقه:
احداها: أن تبين المذاهب تفصيلا عقب كل متفق عليه أو مختار، وذلك في الصلب أو الهامش..
والثانية: ان يترك بيان ذلك أصلاً.
والثالثة: - وهي المفضلة – اتخاذ علامات فنيه في نوع الحروف أو مقاس السطر لتمييز المتفق عليه ثم يشار في الهامش عند الكلام عن المختار من مذهب أو مذاهب، لتحديدها دون التطويل بذكرما سوى ذلك. ولا ضرورة لتحديد المراجع عند هذا الذكر الاجمالي بل يخصص لسرد أهم المراجع موطن في آخر الموضوع أو المسألة – في الهامش – لمن أراد التوسع أو التثبت.
ومما يزيد هذا المنهج الادماجي سهولة أن يعتمد في عرض الفقه – سوى المتفق عليه أو المختار – طريقة بيان (الصفة المجزئة أو المأثورة) دون الاشقاق على القارئ بتحديد الدرجة التكليفية لكل جزئية، باستثناء التعقيب بما يبطل العبادة، أو يفسد التصرف. وقد سلك الفقهاء المؤلفون ذلك في العبادات في (باب صفة الصلاة)، و(پاب صفة الحج) إذ يضاف إلى هذين أبواب للصفة الكاملة لكل عبادة أو تصرف دون الاخلال بما يترتب على تركه أو فعله الابطال.. إذ يعرف من سرد المبطلات ان أي خلل آخر في (الصفة الكاملة) هو ترك للمسنون أو فعل للمكروه.
هـ – تحديث الأمثلة والتطبيقات بطريقة يؤمن فيها من خطأ التمثيل أو التوسع المخرج عن الصواب، فإذا كانت الأمثلة السابقة صالحة اضيف إليها، وان كانت قد خفت الحاجة إليها (كالدواب) أو زالت (كالرقيق) حذفت.
و- ادخال المسائل المستجدة التي في حكمها وضوح بما انتهى إليه الرأي في المجامع الفقهية اولجان الفتوى المشهورة، دون ما كان بحاجة إلى مزيد من البحث ففي مثل هذا النوع الاخير تحسن الإشارة إلى مايتم به التخلص من المحذور، دون استخدام عبارة جازمة بالحكم الذي لم يستقر بعد.
ز – العناية بحكمة التشريع، والتنويه بتاريخ التشريع وملابساته المأثورة مما لا يخفى دوره في تطرية العرض الفقهي وتسهيل الاقتداء والاستجابة.
وهذان الامران اوجزتهما الكتب الفقهية في الحواشي، فضلا عن الكتب المعروفة المفردة لذلك.
ح – التخفف من جميع المسائل النادرة أو النظرية (رغم المبدأ المنوه بأهمية هذا النوع بما ظهر من تطوير حوّلها إلى مسائل واقعة فان هذه الأهمية مقصورة على المختصين وموطنها المطولات).
رابعا: الوسائل الشكلية للمشروع:
أ- من الغنى عن البيان انه ينبغي استقصاء كل مايحقق لهذا المشروع السهولة واليسر عن طريق أساليب النشر والاخراج والحلية الشكلية. من مثل علامات الترقيم والاقواس والفقرات والعناوين وتنويع الخطوط وأصناف الحروف المطبعية وجودة الورق والحجم والتغليف... الخ.
ب – تقسيم الابواب الفقهية إلى القسمة الرباعية لتيسير حجم المشروع (العبادات، الانكحة، المعاملات، العقوبات مع الاقضية) ثم النظر إلى التبويب المشهور تحت عنوان (كتاب كذا) على انه مقسم كبير، والتعويل على ماعنون له بكلمة (باب) أو (فصل) ان كان ماتحته موضوعا يصلح للاستقلال بوجه ما.
ج – مراعاة المصطلحات العصرية، من حقوقية أو عرفية أو تجارية ولو كانت عامية مع وضعها بين اقواس، عقب المصطلح الفقهي، مع الإشارة إلى مايوجد بينها من اختلاف مذهبي في اختيار المصطلح أو استعماله، وكل هذا في الهامش ليخف وقعه على من لا أرب له في التفاصيل.
د – استخدام الفهارس الفنية بشتى انواعها للدلالة إلى مواطن المعلومات من خلال المصطلحات المرتبة ألفبائيا.
هـ – الحاق جداول بالابواب أو الموضوعات المحتاجة لذلك، وكذلك الرسوم والمشجرات والصور ذات الطابع العلمي الرصين مما هدفه الايضاح والتعليم.. وذلك عقب المسألة أو الباب ان كان وجيزا، أو في موطن آخر ان كان مسهبا.
خامسا: الاجراءات الفنية للتنفيذ
أ ـ وضع خريطة تبويبية شاملة لكل الفقه، ثم توزيع المقاسم الكبرى للكتابة فيها من خلال ابوابها المباشرة.
ب – التعويل على الكتابات الفقهية المعتمدة للاستمداد منها في المضمون والاستعانة بالمؤلفات القريبة العهد من حيث الأسلوب، والاستئناس بكتب الفقه المقارن (وينبغي جمع ذلك كله).
ج – تكون لجان فرعية كل منها يتواجد أعضاؤه في دولة واحدة، للاشراف المباشر، وهي تتبع اللجنة العامة (سواء بتشكيلها الحالي أو غيره) وتكوين (فرق عمل) تابعة بدورها للجان الفرعية.
ارسال نظر