الرد على شبهة فصل الدين عن السياسة
أحمد محمد أبو ضاهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين و الصلاة والسلام على سيدنا محمد و على آله بيته الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابته البررة الكرام و عمن تبعهم باحسان إلى يوم الدين و بعد:
من البداهة أن الصراع بين الحق وأتباعه و الباطل وأعوانه قديم قدم الانسانية. و أن هذا الصراع وصل ذروته عندما تجسد الحق بالاسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمان و نيف. قال الله تعالى:
(وقل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)([1]).
وفي كل مرحلة زمنية كان هذا الصراع يأخذ شكلاً معيناً، و تستعمل فيه أسلحة من نوع ما. وفي كل معركة يخوضها الحق مع الباطل و تكون الغلبة فيه للحق ينكفيء الباطل على نفسه يفكر في ابتكار اسلحة جديدة علّه من خلالها أن يصل الى مبتغاه.
ولما لم يجد جدوى من استعمال اسلحته المادية لجأ الى ابتكار جديد يتمثل في الدخول على الاسلام من باب ما يعرف بالغزو الثقافي الفكري لاسيما في القرون القليلة الماضية وحتى اليوم أي منذ ما يعرف ببداية النهضة الأوربية الحديثة والثورة الصناعية . بداية من القرن السادس عشر عن طريق الافكار المسمومة وهي كثيرة و متنوعة، من بينها فكرة أو شبهة فصل الدين عن السياسة أو عن العلم أو غير ذلك مستنداً الى واقع عاشته و مازالت تعيشه اوربا وغيرها. و تخصيص اوربا بالذكر لا يعني أنها صاحبة الامتياز بهذا الشأن، ولكنها الرائدة فيه بسبب علاقتها المباشرة مع المسلمين منذ عدة قرون.
و إشهار هذا السلاح من غير المسلمين على الاسلام ليس بالأمر العجيب ولكن العجاب من بعض من يتسمون بالمسلمين كيف تتكون لديهم القناعة بصحة و عمومية هذه الشبهات، ومن ثم الصاقها بالاسلام على الرغم من المناعة الفكرية التي تميز فكر هذه الأمة والمستمدة من القرآن الكريم ومن السنّة النبوية الشريفة يتمثل ذلك بتكفل الله سبحانه وتعالى بحماية مصدر هذا الفكر و صفاء ينبوعه بقوله عز و جل :
(إنّا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون)([2]).
وما أرى إلاّ أن أمثال هؤلاء و بسبب ضعف ايمانهم قد أصيبوا بفيروس التقليد فما اضطربت أفكارهم و فقدوا السيطرة على ألسنتهم و أقلامهم وهذا لا يعني أن يدير المسلمون ظهورهم لكل جديد من الحضارة بل على العكس من ذلك فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث يجدها و لكن عليهم قبل كل شيء أن يُميزوا بين الحضارة والثقافة لأن الحضارة مادة والثقافة فكر.
و إذا كانت الحضارة عامة و شاملة فإن الثقافة خاصة بكل أمة. تستمد جذورها من القيم الدينية و الخلقية ومن المفيد التذكير بأن الأمة الاسلامية عندما تأخذ من حضارة الغير فإنها تأخذ من حضارة لها سابقة في بنائها.
و أوربا ذاتها أخذت من حضارة المسلمين ولكنها لم تأخذ من ثقافتهم بل على العكس سخرت كل أسلحتها ضد ثقافتنا و فكرنا و الدعوى الى الأخذ بثقافة الغير المادية دعوى رفضها ويرفضها الفكر الاسلامي متجسداً بعلمائه و مفكريه.
لانّه يقوم على أساس الترابط بين الثقافة الروحية والثقافة المادية، ولأنه فكر له قاعدته الخاصة به، والقائمة على الاحتفاظ بذاتيته و مقوماته، يأخذ و يعطي و يتفاعل مع الافكار الأخرى بحدود، دون أن يفقد ملامحه الاصيلة.
وكل هذه الدعاوى المشبوهة مردها الى المحاولات المتكررة للمستشرقين الذين يصفون الفكر الاسلامي بالفكر الديني جرياً على التقسيم الذي عرفه الفكر الغربي بالفصل بين الدين والسياسة، وبين الاخلاق والاجتماع وبين العلاقة بين الله والانسان.
وكان هذا أمراً طبيعياً في بيئة الفكر الغربي الذي تشكل من خلال عناصر التراث اليوناني والتشريع الروماني واللاهوت المسيحي والعبث اليهودي ومن ثم الصهيوني.
و علماء المسلمين و مفكروهم و أصحاب الشأن في هذه الأمة إستناداً الى مرجعية حفظ الله تعالى لهذا الدين و فكره قد انبروا ماضياً و حاضراً بأقلامهم لمثل هذه الشبهات والافكار الدخيلة على الاسلام.
وان كتابتي حول شبهة فصل الدين عن السياسة لم تأت بشيء جديد من حيث هي. ولكن الجديد
هو إيجاز لعصارة ما كتبه المفكرون الاسلاميون حول الاساس و المنشأ والهدف من هذه الشبهة كي تكون في متناول أكبر عدد من المسلمين على اختلاف مستوياتهم ذاكراً ما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة من أدلة.
والحقيقة لا تبصر بالعين الواحدة، ولا تدرك بجزء من العقل ولا تفقه بأحد شطري القلب. بل لا بد من النظر اليها بالعينين للتمكن من ادراكها بتمام العقل وفهمها بكامل القلب.
والذين ينظرون اليها بعين واحدة ليدركوها بجزء من العقل و يفهمونها بشطر من القلب. إنما يستهدفون الى التضليل عنها لا الى الوقوف عليها. إما عن جهل وقصور أو تعمد بقصد الإساءة أو تقليد أعمى. وقد أنحى الله تعالى باللائمة على أمثال هؤلاء بقوله عز و جل :
(لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل اولئك هم الغافلون) ([3]).
وتعمد الاساءة أو التضليل عن الحقيقة اتخذ عدّة وجوه :
أولاً - من خلال المماثلة بين الاسلام و علمائه والمسيحية و رجال الكنيسة في القرون الوسطى. وهذه المماثلة بعيدة كل البعد و يستحيل تطبيقها على الاسلام أو اثباتها له.
لأن واقع فصل الدين عن السياسة في اوربا بل وعن بقية النشاطات الاجتماعية الأخرى جاء كما هو معروف وكما ذكر معظم المفكرين في اوربا نتيجة ردة فعل على ما كان يصدر عن رجال الكنيسة من تصرفات وعلى تحالفهم مع الملوك والافراد أنذاك انعكس سلباً على بقية أفراد المجتمع و وصل الأمر ذروته باصدارهم ما يعرف بصكوك الغفران مما أدى الى التمرد على الكنيسة و رجالها و تحجيم دورهم و جعل الدين في واد وكل ما يتعلق بشؤون الناس في كافة المجالات في واد آخر و ياليت الأمر وقف عند هذا الحد من التفريط بل حدث ما هو أكثر تفريطاً تمثل في إنكار الدين جملة و تفصيلاً عند فئة منهم وما المقولة المشهورة عن ماركس اليهودي: «الدين أفيون الشعوب» إلاّ تعبيراً عن وجه من أوجه ردة الفعل المفرطة تلك.
تكوّن نتيجة لذلك انطباع كامل لدى أفراد المجتمع مفاده أن رجال الدين «وهو تعبير قاصر عليهم» لا يفقهون شيئاً من أمور الدنيا ولا ينبغي بل ولا يصلح لأي منهم اسناد أية مهمة في أي مجال من مجالات الحياة العامة خارج اطار الكنيسة.
و مرد ذلك أن الشرائع السماوية التي سبقت الاسلام ربما لم تكن بنظر اتباعها تعني بشؤون الدنيا، و جل عنايتها كانت مجرد نصائح ساعد على ذلك عدم وضوح دراسة كافية عن النظم السياسية أو عن موقع السياسية في صلب هذه الشرائع. ولا أرى الخلل بهذه الشرائع بقدر ما هو في أتباعها لأنها شرائع سماوية منزهة عن كل شبهة شأنها في ذلك شأن الشريعة الاسلامية السمحاء.
بينما الرؤيا تختلف الى الاسلام فهو في الواقع دين و دولة، و من ينظر في كتاب الله و سنّة رسوله o يجد بأن الحديث جاء عن الله و ملائكته والانبياء والجنة والنار وكل أنواع العبادات كذلك يجد بأن الحديث جاء بأكثر من آية وحديث عن شؤون الدنيا وعن القوانين والنظم التي ينبغي على المسلمين الالتزام بها. فمثال ما ورد في القرآن الكريم قول تعالى:
(و أحلّ الله البيع و حرّم الربا)([4]).
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه و ليكتب بينكم كاتب بالعدل)([5]).
وهذا غيض من فيض يؤكد على عدم اقتصار تنظيم العلاقة بين الانسان و ربه فحسب، و لو كان الأمر كما يدعون لكان من الممكن ترك شؤون هذا الدين كله لله تعالى يراقبها ولا علاقة للانسان به، ولكن على العكس من ذلك نجد في الاسلام جانباً كبيراً ينظم علاقة الانسان بالانسان، ويرتب سبل العيش في مختلف شؤون الحياة. اضافة الى ذلك لم يكن الاسلام في يوم من الأيام حكراً لأحد أو على أحد ولا لفئة على حساب أخرى بل هو دين كل متبع له مؤمن بتعالميه، دون امتيازات ولا خصوصيات ودون تفريق بين الاجناس والعروق، وبين الالوان واللغات.
قال الله تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)([6]).
ولم يكن الاسلام بما يتضمنه من مقومات استمرارية و عوامل حفظ أن يكون في يوم من الايام موضع استغلال من قبل أي فرد، أو فئة، و إن وجد مثل ذلك عند البعض فانما يكون عند ضعاف النفوس الذين لا يفهمون الاسلام على حقيقته كذلك لم يوجد بين علماء المسلمين على مر العصور و حتى يومنا هذا من يدعي الاستئثار بوضع خاص له في هذاالدين أو الافضلية على الغير وان وجد ذلك في المجتمعات الاسلامية فهؤلاء لا يشكلون حتى ولا أعشار علماء في هذا الدين.
لان علماءه و مفكريه قد شهد الله لهم بالمكانة الرفيعة بهم من خلال قوله تعالى:
(شهد الله أنـه لا إله إلاّ هـو والملائكـة و أولوا العلـم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم )([7]).
ثانياً : عن طريق الافتراء على هذا الدين بقولهم ان الاسلام كغيره من الاديان ما هو إلاّ سلسلة فكرية بدايته كانت بالكهانة والتنجيم. ثم ترقت الى السحر ثم الى الادعاء بالنبوة التي امتصت كثيراً من التقاليد فجعلت لها تلك القداسة الروحية.
و لقد ألف المسلمون في صدر الاسلام مثل هذه الافتراءات من المشركين وغيرهم آنذاك وقد رد الله عليهم أي على المشركين بقوله عز وجل :
(ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)([8]).
و غوغائية هؤلاء و أمثالهم لن تفيدهم في شيء مما يهدفون اليه وما على المسلمين إلاّ أن يسلكوا سبل الهداية التي أرشدهم الله اليها بقوله :
(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)([9]).
وقال تعالى : (ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)([10]).
ثالثاً - عن طريق فئة المقلدين، و هؤلاء ليسوا بأكثر من مجرد صدى لغيرهم بهرهم الغث من النهضة الاوروبية دون الاستفادة والافادة من سمين هذه النهضة في نواحي متعددة.
وعلى المسلمين عدم الجري وراء هؤلاء. و القرآن الكريم حذر من مغبة السير على نهجهم بقوله مخاطباً سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب من بعده لأمته :
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير)([11]).
وقال أيضاً :
(ولئن اتبعت أهواءهم من بعدما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)([12]).
واتباع هؤلاء يترتب عليه فساد السموات والأرض قال تعالى:
(ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن بينها).
والملاحظ ان اثارة هذه الشبهات بالاوجه الثلاثة السابقة تحكم بظروف زمنية و مكانية تختار بعناية وعن خبث.
فالمعروف ان في هذا الربع الاخير من القرن العشرين الميلادي بدأت تلوح في الافق بواد صحوة اسلامية عامة و شاملة وحدثت متغيرات هامة على الساحة الاسلامية أهمها بروز دور فاعل و مؤثر لعلماء المسلمين على الساحتين الاسلامية والعالمية تجلى في قيام الثورة الاسلامية في ايران واستلام العلماء العاملين المخلصين لامتهم فيها زمام الأمور و مساهمتهم في ادارة سفينة نجاة هذه الأمة الى بر الامان والسلامة.
ومنها ادراك المسلمين على اختلاف مستوياتهم و مسؤولياتهم للمخاطر الجمة التي تواجههم في الظروف الصعبة وفي خضم المتغيرات الدولية الكبيرة مما حذا بعلماء المسلمين الى عقد المؤتمرات والندوات و بدعم من سلطان الحكم في بلدانهم بمختلف أنظمتها واتجاهاتها وهذا أمر طبيعي لان تلك السلطات لا يمكن أن تكون بمنأ عما يعترض مسيرة أمنهم من أخطار و هم المؤتمنون على مقدراتها الراعون لشؤون شعوبها الساهرون على أمن وسلامة بلدانهم.
وما هذا اللقاء الاسلامي الذي ترعاه الجمهورية الاسلامية الايرانية إلاّ تعبيراً عن أوجه هذه الصحوة و تنشيطاً لفاعلية هذه اللقاءات و التأكيد على استمرارها.
ولهذا ليس بالأمر الغريب أن نقرأ و نسمع و نشاهد مروجي هذه الشبهة يطلون برؤوسهم في هذه المرحلة. لان مثل هذه اللقاءات و الحوارات بين المسلمين تؤرقهم مستأنسين بمسيرة التاريخ وما تحمل اليهم من أخبار ولان هذه المسيرة تشهد بأن قادة الحركات المناهضة لقوى البغي والعدوان على هذه الامة و رسالتها وفي أي قطر اسلامي هم رجال الفكر والعلم الذين يجمعون بين فقه أحكام الدين وفقه أمور الدنيا بسبب صدق توجههم وسلامة نواياهم والذين يقولون بفصل الاسلام عن السياسة يتجاهلون مدلول كل منهما والعلاقة بينهما.
و ادراك هذا المدلول و تلك العلاقة من خلال المعاني اللغوية والاصطلاحية لكل من الدين والسياسة.
فالدين كماورد في كثير من التعاريف وضع الهي سائد لذوي العقول السليمة باختيارهم لما فيه صلاحهم في الحال و المال في الدنيا والآخرة و بشقيه التعبدي والتعاملي.
و السياسة هي فن و اسلوب تربية وتعليم الانسان وعلم سلوك جماعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاخلاق، وهي كذلك طريقة رعاية شؤون الامة بالداخل والخارج وارشاد أفرادها الى طرق تدبر معاشهم على سنن من العدل والاستقامة بغية تكوين مجتمع متكامل.
هذان التعريفان المجملان لكل من الدين والسياسة يبينان بوضوح ان العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص وعلاقة تداخل.
فالدين وضع الهي يتضمن الجانب التعبدي والجانب التعاملي. و بيان الجانب التعبدي هو المهمة الاولى لكل رسول. ونحن نعرف ان النبي o كان جهده بادئ البدء منصباً على تحقيق هذه المهمة في المرحلة الاولى من مراحل الدعوة الاسلامية. وهي مرحلة وجوده في مكة المكرمة.
وعندما هاجر الى المدينة بعد ابرام البيعتين المعروفتين ببيعتي العقبة الاولى والثانية. حيث أصبح للمسلمين حيّزاً مكانياً، و أصبح لهم شوكة وضع مبادئ دستور الدولة الاسلامية مضمناً إيّاها كل ما يتعلق بالجانب التعاملي وكل ما يتعلق بشؤون المسلمين الخاصة والعامة الداخلية والخارجية في الصحيفة التي كتبها للمسلمين.
وفي مقدمة هذه الصحيفة وفي الفقرة الاولى منها يؤكد فيها النبيo مبدأ وحدة المسلمين الذي ورد ذكره في القرآن الكريم بقوله تعالى: (إنّ هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)([13]).
و بقوله تعالى : (إن هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاتقون)([14]).
والنبي o يجسد هذه الوحدة و يؤكد عليها بقوله: «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، انهم أمة واحدة من دون الناس الى قوله عليه الصلاة والسلام: وان المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى وسيعة ظلم (أي الدفع والعطية) أو اثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم، وأن المؤمنين موالي بعضهم بعضاً دون الناس.
ومع التأكيد على مبدأ وحدة المسلمين زماناً ومكاناً لم يتجاهل عليه الصلاة والسلام حق المواطنية لغير المسلمين بل أكد على هذه الناحية نصاً بقوله : «وأنه من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم» ولكن ذلك مرتبط بمدى قيامهم بالواجبات المترتبة عليهم تجاه المسلمين و البلاد التي يقيمون فيها.
فاختلاف الدين بمقتضى أحكام هذه المادة ليس سبباً للحرمان من مبدأ المواطنية كما هو الحال في كثير من دول العالم حاضراً و ماضياً.
هذه الوحدة جعلت أحد المستشرقين الاوربيين يقول عنها: انها وحدة خطيرة، لأنها تحيط بأوربا احاطة محكمة تعزلها عن العالم، و يتابع قوله ان الاسلام قد انتشر انتشاراً سريعاً في فترة لا تتجاوز قرنين من الزمن.
وقد كان من أبرز هذا الانتشار السريع الذي تكونت خلاله الحضارة الاسلامية انها نشأت حضارة موحدة. ولهذا لم يكن هناك فرصة لتأثير العناصر الاقليمية المختلفة والثقافية المتباينة عليها. ولم يكن الاسلام ديناً ساذجاً، ولكنه نشأ نظاماً كاملاً شاملاً للحياة. هذه الوحدة هي التي أرسى قواعدها الرسول عليه الصلاة والسلام وهي التي يتكلم عنها المستشرق «جب» والتي يحاول المستعمرون التماس الوسائل لتفتيتها ومن هذه الوسائل الصاق الشبهات بها بغية زعزعة ايمان أصحابها بها.
و نجد في الصحيفة اقراراً لمبدأ المساواة بين أفراد هذه الأمة حينما يقول عليه الصلاة والسلام:
«ان ذمة الله واحدة وأن المسلمين يجير عليهم أدناهم وأن بعضهم موالي بعض دون الناس».
دون اغفال لموضوع الأمن الداخلي حيث شدد بالاخذ على أيدي المجرمين، و إنزال العقوبات التي يستحقونها، و أنه لا يحل لمؤمن أقر بما في تلك الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه وأن من ينصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه عدلا ولا صفح (أي لا يؤخذ منه فداء ولا تقبل منه توبة).
وفي احدى فقرات الصحيفة يُقر الرسول o مبدأ العقوبات الفردية بصيغتين يندر مثيلهما في عالم اليوم.
الاولى: شخصية العقوبة، أي حصر العقوبة في شخص من ارتكب الجرم دون أن يتعدى ذلك الى أحد غيره بقوله o ولا يأثم امرؤ لحليفة. و أين هذه القاعدة مما يطبق تحت مظلية ما أصبح يعرف النظام العالمي الجديد حيث تفرض العقوبات الجماعية على شعوب بأكملها فيموت الآلاف بل الملايين جوعاً و مرضاً و أين ما يطبق من قوانين و ضيعة من قوله تعالى:
(ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)([15]).
وقوله تعالى :
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله ان الله خبير بما تعملون)([16]).
هذا بعض ما يتعلق بالجوانب السياسية الداخلية.
ولم يغفل النبي o الخطوط العريضة لما ينبغي أن تكون عليها السياسة الخارجية سواء في مجال الدفاع عن البلاد والعباد أو في مجال التعامل مع الآخرين أو في مجال المعاهدات والمواثيق.
ففي مجال الدفاع عن البلاد عمقت مفهوم الجهاد الذي حث عليه الله سبحانه تعالى بقوله :
(انفروا خفاقاً و ثقـالاً و جاهدوا بأموالكـم و أنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) ([17]).
لقد ذكرت الآية الجهاد بالمال مقدماً على الجهاد بالنفس مع العلم أن الجهاد بالنفس أسمى ما يجود به المرء، وتقدم الجهاد بالمال لا لكونه مقدم من حيث الاعتبار على الجهاد بالنفس ولكنه من حيث الواقع يعتبر المقدمة للجهاد بالنفس وهي مرحلة يتم فيها إعداد الجند و تهيئة الجيش و تأمين كل مستلزماته من طعام و كساء و سلاح. لأنه من غير الممكن ولا من المعقول أن يرسل الجندي الى المعركة دون أن تهيأ له السبل المادية لتكون جنباً الى جنب مع النواحي المعنوية كلها مجتمعة تكون عوامل النصر بعد الاعتماد على الله والتوكل عليه ولعل ما بلغت النظر في الصحيفة النبوية والذي يدور الحديث قوله في وقتنا الحاضر بين مؤيد و معارض موضوع ابرام الصلح مع الآخرين فقد نصت الصحيفة على منع الصلح المنفرد بقوله صلى الله عليه وسلم:
«ان سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم» بهدف المحافظة على وحدة الأمة هذه الوحدة التي نوه عنها في المادة الأولى من الصحيفة.
ولا مانع من اجراء الصلح مع الآخرين ولكن صلحاً يحفظ للمسلمين حقوقهم المعنوية والمادية و بغير ذلك لا يجوز بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظروف من الظروف وذلك من خلال قولهo:
«وإذا دعو الى صلح يصالحونه و يلبونه أي يشركون به فانهم يصالحونه و يلبونه و أنهم إذا دعوا الى مثل ذلك فانه لهم ما على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين.
وما تذرع البعض من المسلمين بصلح الحديبية الذي عقده الرسول o مع قريش فهو من دلائل نبوته وليس نوعاً من أنواع السياسة لأن النبي o كان مع أصحابه في وضع لم يكن بحاجة إلى مثل هذا الصلح. تلك هي الأسس الموجزة والخطوط العريضة في مجال السياستين الداخلية والخارجية.
ومن خلال هذه الخطوط العريضة يستطيع المرء أن يستخلص وجهاً آخر من أوجه العلاقة بين الدين والسياسة وهو وجوب أن يوجد رائد للأمة يتمتع بكامل الصفات التي تؤهله لقيادتها و رعاية شؤونها ويكون مسؤولاً عن تنفيذ أحكام الدين التعبدية والتعاملية ونجد ذلك واضحاً في كلام الرسول o حيث يقول:
«إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم».
فنرى بأن الرسول أوجب تأمير واحد في الاجتماع القليل. و نرى أن الله تعالى قد أوجب الكثير على المسلمين ونهاهم عن الكثير وهذا لا يتم إلاّ بالقوة والامارة ومن هذا المنطلق نجد أن الرسول o في مطلع الاسلام الى جانب تبليغه الرسالة كان هو الحاكم المشرف على تنفيذ أوامر الله وكان يساعده في ذلك مجموعة من الصحابة، ومن هؤلاء كانت تتكون الحكومة الاسلامية.
ولم يقف اهتمام الاسلام بالصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم بل يجب عليه أن يعمل لخدمة الشعب، وأن يضمن له الأمن في الداخل وفي الخارج وأن يعد العدة لحماية الدولة من أي اعتداء. وكل ذلك نجده ضمن اطار مواد الصحيفة والتي تشكل كما ذكرت سابقاً دستور دولة متكامل يجمع بين
السياستين الداخلية والخارجية.
وأي تعطيل لأي وجه من وجود الشريعة أو إهمال منهج من مناهجها هو خروج عن الدين وقد أنحى الله تعالى باللائمة على من يسلك مسلك الفصل بين مناهج هذا الدين بقوله عز وجل :
(أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب)([18]).
ولا ننسى بأن موضوع اختيار الحاكم كان موضع ادعاء من قبل المستشرقين بأن هناك من المسلمين من يحارب رجال الكنيسة في ايمانهم بنظرية الحق الالهي التي يتذرعون بها والتي كانت أيضاً سبباً من أسباب تحجيم دور الكنيسة و رجالها. و الجواب على ذلك أنه صحيح هناك من المسلمين من يقول ذلك ولكن ليس بالصيغة التي تدعونها وليس بذلك المضمون الذي تعنونه. ما تقوله جماعة من المسلمين أنّ هناك تنصيص على وجوب تولي أمور المسلمين أحد من أهل بيت النبوة. وهذا الرأي هو تعبير عن وجهة نظر مذهب من المذاهب الاسلامية الاجتهادية ولا يشكل أي خلاف مع بقية المذاهب الأخرى فيما يتعلق بأصول العقيدة اضافة الى ذلك بأن هناك قاسم مشترك بين جميع المذاهب الاسلامية هو أن على من يتولى شؤون المسلمين يجب أن تتوفر فيه صفات وتكون تصرفاته محكومة بضوابط القول بين الناس والاحسان اليهم وأن يطبق أحكام الله سبحانه وتعالى لا أن يتصرف وفق أهوائه الشخصية و رغباته الذاتية لأنه بقدر ما على الرعية من السمع والطاعة بقدر ما عليه من الحفاظ على ما ائتمن عليه والالتزام بما أُمر به من قبل الله تعالى. و الخروج على أوامر الله تعالى هو كفر و ظلم و فسوق من أي مصدر كان هذا الخروج قال الله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون)([19]).
وقال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون)([20]).
وقال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)([21]).
فخطاب الله تعالى عام و شامل للراعي والرعية سواء كان الراعي من أهل بيت النبوة أو من غير أهل بيت النبوة، و مسألة كون الحاكم من الائمة أو من غيرهم مسألة تهم المسلمين أنفسهم ولا يحق لغيرهم أن يحشر أنفه بها لان المسلمين في الظروف الراهنة هم أجدر و أولى بأن يدركوا ما يترتب على إثارة مثل هذه المسائل الفرعية من مخاطر سواء كانت هذه الاثارة منهم أو من غيرهم وما تلحق بهم من أضرار لا سيما وأن شعور المسلمين في شتى بقاع العالم متجه الى توحيد كلمتهم و رأب الصدع فيما بينهم لان المخاطر التي يتعرضون لها أكبر بكثير من تلك الخلافات والتباين في وجهات النظر وفي مجال الربط بين العبادات والمعاملات بشتى أنواعها أقول:
يخطئ من يعتقد بأن ما كلفنا الله به من عبادات مقتصر فقط على مجرد اظهار عبودية الانسان لله بل هناك ما يدل بشكل واضح على وجوب انعكاس أثر هذه العبادات على سلوكية المرء مع الآخرين من حيث التعامل والتخاطب والحوار و إذا لم يكن الأمر كذلك فما معنى قوله تعالى:
(ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).
وما معنى قوله تعالى:
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
وما يقال عن الصلاة والحج يقال عن بقية العبادات بل يقال ما هو أكثر من ذلك.
إذا ما القيمة التعبدية من اخراج الزكاة غير امتثال أوامر الله تعالى باعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم.
وفي ذلك توطيد لعلاقة المحبة والقربـى والتواصل بين الغني والفقير من المسلمين، واختبار لامانة المزكي في ايصال الحق الى أهله. وتعطي الزكاة وكما قال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه أوجز آية في كتاب الله قوله:
(أن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربـى و ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) ([22]).
ان أي انسان عاقل لو أمعن النظر فيما تعانيه البشرية اليوم لوجد أن مرد ذلك كله لممارسة الناس الفواحش واتيانهم المنكرات واذاقة البعض البعض الآخر الظلم والهوان.
وخلاص البشرية مما تعانيه هو استبدال العدل الالهي مكان الظلم البشري والأمر بالمعروف بدلاً من اتيان المنكرات. و الحفاظ على الأخلاق والالتزام بالآداب بدلاً من ممارسة الفواحش.
بعد هذا ألا يحق لكل مسلم أن يقول بأن هذه الآية الكريمة تصلح لأن تكون أساساً لميثاق أممي يغني البشرية في مضمونه عما تبتدعه من أنظمة وقوانين في ظاهرها العدل والمساواة وفي باطنها الظلم والتزوير والعدوان. ثم أليست ما تضمنه هذه الآية على ايجازها يعتبر فناً من فنون السياسة.
أخلص الى القول في نهاية هذا البحث المتواضع أن الدين الذي ارتضاه الله عز وجل للبشرية لم ينزل للعقيدة أو العبادة فحسب ولا بياناً للشرائع والأنظمة، ولكنه يشمل ذلك كله. وما الظن بدين يقول فيه الخليفة الثاني وهو في المدينة المنورة عاصمة الخلافة أنذاك: لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لخشيت أن يُسأل عنها عمر.
و يقول الخليفة الرابع الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
«أ أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش».
يريد بذلك أنه يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الاحسان، وأسوة الفقراء في الصبر.
هكذا هو الاسلام دين يجمع بين حث المسلمين على حلائل الاعمال من العبادات وبين ارشادهم الى السعي الى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه، وأباح لهم من السياسة و أمرهم بأن يواسوا الناس بالعدل والاحسان، و أباح لهم الملك، و فرض عليهم أن يحسنوا المملكة دراية و تنظيماً.
وفي الختام ونحن نستظل بظل مناسبة مولد سيّد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أسأل الله العلي القدير أن يسدد خطا الأمة بالاسلام ويوحد كلمتها.
[1]) الاسراء - الآية : 81.
[2]) سورة الحجر - آية : 1.
[3]) سورة الاعراف - آية 179.
[4]) سورة البقرة - آية : 285.
[5]) سورة البقرة - آية : 283.
[6]) سورة الحجرات - آية : 13.
[7]) سورة آل عمران - آية 18.
[8]) سورة النحل - آية 116.
[9]) سورة المائدة - آية 105.
[10]) سورة القلم - آية 7.
[11]) سورة البقرة - آية 120.
[12]) سورة البقرة - آية 145.
[13]) سورة الانبياء - آية 92.
[14]) سورة المؤمنين - آية 52.
[15]) سورة الاسراء - آية 15.
[16]) سورة المائدة - آية 8.
[17]) سورة التوبة - آية 41.
[18]) سورة البقرة - آية : 85.
[19]) سورة المائدة - آية : 44.
[20]) سورة المائدة - آية : 45.
[21]) سورة المائدة - آية : 47.
[22]) سورة النح - آية : 90.
ارسال نظر