التعددية الدينية إشكاليات ومعالجات
السيد مرتضى التونسي
قم ـ إيران
بسم الله الرحمن الرحيم
البحث في إطاره العام
إنّ الدين يشكل في الدراسات المطروحة اليوم عنصراً ومركزاً ذا أهمية بحيث تدور حوله الرؤى إثباتاً ونفياً وتبياناً لوجهات نظره ومن بين المواقف التي يراد للدين إبرازها هي رؤيته للمسائل المعنونة تحت اسم التعدّدية وما يترتب عليها من آثار معرفية وسياسية واجتماعية وتشتد اللهفة أكثر لمعرفة موقف الدين حينما نعلم أن التعدّدية الآن تطرح نفسها كبديل لأزمة التيه الفكري والعملي التي يعيشها الإنسان، ويتضاعف الضغط لمعرفة رأي الدين عندما نرى ما ينتج من تفعيل التعددية في ذهن الإنسان وواقعة من إفراغ للدين من محتواه وهدم أركانه.
فالاعتقاد بأحقية كل الأديان والأفكار وأنها جميعها توصل للسعادة وتحقق الفلاح وهذا هو تعريف التعدّدية الدينية وما يستلزمه من تصحيح وتثبيت كل المعتقدات المختلفة والمتضادة هذا هو قضاء على الدين وتدمير لمقوّماته.
وإذ تقارب البحث أكثر من واقعنا ونحاول أن نلج مسائل التعددية الدينية من
ـ(320)ـ
خلال إلقاء نظرة على واقع الأمة لوجدنا أن المسألة تتعقد أكثر، فالتعددية أمر ملاحظ نشهده من خلال تعدد المذاهب الفقهية والنحل العقائدية والمدارس الفطرية وكلاً يدعي وصلاً بليلى وكل يؤمن بصراطه المستقيم وما يخلفه هذا الواقع التعددي من إفرازات سياسية واجتماعية والتاريخ حافل بالأمثلة فمن القتال المذهبي مروداً بالإقصاء الطائفي للتغير العقائدي وما إلى ذلك من مآي، ففي هذا الخضم من هذه الممارسات قد نوى في التعدّدية أفضل نسخة علاجية لأمراض الإنسانية عموماً والأمة الإسلامية خصوصاً ولكن سنواجه مآلي التعددية في المعرفة وعلى حساب الدين.
ونحن هنا في تناولنا لموضوع التعددية ودراستها والتحقيق حولها نحاول استنطاق الدين لنظفر بحلّ يعالج المعرفة والسلوك في آن واحد ولعلّ هذا ما تدعيه الدراسة التي بين يديك أيها القارئ الكريم لنعرف كيف يمكن أن نحافظ على الدين وعلى المعرفة الحقّة والصحيحة الغير المتعددة في الوقت الذي لا نشهر السيف على غيرنا ونستعير اصطلاحات التكفير والتضليل، أو بأي نحو يمكن أن نوجه نقاشنا وانتقادنا لفكرة التعددية الدينية في الوقت الذي ننطلق فيه للحفاظ على سلامة تعايش المجتمعات المتخالفة مذهبياً ودينياً ؟
ونحن نقوى هنا بطلان قول من يرى ان إلقاء فكرة ونظرية التعددية الدينية سيؤدي إلى الاختلافات المذهبية ودق ناقوس الحروب الصليبية، فما هو طريق إثباتنا لذلك ؟
وإجابات هذه الأسئلة وغيرها تطرحها الدراسة عبر بيان التعددية الدينية وأقسامها، وعبر امتحان مدى ثبوت مبانيها أمام النفقد، وما تقدمه الدراسة من معالجات واقتراحات.
فهو بحث يجمع المعرفة والممارسة ويحاول أن يتناول موقف الدين كشاخص
ـ(321)ـ
معددي للدراسة، والمنهج المتبع هنا موزع في ناحيتين أولاهما إذا نظرنا للدين لمجموعة من المفاهيم والأحكام فسنتعامل معه كجزء كجزء من أجزاء المعرفة البشرية بحيث تكون المعرفة الدينية كغيرها من المعارف خاضعة لآليات النقد البستمولوجي المعرفي والأبحاث الكلامية والمعرفية تتنافع في جملة من الموارد مع نوع الشبهات والاشكالات المطروحة.
والله المستعان ومنه التوفيق
ظروف نشأة التعددية
كما هو معلوم أن أهم الأفكار والآراء التي لها حضور اليوم خصوصاً في العالم الغربي تمثل بشكل أو بآخر موقفا تجاه سلوك ونمط معين تميزت به القرون الوسطى، وحث التعددية الدينية ان كان يحمل شكلاً معاصراً الا ان لـه جذور في تلك المرحلة.
فقد ساد القرون الوسطى صوت الكنيسة وما رافق ذلك من إقصاء وحذف للأطراف الأخرى الموجودة في الساحة. فهذا مما عمق حس المطالبة بالتحرّر فيما بعد حيث تجلّت ربغبة التحرّر هذه في وجهين:
أحدهما سياسي: تمثل في طرح أفكار مخالفة لحكومة الكنيسة وتخلفها.
والوجه الآخر: يحمل صبغة دينية أراد أن يرفع لواء الحرّية من خلال العقائد المسيحية لا من خارجها فكانت حركة الإصلاح الديني في أوروبا والتي تلت عهد النهضة وما أفرزته هذه الحركة من منصب مسيحي جديد هو المذهب البروتستاني بزعامة مارتين لوتر.
وبما إننا قلنا ان هذه التحرّكات كان مضادة لسلوك الكنيسة في أفكارها فنجد أنّ احتكار الحقيقة التي كانت تمارسها الكنيسة قد وجهت في حركة الإسلام الديني
ـ(322)ـ
بتعميم الحقيقة على جميع المذاهب المسيحية ولا تقصرها على الكاثوليكيين ومن هنا بدأت تتنامى شيئاً فشيئاً فكرة التعددية في أوربا ومما ساهم في طرحها أكثر هو وصول البورجوازية للعلم في أوربا ومحاولتها تتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة من قبل رجال الدين في خصوص التعامل مع غير المسيحيين(1) فأثاروا مسألة التعددية كتوجيه نظري لتصرفاتهم، وإضافة لردود الفعل هذه تجاه الكنيسة يمكن أن نرصد المسألة من ناحية تاريخية علمية فكما ينقل ويلفرد كانت أسميت(2) ان تاريخ تطور الأديان في العالم يتناسب مع مدى ارتباط بين الإنسان مع بعض إلى الحد الذي يمكن أن تصل فيه إلى مرحلة تتساوى عندها جميع الثقافات والأديان عندما يكون الإنسان قد تجاوز كل هذه الاختلافات ويتعامل مع الإنسان بما أنه إنسان(3) وهذا يقتضي جملة من اللوازم والتي من بينها الإقرار بهوية التدين لكل فرد وفوق ذلك ضمان السعادة لـه في أي دين اختاره.
فمجمل القول حول ظروف وعوامل نشأة التعددية الدينية هو محاولة لتبرير حالة التحمل للغير المخالف دينيا بعد حالة الإقصاء الكاثوليكية فكانت التعددية الدينية، وحتى عندما نراجع الحياة الشخصية لروادها في زماننا مثل جان هيك(4) نجد انه آمن بالتعددية لما واجه طبقاً لعمله كأستاذ جامعي في بيرمنة أم البريطانية. العديد من الأفراد من ذوي الديانات المختلفة فأحس أن الصفات يراود أغلبهم وليس مخصوصاً بالمسيحيين فتحركت في داخله فكرة التعددية الدينية وهو وان بقى على ديانته
________________________________
1 ـ كتاب نقد پلور اليزم ص 56 (فارسي).
2 ـWilfred Cant well Smith .
3 ـ فلسفة الدين - جان هيك - ترجمة بهرام ص 235 (فارسي).
4 ـ John Hick.
ـ(323)ـ
المسيحية إلا انه يعتبر اليوم أب للتعددية الدينية في العالم.
تعريـفـها
ذكروا لتعريف التعددية تعاريف عدة أهمها ما ذكره الدكتور سروش حيث يقول: ان التعددية الدينية تعبر عن ذلك التنوع وتلك الكثرة الحاصلة في الإفهام الدينية ولا يمكن بأي نحو التوحيد بينها(1)، ومن ناحية أخرى يعرف الدكتور نهاوسن التعددية بأن لها نتيجة ومحصول البروتستانية الليبرالية، وان كان التعريف الأول ناظر لماهية التعددية في حين يحاول التعريف الثاني أن يضع التعددية في موقعها داخل حركة تاريخ الأديان فانه يمكن لنا أن نذكر عناصر التعددية وملازماتها.
العنصر الأول الذي تقوم عليه التعددية هو تنوع الأديان حيث لم يكن ويعسر مستقبل أن يتحرك الإنسان باتجاه دين دون غيره.
القول بحرية التدين واتباع أي مذهب فلا مرجّح غير الوثنية ذاتها ولوازمها تتمحور حول منح المصداقية لكل الأديان والاعتراف بأحقية كل التجارب الدينية وهذا هو اللازم الذي سيكون جوهر هذه الدراسة.
تقسيم التعددية الدينية وآثاره
ان أكمل المشاريع ما كان يخاطب المعرفة ويوجه السلوك تماشياً مع الجوانب التي يحملها الكيان الإنساني وتبعاً لذلك سنحاول أن نقوّم الإنسان في معرفته وتحركه في سلوكه لذلك رأينا أن نقسّم البحث إلى جانب معرفي وآخر سلوكي وأطلقنا على دراسة التعددية في الجانب الأول اصطلاح التعددية الدينية المعرفية وفي الجانب الثاني أحكام التعددية الاجتماعية.
________________________________
1 ـ مجلة كيان عدد 36 ص 2.
ـ(324)ـ
والنقطة الأهم هنا هو أن هذا التقسيم هو الذي سيمكننا من تناول موضوع التعددية في جانبي النقد والبناء فكيف ذلك !
ان التعددية الدينية سواء المعرفية منها أو الاجتماعية لها مقوماتها وأبحاثها الخاصة ولها نتائجها المعينة بها بحيث تكون غير قابلة لتعميم فنتائج البحث المعرفي تبقى في قسم المعرفة ولا يمكن استصعابها في البحث الاجتماعي والعكس صادق أيضاً، وهنا يكون المفصل الذي تخبط عنده الكثير فأطلقوا صحيات عشوائية جرّت الويلات على الأمة عوض أن تداوي أمراضها حين خلطوا بحث التعددية المعرفية بالتعددية الاجتماعية فان مناقشة مسألة التعامل المتبادل أو مفاهيم الوحدة والتعاون والتغاضي عن الاختلافات البسيطة في سبيل الهدف الكبير لهي مناقشة من سنخ الممارسات والمسائل العملية فالوحدة والتعاون وما يستلزمانه من عدم تنافر وما إلى ذلك هي من مسائل الممارسة واللوذ فمعالجتها وتناولها لابد أن يكون داخل قضاء التعددية الاجتماعية لافضاء التعددية المعرفية إذ بحثها في المجال المعرفي سيكون غريباً من أجواءه العامة يخبط خبط عشواء ومن الطبيعي جداً أن تكون النتائج عكسية، وهناك من أخطأ وسلك الاتجاه المعاكس من الضفة الأخرى فحاول الحكم والحسم في الجانب المعرفي للتعددية من خلال تناول المسائل السلوكية والعملية فوجه هؤلاء ضربات قاسية للمعرفة الصحيحة وللدين، فالتعددية المعرفية لابد أن تعالج معرفياً اجتماعياً حتى تنسجم النتائج وتتكامل وبعبارة أوضح نقول هناك من حاول أن يعالج الاختلافات الدينية في ممارسات أهاليها فقال بالتعددية الدينية المعرفية وبالتالي حفاظاً على أمن التعايش الجماعي قضى على الحقيقة وعلى الدين الحق وهناك من نهج الطريق من آخره فقال بالمعرفة الصحيحة والدين الحق لكنّه سلّط ذلك على ممارسات المجتمع وفئاته فتمايز اتباع الحق وعلم أتباع الباطل
ـ(325)ـ
وحفاظاً على الحق والواحد والصراط المستقيم لجأوا إلى إقصاء من لا ينتمي إلى هذا الصراط المستقيم، ونحن هنا نكون قد رفعنا هذا الخلط بتقسيمنا للتعددية الدينية إلى معرفية واجتماعية حيث نبحث في الأولى المسائل المتعلقة بها من طريق نظري معرفي في حين نواجه الثانية بأبحاث في الممارسة والسلوك وتحصل عندنا في الأخير نتائج كل بحث ثم بتجميع هذه النتائج نصل لبناء مشروع أناني نهضوي وقد تكون نتائج كل بحث مختلفة فقد ترفض المعرفة القول التعددي ونقرّه في الجانب الاجتماعي أو العكس ولا خير في ذلك إ أن لكل سنخ من الأبحاث طريقة معالجته والمهم أن لا نخلط نتائج هذه الأبحاث مع بعضها فنكون قد أخرنا نهضة الأمة والإنسان معاً.
وفيما يلي من فصول سنتناول التعددية الدينية المعرفية ومبانيها ومدى ثباتها أمام النقد لنرى نتائجها ثم نأتي للتعددية الدينية الاجتماعية لندرس عناصرها وما تحتاجه من مقوماته.
تحرير محلّ النزاع
ان التعامل مع الرأي الآخر تحكم كيفية العديد من العناصر والعوامل مثل وجود الدليل وعدمه، انتفاء الأمراض النفسية وثباتها، الأجواء العامة لتلاقى الطرفين ونحن هنا في بحث التعددية الدينية المعرفية نعرض الصور المحتملة التي تحدد طبيعة الموقف من الآخر حتى نعرف السياق العام الذي ندرس فيه التعددية الدينية المعرفية وهذه الصور تكون:
- توجه انفرادي
- توجه شمولي
- توجه تعدّدي
وسنحاول أن نمرّ بسرعة على هذه التوجهات الثالث:
ـ(326)ـ
النظرة الأحادية:
وهي تعني النقطة المقابلة تماماً للتعددية فهي تنفي إمكانية أن تكون الآراء المختلفة والمتقابلة تمثل توجهات صادقة وحقة والاعتماد على القواعد المنطقية يؤكد أن صدق قضية يعني حتماً كذب نقيضها فلا يمكن طبقاً لهذه النظرة أن نصف كل هذه القضايا بالأحقية لا لشيء إلاّ لأنها كانت نتيجة أعمال ذهنية معين أو علل أخرى والنظرة الأحادية تعمم هذا الرأي على كل المجالات المعرفية بما في ذلك المعرفة الدينية فترى ان الدين الحق واحد والصراط المستقيم واحد ويحاول المتكلم البروتستانى كارل بارث(1) أن يؤكد هذا المعنى بتفريقه بين الوحي والدين فيقول:
«ان معرفة الخالق فقط تكون من قبله وإبداعه كما في تعريضه نفسه إلينا ولا يمكن أن توصل هذه المعرفة بجهدنا وسعينا»(2).
ونقطع مقولة هذا المتكلم بأن الخالق في تعريف نفسه إلينا لا يمكن أن يسلك طرقاً عدة وألواناً مختلفة على خلاف الجهود الإنسانية التي تشهد اختلافا في الشدة والضعف وما إلى ذلك فلذلك يؤكد أصحاب هذه النظرة ان المعرفة والدين لـه طريق واحد حق وهو الوحي ولا يمكن أن يتعدد هذا الوحي .
النظرة الشمولية
وهذه النظرة على خلاف القول الانفرادي تتجاوز الاختلافات بدرجة فمثل في حين إقرارها بأن الطريق الموصل للحقيقة والسعادة هو واحد لا اختلاف فيه إلا أنها تنفي تضمّن الآراء الأخرى بعض الحقانية والمصداقية فمثلاً نجد المسيحية تقران الأديان الأخرى لها بعض الصواب والنور غير ان هذا النور في الحقيقة نابع من إشعاع
________________________________
1 ـ Karl Barth.
2 ـ مجلة كيان العدد 40 ص 22 (فارسية).
ـ(327)ـ
المسيحية على غيرها من الأديان وأكثر من هذا فقد أطلق في تاريخ المسيحية لقب المسيحي المجهول ليشمل من لم يكن مسيحياً غير أنّه يعيش صفاءً في باطنه وهذا الصفاء موده لترسخ الديانة المسيحية في فطرة الإنسان فهذه هي المسيحية التي تؤكد في نفس الوقت ان الحق واحد وهو الدين المسيحي فهو الضامن للسعادة ومحقق للفلاح وان الأديان الأخرى تحمل بعض الحقانية هي نور المسيحية فيها. وهذا ما أعلنته إدارة الكنيسة في سنوات 1963 – 1965(1) فالقول الشمولي ان كان يتفق مع القول الانفرادي بوحدة طريق السعادة والفلاح إلا انه يختلف عنه ويؤمن لبقية الأديان ببعض الحقانية.
النظرة التعددية
وهي الرؤية التي نضعها تحت المجهر هنا وهي تعنى حسب ما ذكروا في تعريفها ولوازمه انه باعتبار ان الإنسان فاقد لوسائل ومعايير التمييز الذي يجعله يظفر بالدين الحقيقي من غيره - على فرض وجود الدين الحقيقي فان التعددية تتحرك هنا لتفتح جميع الأبواب للإنسان الباحث عن السعادة وتقول لـه من أي باب دخلت فانك سعيد، والتعددية وهي تقف في الطرف المقابل للنظرة الأحادية تجاوزت النظرة الشمولية في تكثيرها لعدد أبواب السعادة ونفيها مقولة الحصر الملاحظ في النظرتين الأوليتين وهذا المنحى الثالث الذي يبرز الموقف النظري في قبال الرأي الآخر معلّق نزاعنا وعليه تنصب الجهود هنا .
________________________________
1 ـ مجلة كيان العدد 40 ص 25 (فارسية).
ـ(328)ـ
تنويع التعددية المعرفية: بستمولوجية وكلامية
رفعاً للالتباالحاصل في بعض المفاهيم والأحكام رأينا أن نبحث التعددية الدينية المعرفية في مجالين نظريين أحدهما يعتمد القواعد الابستمولوجية حيث تطرح أحدلة أصحاب القول التعددي وترافقها ناقاشاتها وكل ذلك داخل أجواء القواعد الابستمولوجية والمجال الثاني هو المجال الكلامي حيث طرحت الاشكالات الكلامية التي تنطلق من داخل المفردات الدينية ورافقتها أيضاً الثقافات الكلامية كذلك.
وتوزيع بحث التعددية المعرفية إلى مجالين ابستمولوجي وكلامي لـه مزاياه العديدة التي من بينها أولاً عدم الخلط بين المفاهيم والانتقادات فلكل مجال مقايسسه الخاصة به وثانياً إلى ان الخلط بين هذه المجالين هو من جملة ما التبس على الباحثين هنا. فإذا أردنا إبطال رؤية لابد أن نواجها بأدواتها لا أن نستعين بذكر قضية كلامية فهذا الخطأ المنهجي عالجناه بهذا التقسيم، وكمثال نقول كأن يدّعي طرف أن المعارف الدينية غير خالدة فيحاول الآخر أبطالها بذكر نص ديني أو العكس أيضاً فيحاول أحدهم أبطال مقولة دينية خاصة مثل كيفية العبادة بمحاولة تطبيق قواعد ابستمولوجية، فالخلط بين المجالين مجال المعرفة أو ما يعبر عنه بمعارف الدرجة الثانية والمجال الكلامي والذين يطلق عليه معارف الدرجة الأولى.
ـ(329)ـ
المباني الابستمولوجية وانتقاداتها:
الرؤية الكانتية في المعرفة
الملاحظ في اطروحات المدافعين عن التعددية وعلى رأسهم الأمريكي جان هيك(1) اعتبارهم المبنى الابستمولوجي الكانتي مبنى محوري لا يمكن الحياد عنه يقول جان هيك تحت عنوان المبنى الفلسفي للتعددية الدينية:
«... ان حوادث الترجبة الدينية مبيّنة لعلومنا بالحقيقة اللامتناهية المتعالية التي تدركها الأذهان في صور مختلفة متأثرة بتواريخ ثقافية مختلفة وتؤثر فيها، أما نوغيل كانت (بدون أن يكون لـه قصد هذا العمل) هيء إطاراً فلسفياً يمكن من خلاله أن تتكامل هذه النظرية فهو قد ميّز بين العالم في نفسه والعالم بما هو معقول لنا»(2).
ويقول في موضع آخر: «العالم حولنا بالشكل الذي ندركه، يكون إدراكنا محصول مشترك لنفس العالم الخارجي من ناحية ونشاط المدرك من ناحية أخرى»(3).
فإذا كان روّاد التعددية يعتمدون المنبى الكانتي لبناء نظريتهم فنحن في حاجة إلى ذكر لوازم هذا المبنى في عدة نقاط.
- نحن لا ندرك العالم على ما هو عليه بل نعرفه على النحو الذي ظهر في أذهاننا.
- معرفة العالم تختلف باختلاف المدرك.
- معرفة العالم تختلف باختلاف المدرك.
- عدم إمكانية الوصول لمعرفة العالم على ما هو عليه.
________________________________
1 ـ John Hick.
2 ـ جاه هيك - فلسفه دين ص 45 (فارسي).
3 ـ نفس المصدر.
ـ(330)ـ
ويستخلص جان هيك من هذه اللوازم أنّ ذهن الإنسان في تعامله مع الواقع الخارجي لا يصل للحقيقة بل الحقيقة هي ما هو موجود في ذهن كل مدرك فالحق تابع لكل إنسان ويختلف عن غيره وهذا هو انتقال جان هيك من رؤية كانت في المعرفة للقول بالتعددية وهكذا تكون بحاجة عند التحقيق حول التعددية المعرفية للبحث في رأي كانت في المعرفة.
إن كانت يقرّ ان المعرفة هي حصيلة للخارج والذات المدركة معا في آن واحد فهو برىء ان ما يأتي من خلال الحواس ويشرح في هن الإنسان تكون من مجموعة من المعلومات الحسية المبعثرة التي لا يمكن فهمها إلاّ إذا ربطنا بينها في نظام كامل وهنا تلتقي هذه المعطيات الحسية مع فطريات حسية عند الإنسان يشخصها كانت في الزمان والمكان فتكون صورة حسية كاملة عن الأمر الخارجي ثم إذا أراد العقل أن يضع هذه الصورة الحسية تحت أحد المفاهيم الكلية في الفطرة العقلية للإنسان والتي يسميها كانت باسم المقولات فنخرج نتيجة لذلك بادراك شامل ومتكامل ومنظم يتكوّن من مواد خام من الخارج وصور فطرية حسية وعقلية وباعتبار أنّ هذه المعرفة حاوية بجانب ذاتي إ ساهم في ضيافتها المقولات الفطرية في مرحلتي الإحساس والعقل ومعلوم ان هذا الجانب الذاتي لا علاقة لـه بالكشف عن الواقع الخارجي وإنّما يتلخص عمله في ربط المعطيات الموجودة في الذهن، وبفعل هذا الجانب الذاتي تتكون صور علمية ذاتية تحاكي الأمر الخارجي لكن لا تشكف عنه اما هو في الواقع الموضوعي وهكذا تتأتى مفاهيم الشيء لذاتنا والشيء في ذاته كما يطرحها كانت وبالتالي ما تدركه غير ما هو واقعاً في الخارج فهو أمر واحد لكن الأذهان التي تحاول أن تتعامل معه تنهج لذلك طرقاً شتى وتأخذ عنه صوراً مختلفة وتتعدد صورة الحقيقة الواحدة في الأذهان المختلفة وهذا ما يثبتاه جان هيك فيما يقدّمه الدين من رؤى
ـ(331)ـ
فيقول ان كل دين يحاول أن يقدم صورة للعالم والإنسان والإلاه غير ان هذه الأديان كلّ يحلى عن رؤيته ولا يمكن أن تصل للخارج حقيقة وهكذا فإن الطرق الدينية كل بمقتضى ما تطرحه تلامس الحقيقة وتحاكيها في بعض أنساجها وبالتالي فلا مجال لترجيح دين وإقصاء آخر بل الجميع متساوي النبسبة لهذه الحقيقة في نفسها، والآن سنناقش كانت في رؤيته: الإشكال المفصلي في النظرية المعرفية لكانت هو ما أورده الفيلسوف الالماني شوپنهاور وقد ذكر في عدة كتب فلسفية من بينها كتاب أصول الفلسفة والمذهب الواقعي للعلامة الطباطبائى ونفس هذا الأشكال ذكره السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه فلسفتنا ولكن أورده بتقرير آخر.
وجوهر إشكال شوپنهاور هو ان كانت يعتقد ان المقولات الذهنية لا تعكس الواقع الخارجي وإنّما أقصى ما تعبّر عنه هو إمكانية ربطها بين معطيات متناثرة مبعثرة لتصوغ منها صورة معرفية ذات ضوابط ويجعل كانت من بين هذه المقولات قانون العلية والمعلولية حتى يتسنى لـه أن يربط بعض الصور المعرفية ببعضها وهنا يأتي السؤال إا كان أمر هذه المقولات هو الغياب عن الواقع الخارجي فكيف استطاع كانت أن يقول ان الأشياء لها ذوات لاتصل إليها محسوساتنا ولها ظواهر تنعكس في حواسنا، فإذا كان قانون العلية والمعلولية أمر خاص بالذهن فكيف استطاع كانت أن يجعل من ارشام الصور الحسية في الأذهان معلولاً لوجود ظواهر الأشياء في الخارج، فهنا يكون كانت قد تعامل مع قانون العلية والمعلولية باعتباره كاشف عن لاواقع الموضوعي ويخبر عن علاقات تكوينية في الخارج وليس أمراً مختصاً بالذهن فإذا كان الأمر كذلك فنجد ان بعض المقولات التي يعتبرها كانت من نظريات الذهن ويقصر دورها على تنظيم الصور المعرفية داخل الذهن وإيجاد الروابط والعلاقات
ـ(332)ـ
بينها فبعض هذه المقولات تحكي في الواقع الخارجي وتكشف عن الواقع الموضوعي فهذه المقولات لا يمكن اعتبارها أمراً ذاتياً مختصاً بالذهن حتى تكون المعرفة النهائية معرفة ذاتية لا تطابق الخارج بل تصبح المعرفة الذهنية في ضوء ما توصل إليه معرفة تحكي عن الواقع الخارجي كما هو عليه في الخارج باعتبار ان القوالب الذهنية كاشفة عن الواقع الخارجي وليست ذاتية وهكذا سيضحمل الدور الكانتي في المعرفة.
ويمكن أن ندحض الرأي الكانتي من ناحية أخرى بأدوات ميتافيزيقية التي ترى انه في حالة اختلاف الصورة الذهنية للشيء عن حقيقة في الخارج بحيث ينتفى الاتحاد الماهوي بين الوجود الذهني للشيء ووجوده الخارجي فهنا يصبح هذا القول مؤدي إلى السفسطة التي نهضت الميتافيزيقا لأبطالها، إذ أن گورگياس من الاوائل الذين خطّوا طريق السفسطة فقد قال گورگياس - الإنسان مقياس كل شيء. وهذا ما عبر عنه كانت بأسلوب آخر غير ان گورگياس واجهته الميتافيزيقا مواجهة عنيفة لان قوله يؤدي إلى خلاف ما نراه من أنفسنا بالضورة من ناحية العلم بالخارج وهكذا فبعد ما ثبت في بداية الحديث هو مدى تمسك أهل التعددية بهذا المبنى سواء صرّحوا بذلك أو استبطنته رؤيتهم فإن ارتباك هذا المعنى المبني وإقرار الإيمان بإمكانية وصول الذهن للواقع الموضوعي على ما هو عليه من حقيقة ووحدة فتتوفر تبعاً لذلك وجودات الذهنية فلا يبقى مجال للحديث عن الحقيقة الواحدة والمعارف المتعددة وهكذا تضطّر التعدّدية لتجاوز المبنى الكانتي الكانتي والإيواء إلى ملجأ آخر قبل أن يحلّ بها الانهيار التام.
ـ(333)ـ
هيمنة الذهن البشري على الدين
من جملة ما اعتمد عليه أصحاب التعددية لإثبات مدّعاهم هو جعلهم الذهن الإنساني لـه دور في تصوير الدين وهذا ما استبطنته مؤاخذاتهم على التوجه الانفرادي - الأحادي حيث يذكر جان هيك:
«المشكلة الأساسية للرؤية الانفرادية انهم يفصلون بين الوحي بمعنى التدخل الإلهي المستقيم وتجليه في التاريخ وبين الدين بمعنى الجهد الإنساني لمعرفة الرب والاتصال به في حين انه لا يمكن التفكيك بين المعنيين فالوحي يتلقاه ويعرفه الإنسان وكل التاريخ هو حاصل لهذه المعرفة»(1).
فهنا يحاول اصطحاب التعددية إقحام الجهد الإنساني في الدين لأنهم يرونه الجسر الذي يعبرون به للتعددية إ ان الجهود الأنانية مختلفة حتماً وبالتالي تكون الإفهام الدينية متعددة ولا يمكن الترجيح بينها وهذا هو مطلوب التعدّدية.
وأما كيفية أعمال الجهد الإنساني في معرفة الدين فإضافة للمبنى المعرفي الذي وقع شقائه سابقاً قال هؤلاء بأن الإنسان يؤثر في الدين وفي إيجاد المعرفة الدينية من خلال الارتباط الوثيق الموجود بين العلوم البشرية والدين من ناحية وارتباط الوضع الثقافي العام بالدين من ناحية أخرى وهذا كلّه مع وجود زاوية معينة ينظر من خلالها للدين على أنّه أمر يتأثر ولا يؤثر ينفعل ولا يفعل فهو صامت ينتظر الجهد الإنساني ليخرجه من حالة الصمت والسكون إلى حالة النطق وإلقاء المعارف والحركة: «ان الالتفات إلى الارتباط الوثيق الموجود بين الدين والثقافة يجعلنا نستنتج ان المعرفة الدينية محدودة وتاريخية (تحكمها قوالب وظروف وشرايط) معينة لذلك لا يبقى أي
________________________________
1 ـ سيد أمير اكرمي كيان 40 ص 24 (فارسية).
ـ(334)ـ
مجال للقول بأحقية أي دين»(1).
وهكذا يمكن أن نخلص إلى نتيجة مفاهدا ان الذهن البشري ساهم في صياغة الموقف الديني وهذا من أهم المرتكزات التي تعتمد عليها التعدّدية ونحن هنا نحتاج إلى بحثين أولاهما يتناول طرح الدين الصامت والخال عن المواقف والثاني يتناول نحو ارتباط وكيفية تفاعل الدين مع الذهن البشري.
وسنبدأ بدراسة البحث الثاني باعتبار ان البحث الأول يمثل أحد مبانيه بطرح أحد رواد التعددية فكرة تأثير الذهن البشري في الدين سالكاً لذلك الطريق الاستقرائي لإثبات مدّعاه، إذ يعرض بعض الشواهد التاريخية الجزئية التي تعكس اعتماد بعضه المتحدثين باسم الدين في عرض مسائلهم على بعض المفاهيم العلمية والخارجية عن نطاق الدين ثم يعمم الدكتور سروش هذه الموارد على كل المساحة الدينية ويخرج بنتيج مضمونها أن الدين بطور كامل يحتاج للذهن البشري ليقوم بدوره(2).
ونحن من ناحيتنا ننقدح في كل من المدّعى وطريق الاستدلال عليه:
أولاً: نعرف ان نفس الطريقة الاستقرائية في الاستدلال تنقسم إلى قسمين:
- استقراء تام بحيث تتم دراسة كل الجزئيات الموضوعة للدراسة.
- استقراء ناقص وتدرس فيه بعض الجزئيات لا كلّها.
وكما هو معلوم وواضح ان الاستقراء التام هو المفيد لليقين حيث تخلو نتجته من الاشكالات المنطقية فعند دراسة كل الجزئيات نكون مطمئنين لمفاد النتيج حتماً فلا يساورنا شك في عمومية النتيجة وكلية الحكم الذي نصدره بينما في الاستقراء الناقص بأي حق ننتقل من دراسة بعض الجزئيات إلى إصدار حكم يعمّ جميع الجزئيات
________________________________
1 ـ الدكتور عبد الكريم سروش - إيران.
2 ـ يراجع كتاب - قبض وبسط - صفحات 134 - 141 للدكتور سروش (فارسي).
ـ(335)ـ
المطروحة للدراسة، قد توجد بعض الأفراد التي لم ندرسها ولا تندرج تحت مفاد الحكم فيكون استخلاصنا للنتيجة خاطئاً في كلّيته فمن أين لنا أن نثبت أنّ الحكم الكلّي تخضع تحته كل الأفراد الموجودة لنا والتي وجدت في الماضي والتي ستوجد في المستقبل. فمع كلّ هذا لا يمكن أن نأمن للدليل الذي عتمد الاستقراء الناقص كما هو محلّ الحديث.
ثانياً: لنسلّم جدلاً أن نحو الاستقراء الناقص الذي اعتمد عليه الدكتور سروش لإثبات تأثير الذهن البشري في الدين، خاضع للشروط الظروف التي تناولها الشهيد الصدر في دراسته الأسس المنطقية الاستقراء ونقول نسلّم لأنّ المسألة تحتاج للتحقيق، فإننا نقول ان الحكم الكلّي الذي طرحه سروش يمكن أن يتهاوى من الناحية المنطقية إذا تذكونى مقابله مورداً واحداً جزئياً يبين عدم اعتماد الدين الذين على الذهن البشري فعندها لا تبقى للكلّية محل للبحث.
ولا نجد صعوبة في ذكر المسائل الدينية التي لا يمكن أن تكون ناجة عن علوم ومفاهيم أخرى خارج عن نطاق الدين.
ثالثاً: علاوة على ما ذكر سابقاً يمكن أن نناقش الموارد الجزئية التي اعتمد عليها الدكتور سروش لإثبات مدّعاه فقد تكون بعض الموارد خاطئة فينتفي مع ذلك الاعتماد عليها فمثلا قد تكون بعض الجزئيات التي طوحت على أساس أنها تمثل الدين فقد تكون مصاديق خاطئة للدين وبالتالي لا يمكن اعتمادها كموارد تمهد حكم كلّي على الدين عموماً ونؤكد أن ما ذكره سروش من عيّنات يستدلّ بها لهي من السخافة بحد لا يوصف وإلاّ فكيف يمكن أن نعتمد على رأي أحد من يدّعي العلم فيذكر في تفسير ان الشيطان المذكور في المتون الدينية هي الجراثيم بالاصطلاح
ـ(336)ـ
العلمي والمس الشيطاني إنّما هو نفوذ تلك الجراثيم في الأجهزة العصبية(1).
فكيف يمكن أن تكون هذه المهزلة استدلالاً موضوعياً يثبت تأثر الدين بانتاجات الذهن البشري حتى تصل النوة للحديث عن التعددية ! سبحان الله وبحمده.
رابعاً: يمكن أن نقرّ في نقطة أخيرة أن بعض انتاجات الذهن البشري لها حضور في تبيان بعض المسائل الدينية بشرط أن تكون تتصف باليقين لأننا نبغي من الدين إيصالنا للحقائق فإذا ربطناه بالظنيّات فإننا سنضلّ الطريق حتماً.
وهذه العلوم التي لها حضور في المسائل الدينية وتعبّر عن تأثير الذهن البشري في المعرفة الدينية على نحو الموجية الجزئية(2). نجد من بينها المنطق، علوم اللغة، المسلمات واليقينيات الفلسفية، والمعطيات العلمية في صورة ما إذا ثبت يقينيتها، والى هذا الحد نقبل التفاعل بين الدين والذهن البشري بكامله وإنما اعتمدنا على يقينيّاته وقطعياته التي لا يمكن الاختلاف حولها، والتعميم مرفوض كما لوحظ سابقاً.
وبالإضافة إلى كل ما ذكر يمكن أن نقطع الطريق أمام القول بالانفعال الكلّي للتدين بما يمليه الذهن البشري عندما نبطل مقولة ان الشريعة أمر صامت تحتاج للذهن البشري حتى يستنطقها فالشريعة كالطبيعة لا يمكن فهمها إلا بتدخل الذهن البشري وأعمال سلطته فملاحظ أن الطبيعة لا تنبيء عن إسرارها وقوانينها وإنّما الذهن البشري بنظرياته وجهوده يسعى لكشف قوانينها والوصول لإسرارها وعلى هذا نقيس الشريعة فهي صامتة والذهن بأعمال نظرياته يكشف على حقائقها. غير إننا نقول انه لا يمكن اعتبار الدين صامت حتى نتعامل معه على نفس نحو تعاملنا مع الطبيعة وإنّما الدين مبيّن لأحكامه موصل لمطالبه عبر مجموعة من المتون في شكل جميل وألفاظ وبناءاً
________________________________
1 ـ يراجع كتاب قبض وبسط للدكتور سروش ص 134 (فارسي).
2 ـ اصطلاح منطقي يذكر في مقابل الحلم الكلّي.
ـ(337)ـ
على أن لكلّ لفظ معنى معيّن ثبت للفظ بواسطة الوضع (سواء كان وضعاً تعينياً أم تعيينياً) فإنّه يوجد إداً لكل لفظ معنى موضوعي حكى عنه وهكذا يمكن أن نقول ان المتون الدينية لها معاني موضوعية تبرها وبهذا نخرج الدين عن صمته ويعبّر عمّا يريده بقطع النظر عما يحويه الذهن البشري من معطيات وما ينبغي رفعه من استفهامات(1).
فيبطل تبعاً لذلك قول من يرى ان الذهن البشري بجهوده ونظرياته يستنطق الدين ويصوغ مواقف الشريعة.
انهيار التعددية أمام المنهج العقلي
صحيح ان حالات الخبط التي تعتري القول التعددي ناجمة عن ضعفى المباني وتزلزل المرتكزات (المبنى الفلسفي الكانتى، قوة الذهن البشري في مقابل الدين) ولكن نحن نذهب أي أبعد من ذلك ونقول ان التعددية حتى وان حاولت ترميم كل مبانيها إلاّ إنها لا تخرج من حالة الخبط إلا إذا اختارت المنهج العلمي السليم الذي يستطيع أن يأخذ بيدها لكشف الحقائق، ونسعى هنا لتقديم صورة عامة للمنهج الذي يحتاج سلوكه كل من كان باحثاً موضوعياً للحقيقة ونلاحظ من جانب آخر توابع نظرية التعدّدية أمام ما يفضي إليه من حقائق ومعطيات هذا المنهج يضعنا أمام معادلة ثلاثية الجوانب: القواعد المنطقية، حقائق عالم التكوين، العلاقة بين التكوين والتشريع.
قد نتساءل ما علاقة كل هذا بالبحث فنجيب بأننا من ناحية في صدد تقديم صورة لمنهج فكري سليم في تكامله مع الدين والخارج والحقائق وأيضاً بصدد أبطال التعددية من ناحية أخرى، بتبيان حقائق التكوين وبناءه المنطقي ثم علاقة هذه
________________________________
[1] ـ للتوسع أكثر يراجع كتاب معرفت ديني للشيخ صادق لاريجانى ص 100 - فارسي.
ـ(338)ـ
المعطيات بالتشريعات السلوكية للإنسان وما تقتضيه وحدة التكوين ومن وحدة في التشريع فإننا بالتالي نكون وجهنا رأس الدمع لقلب التعددية وذلك بإعطاء القيمة المعرفية للرأي الواحد التشريعي ومبانيه المنطقية.
لا نتوسع كثيراً في تبيان أهمية المنطق وابتناءه على البديهيات العقلية والقوانين الذهنية الثابتة والخالدة وما يمثله المنطق من أداة تحفظ الذهن البشري عن الوقوع في الخطأ والمسألة الثانية تخص حقائق عالم التكوين وهنا أيضاً فقط نشير إلى أنه طبقاً لتلك القواعد المنطقية وجد بناء الحكمة النظرية ما احتوته من مطالب ميتافيزقية تحاول تفسير عالم التكوين وصول إلى خالقه وبحثا في حقائقه وعلائقه وقوانين وهنا يتجلى بحث مفصلي مهم يرتبط مباشرة بموضوع الدراسة ألا وهو إثبات العلاقة بين حقائق عالم التكوين وسطور عالم التشريع فكما ذكر أن الحكمة النظرية مبنية على قواعد منطقية وفلسفية موصلة للحقائق ولنسلّم إننا في عالم التكوين وصلنا إلى حقائق واحدة وثابتة مبتنية على أسس منطقية وعقلية مظبوطة فهل يمكن مع ذلك أن توجد تشريعات عدة تعالج الإنسان وسلوكه ونقرّ بها جميعها ؟ أم لابد أن يكون طبقاً للحكمة النظرية توجه عملي وتشريعي واحد يمكن نعته بالسلامة والأحقية ؟ زخذت كت نبحث عنه بين خفايا العلاقة بين الحكمة النظرية والحكمة العملية (مسائل التشريع وسلوكيات الإنسان) فعند ثبوت العلاقة هل يبقى مجال للقول بصحة التشريعات المتعددة ؟
وجدت لتفسير العلاقة بين التكوين والتشيع آراء ونظريات متعددة ومختلفة برجع في مجملها إلى ثلاثا رؤى رئيسية:
النافون للعلاقة، القائلون بتطابق التشريـع والتكوين، القائلون باقتضاء التكوين لتشريع معين.
ـ(339)ـ
وسنقتبس هنا بعض المقتطفات من كلام للعلامة السبحاني لقيمة طرحه في هذه النقطة من كتاب نظرية المعرفة:
أما عرض الآراء:
القول الأول منسوب إلى دافيد هيوم الانكليسي(1) فهو يرى ان مسائل وقضايا الحكمة النظرية تبحث حول ما هو موجود بينما القضايا المرتبطة بسلوك الإنسان تتمحور حول ما يجب فعله وتركه وبالتالي فلا يمكن أن نجمع بين نوعين من الادراكات المختلفين سنخاً وطبعاً ونجعل بينهما علاقة ترتب وتأثر، ينقل المكفر مهدي الحائري في كتابه تعمقات العقل العملي كلاماً لدافيد هيوم في هذا المجال:
«... انهم يستدلون بالقضايا المخبرة عن وجود الشيء أو عدمه على لزوم شرك الشيء وعدمه... فأي رابطة منطقية بين النسبتين والاستنتاجين...».
القول الثاني: وهو منسوب لكارل ماركس الألماني(2) وانجلز حيث يسودن التطابق التام بين عالم التكوين وعالم التشريع وهذا ينطلق من مبنى مختار عندهم وهو ان الإنسان جزء من عالم الطبيعة محكوم لا محالة للقوانين التي تحكم الطبيعة على هذا تكون القوانين التي تحكم الإنسان في سلوكياته وارتباطه هي نفسها القوانين الطبيعية ويمكن عنونتها في:
حركة التطور، تناقضات التطور، قفزات التطور.
وبالتالي تكون الأنظمة والتشريعات الإنسانية قد صيغت وفق هذا الهيكل القانوني الحاكم في الطبيعة والإنسان يقول ماركس:
________________________________
1 ـ 1711 م - 1776 م.
2 ـ 1817 م - 1883 م.
ـ(340)ـ
«ليست حركة الفكر ان انعكاسا لحركة الواقع منقولة ومعقولة في مخ الإنسان»(1).
القول الثالث: وهو المنسوب للفلاسفة الإسلاميين حيث يرون ان التشريع معين ومشخص من قبل المسائل التكوينية بحيث ان النظام التكويني يقتضي نظاماً سلوكياً وتشريعياً معيناً ويفترق هذا الرأي مع الرأي الأول بإثبات العلاقة بين التكوين والتشيع ويفترق عن الرأي الثاني بنفيه للتطابق بين عالم التكوين وعالم التشريع، وتميز الرأي الثالث راجع لخروق لوحظت في كل من الرأي الأول والثاني ونذكر هنا هذه الاشكالات تباعاً:
- رؤية ماركس رؤية مخالفة للواقع فيصحيح ان الإنسان جزء من الطبيعة إلا انه يتميّز عن بقية الأجزاء بكونه كائناً عاقلاً ذا إرادة واختيار وبالتالي يمكنه أن يخالف قوانين الطبيعة ويتمرد عليها، ولا مجال أن ننفي عن الإنسان حريته وأرادته ونصنّفه كسائر جمادات وأجسام الطبيعة الأخرى.
- أما رؤية دافيد هيوم فنلاحظ اشتباهها في موضعين: لا يمكن أن نقول باستحالة ترتب الجملة الإنشائية عن الخبرية لصرف كونهما من نسختين مختلفين بل يمكن أن تكون الادراكات مختلفة ولكن يمكن ترتيب إحداهما عن الأخرى كقول القائل: ان اليوم يوجد عندي ألم فلن أذهب للعمل ولا نرى تحرّجاً في هذا المثال في ترتيب الادراكات الإنشائية عنى الخبرية وهكذا في سائر المسائل.
الموضع الثاني يتضمن بيان المنهج المتبع لدى الفلاسفة الإسلاميين في استنباط أحكام عملية من ادراكات خبرية حيث انهم يوضحون إننا لا نعبر بشكل مستقيم ومبشار من نوع إدراك إلى نوع آخر بل نوسط في الإثناء أحكام عملية بديهية، وهنا
________________________________
1 ـ نظرية المعرفة - شيخ سبحاني ص 333 - 334.
ـ(341)ـ
نحتاج إلى بعض التوضيح.
ان المنهج العقلاني في جانب الحكمة النظرية يعتمد في بناء معرفته على وجود البديهيات كخطوة أولى والتي لولاها لما قام للمعرفة بناء لوصلنا للدور أو التسلسل ومثال بديهيات النظرية نجد استحالة اجتماع النقيضين (استحالة ارتفاعهما وعلى نفس النسق تكون الحكمة العملية فإما أن تكون معطياتها معلومة بذاتها أو ترجع لما هو معلوم بالذات ومثاله حسن العدل وقبح الظلم وبديهيات الحكمة العملية هي التي نأخذها كواسطة للانتقال من الادراكات الخبرية الباحثة حول ما هو موجود إلى الادراكات الإنشائية الباحثة حول الذي يجب أن يفعل أو يترك ومثال ذلك:
- فقد ثبت في الحكمة النظرية ان الخالق تعالى هو الذي أعطى الموجودات كمالها فالله هو المنعم.
- ومن بديهيات الحكمة العملية نجد أن شكر المنعم واجب.
فعندما نواثب صغرى خبرية مع كبرى بديهية للعقل العملي نحصل على نتيجة توجه سلوك الإنسان مباشرة.
الله منعم ___ وكل منعم يجب شكره ___ الله يجب شكره
فهكذا وبهذا الطريق نبني نظام سلوكي وتشريعي للإنسان انطلاقاً من قواعد ميتافيزيقية.
والآن نرجع لمحل الكلام فقد ثبت مما مرّ نحو ارتباط بين الحكمة النظرية والحكمة العملية وان الحكمة النظرية تبتني على أسس منطقية، محكمة فإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يكون لدينا وفق رؤية كونية معينة عدة مناهج سلوكية
ـ(342)ـ
وتشريعية وتكون كلّها محكومة بالصحة. فالمقدمات المعينة لقياس ما عند تأليفها لا تفسح المجال لأكثر من نتيجة وبالتالي من الخطأ المنهجي والمنطقي أن نقول بأحقية كل الطرق التشريعية في الحين الذي تثبت منطقيال انه لا يوجد عندنا إلا نظام فكري واحد مصيب يمكن أن يفسّر عالم التكوين.
وهكذا تفقد التعدديّة في قبال هذا المنهج العقلاني مناعتها الذاتية وتنهار تماماً.
محصل الكلام في هذا القسم من البحث حول التعددية المعرفية إننا هنا ناقشنا المباني المعرفية التي قامت عليها التعددية الدينية المعرفية وذلك بعرض أراء روّادها ثمل جان هيك والدكتور عبد الكريم سروش وتوجيه النقد إليهم.
ومن ناحية ثالثة بسطنا المنهج العقلي اسليم وكيفية نسج معرفة كاملة على هيكله وما يفضي إليه ذلك من انهيار تام للتعددية الدينية المعرفية.
وبعد كل هذا فلا مندوحة من الإيمان بأنه في المسائل الدينية المعرفية لا يمكن أن يكون للقول بصحة جميع الآراء معك أو مطأ قدم في المنظومة المعرفية الكاملة والسليمة هذا كلّه في ضوء المعالجة الابستمولوجية للمسألة والآن سترى المباحث الكلامية ونتائجها.
المبانية الكلامية وانتقاداتها
كان البحث سابقاً حول المباني المعرفية للتعددية الدينية وكانت هناك نقاشات ابستمولوجية خلصت إلى نتيجة ان التعددية ليست بنظرية سليمة، وهنا سنطرح المباني الكلامية للتعددية ونوجه إليها النقد لنرى إلى أي شاطئ ستؤدي بنا، ونوضح في البدء المقصود من المباني الكلامية فإننا هنا سنطرح الأدلة والرؤى التي تتخذ من المفردات والمفاهيم الدينية كأدوات لإثبات مقصودها وبالتالي إذا أردنا التعامل معها فينبغي علينا أن نتعامل ونتواصل بنفس الأسلوب والأدوات - الدينية - وكما لم يكن
ـ(343)ـ
من الممكن أن تنعقد نظراً معرفياً بالاعتماد على مفردات كلامية كذلك لا يمكن هنا أن نعالج المسائل الكلامية والمفاهيم الدينية بالاعتماد على قواعد معرفية ومفردات ابستمولوجية.
والآن سنتناول هذه الاستدلالات الكلامية تباعاً.
الاشتباه في فهم الهداية الإلهية.
مفهوم الهداية الإلهية يستلزم القول بالتعدّدية.
عرض بعض القائلين بالتعددية دليلاً مبتنياً على بعض المفاهيم العقائدية وقالوا ان الله خلق العالم والإنسان وجعل معاده الجنة ان كان مؤمناً والنار ان كان غير ذلك وفي الأثناء وصف الحق نفسه بأنه الهادي للصراط المستقيم، وبملاحظة تنوع الأديان والمذاهب واختلافها وكثرة السائرين على غير الصراط المستقيم فهذا يعني أنّ الأكثرية لن تنال حظّاً من السعادة يوم القيامة وهنا يقف هؤلاء وقفة تأمّل ويقولون بأن سقوط الأغلبية في نيران الجحيم أمر يخالف وصف الخالق نفسه بالهدية وحفاظاً على اسم الهادي للخالق لابد أن يدخل أكثر الناس للجنة وطريقة ذلك أن نفتح أكثر ما يمكن من الأبواب للجنة ونوسع مفهوم السعادة فلابدّ لنا من طرح التعددية الدينية لأنه في غير هذه الصورة سيكون وصف الهداية لله تعالى ذو صبغة تشريفاتية وافتخارية لا أكثر ولا أقل(1) ونلاحظ على هذا الكلام ما يلي:
وقع خلط بين مفهوم الهداية ومفهوم الفلاح والنجاة يوم القيامة فقد فهم هؤلاء كون الله هادي الإنسان بمعنى منجيه ومدخله الجنّة يوم القيامة في حين إننا نعرف ان كل من الهداية والفلاح مفاهيم مختلفة ولكل منهما مقوّماته الخاصة وشروطه المعينة
________________________________
1 ـ الدكتور عبد الكريمِ سروش، كيان، عدد 38 ص 58.
ـ(344)ـ
فمثلاً الهداية تعني جعل الإنسان حرّاً ومختاراً من ناحية وإزالة كل الحواجز والموانع التي تحجزه عن الاختيار الحق وتمكينه من أداة الانتخاب السالمة ألا وهي العقل الخالي عن الأمراض والخارج عن سلطان الهوى وهذه كلها مقوّمات الهداية الإلهية في حين ان الفلاح يوم القيامة يتقوّم بأمرين:
أحدهما الانتخاب السالم للإنسان في هذه الدنيا فالإنسان الذي يعيش حالة التكليف يكون حرّاً مختاراً عاقلاً غير مضطر ولا مجبور وما إلى ذلك فهكذا إنسان إذا انتخب الطريق الأصوب كان مفلحاً وان اختار غير ذلك فلا يلومنّ إلى ا نفسه.
والأمر الثاني والأهم في مسألة الفلاح هو الرحمة الإلهية فالله ينظر بعين الرحمة لمن يشاء تفضلاً منه ومنة فحسب ما ورد في المتون الدينية ان الناجون يوم القيامة برحمة الله وفضله لا بعد لـه وأعمالهم فكل الأعمال الحسنة وان اجتمعت لا تؤدي حق أدنى نعمة من نعمه سبحانه وتعالى فالبحث في مسألتين مختلفتين لا يجب الخلط بينهما واحدة الهداية وجوهرها جعل الإنسان عاقلاً حرّاً مريداً والثانية مسألة الفلاح يوم القيامة المرتبطة برحمة الله تعالى فكون أكثر الناس يوم القيامة من أهل الجحيم - على فرض - فلا يسخرّ هدايته تعالى في شيء باعتبار انهم هم الذين اختاروا ذلك.
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(1).
وأيضاً لا يسخرّ رحمته تعالى في شيء باعتبار ان الحساب يوم القيامة وفق فضله ومنّه سبحانه وتعالى لا بعد لـه حتى نستدلّ عليه ونحاجج الرحمن الرحيم فان أكرمنا فتفضلاً منه ورحمة وان اخترنا الجحيم فلا يمكن لنا أن نقدم في عدله سبحانه وتعالى.
________________________________
1 ـ سورة الإنسان: 3.
ـ(345)ـ
من جهة ثانية ان القول بأنه تعالى هاديا يقتضي أن يدخل أكثر من في الأرض الجنة هذا الكلام لـه لوازم تنامي المباني العقائدية الثابتة أحقيتها.
فهو كلام يناقض حرّية الإنسان واختيار فهو بلغة أخرى يقول يجبر الإنسان في أفعاله إذ عندما نعني بالهداية ذلك الفعل الإلهي ونقصد بها أيضاً الفلاح الذي هو اختيار إنساني نكون هنا قد حكّمنا وسلّطنا الفعل والإرادة الإلهية على الاختيار الإنساني وهذا هو الجبر بعينه الذي ثبت بطلانه في محلّه وإضافة إلى ذلك وبتحقيق تاريخي نجد أن ترويج عقيدة الجبر في التاريخ الإسلامي داخل أبحاث القضاء والقدر والعدل الإلهي جرّ على الأمة ويلات على مستوى الطرح وعلى مستوى الممارسة وهنا نرى أن صياغة القول بالجبر في ثوب جديد وتحت عناوين الهداية والنجاة والتعددية كيف يخدش في قيمة الصراط المستقيم فالإنسان حرّ ومختار وبإرادته وباختياره يصل لكماله وبإرادته واختياره ينغمس في جهنم.
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾.
والهداية تقف عند جعل الإنسان حرّاً ومختاراً وإكمال الطريق وانتخاب المصير يبقى على عهدة المكلّف.
من جهة ثالثة يمكن أن نطرح سؤالا على هؤلاء ونقول من قال ان غاية الحق تعالى هو إدخال أكثر الناس إلى الجنة ؟ فأولاً الحق تعالى لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضره معصية من عصاه وغاية خلقة العالم ومراده من ذلك مرتبطة بأبحاث عرفانية يظيق مجال الحديث عنها هنا وثانياً الوارد في المتون الدينية فيما يخص الأكثرية حسب
﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ﴾.
وان كان الأمر كذلك فلا يبقى مجال للحديث عن أولوية الأغلبية بالجنة وماشاكل هذا الكلام وقد تفطن الدكتور سروش فيما بعد لهذه المسائل فقال بأن هذا الإنسان
ـ(346)ـ
المختار عند اختياره سيكون خاضعاً لظروف وشرائط قاهرة تؤثر على اختياره حيث يقول ان أكثر المتدينين إنّما يتوجه للدين بسبب التقليد عن الغير أو بعلّة جبر المحيط(1).
فلا يمكن لنا الحديث بعد ذلك عن حرّية الإنسان في انتخابه فنحتاج لإقرار التعددية التي لا تحصر الصراط المستقيم في خط معين بل تعطي الشرعية للجميع ويفوز من جرّاء ذلك الأغلبية وتتحقق الهداية الإلهية بالفعل وبتحليل كلام سروش هنا نجد انه يعتمد في رفض الهداية بالمعنى الذي طرحناه على تبيان امتناع حرية الإنسان في الاختيار من جهتين التقليد، جبر المحيط بالنسبة للتقليد نقول انه صحيح ينافي الاختيار ولذلك حاربه الدين وذم الأقوال السابقة التي كانت تعتمد على التقليد وطالب الإنسان أن يقوم بوجه التقليد ويعبر عن رفضه لـه وإضافة لنداءات الدين يمكن أن نتتبع حركة الإنسان في الواقع فنجد انه قادر على كسر قيود التقليد وردّه وهذا وذاك لـه يدلاّن بكل وضوح على أن التقليد ليس بالقضاء المحتوم في حياة الإنسان والإدارة الحرّة باستطاعتها تجاوز التقليد متى ما أرادت ذلك.
والنسبة لجبر المحيط ويقصد به الدكتور سروش حتماً الجبر الاجتماعي فنقول ان هذه الفكرة ترجع بجذورها الفلسفية للطرح الماركسي وتفسيره لحركة التطور في التاريخ وإقراره بجبرية المراحل التاريخية الخمسة(2).
ومن باب الاسترسال في الحديث ان التجربة التي تقرّها الماركسية هي التي بينت ان الإنسان لا يمكن ان يكون محكوماً للجبر الاجتماعي الاجتماعي وأكبر دليل على ذلك سقوط تنبؤات ماركس المبنية على هذا الجبر الاجتماعي والمخبرة عن مستقبل الثورات
________________________________
1 ـ كيان 40 ص 16 (فارسية).
2 ـ المشاعية، الإقطاعية البرجوازية، الاشتراكية، الشيوعية.
ـ(347)ـ
العمالية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا... وبالتالي ومع سقوط هذه النظرية لا يبقى مجال لأي أحد أن يجترّ هذه الفكرة البالية التي تجرّد الإنسان عن كل إرادة حرّة ووعي متحرّك تحت عنوان الجبر الاجتماعي أو جبر المحيط.
فتخلص إلى ان الإنسان لـه حرّيته التامة في الاختيار وهذا هو معنى اهتداءه من قبل الحق تعالى فنحن إذا في استغناء تام عن طرح فكرة نجاة أكثر من الإنسان وما يلازمها من إقرار التعددية .
والتعددية تعتمد على فكرة ان للدين لب وقشور.
ان من جملة المباني الكلامية التي اعتمد عليها أصحاب التعددية لإثبات مدّعاهم هي فكرة ان للدين لب وقشور أو جوهر وأعراض وأصل هذه الفكرة يرجع إلى عالم من علماء الكلام الألماني شلايوماخر والذي حاول إنقاذ الديانة المسيحية في زمانه بعد الهجمات العديدة التي تعرضت لها سواء من دعاة الحرية السياسية أو أهل البحث العلمي أو اتباع الديانات الأخرى إلى كثير ذلك وكل منهما حاول النيل من المسيحية من ناحية وحتى يرفع شك يوماخر هذا الضغط جاء بفكرة ان لكل دين لب وقشور ولا يتزلزل الدين إلاّ إذا ارتبك اللب لكن عند تداعي القشور فهذا لا يضرّ شيئاً لأنها لا تمثل إلاّ قشوراً وأموراً سطحية وانطلاقاً من هذا الأساس قال شلايوماخر ان روح وجوهر ولب الديانة المسيحية هو وجود الرابطة المعنوية بين الإنسان وربّه وبالتالي فلا داعي لانتقاد الكنيسة في جوانب سياسية أو علمية فهذه كلّها قشور لا تشعر بأصل الدين وبهذا الأسلوب استطاع شلا يوماخر التخفيف من أسهم الانتقاد الموجهة للمسيحية.
فكيف اعتمدت التعددية الدينية على هذه الفكرة لإثبات مدّعياتها ؟
فيما ينقله المفكر الأمريكي لگنهاوسن نجد أن جان هيك يستفيد من نظرية
ـ(348)ـ
شلايوماخر ويجعل محور ولب جميع الأديان واحد وهو الانسلاخ عن الذات والتوبة للحقيقة وما مأواه يكون من القشور وأي تشريع يؤمّن هذا اللب فهو دين حري أن يكون سبباً للنجاة وبهذا الاعتبار تكون جميع الأديان ضامنة للسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة باعتبار احتواءها على هذا اللب فكل الأديان حقة وهذا هو عين القول بالتعددية الدينية.
ونعلق في البداية على نظرية شلايوماخر ونقول انه قد يكون لها جانب من الصحة من الناحية الصورية حيث ان الأديان عموماً والدين الإسلامي خصوصاً - وحديثنا هنا داخل المفردات الدينية الكلامية - حاوي للمفاهيم التي تدق على وجود من تباين بعض مسائله بحيث أن تكون لبعضها الأولوية والأهمية على غيرها من ناحية ترتيب آثار الإيمان والكفر وهذا ما نشاهده على الصعيد العقائدي فنسمع ان إنكار المعلوم من الدين بالضرورة يستلزم الكفر في حين ينتفي وجوب الإيمان ببعض الأمور الفرعية وعلى الصعيد الفقهي التشريعي حيث تتراوح الأحكام الفقهية بين واجب يتهدم الإسلام بتركه وبين مستحب يجوز تركه، فكل هذه إشارات تشعرنا بمقاربة آراء شلايوماخر لصحة في صورتها مع إمكانية مناقشة مضمون ومحتوى آراءه، ونذكر مقدمة مفادها ان تشخيص اللب من القشور لدين معين لا يمكن إلاّ بالعودة إلى أجواء ذلك الدين ومطالعة متونه والتدقيق في نصوصه ولا يمكن الاكتفاء باستقراء حال الأديان بالجملة لعيوب الاستقراء الناقص وعدم أفادته اليقين أولاً وثانياً أي هذه المسألة ليست من المسائل الدرجة الثانية وإنّما هي مرتبطة بالدين مباشرة ومعرفة من الدرجة الأولى فلا يمكن تناولها ابستمولوجيا وإنّما لابد من العودة لاستفسار أحكام الدين نفسه حول هذه المسألة وبالرجوع للأديان نجدها تختلف في تدحيد لب الدين من قشوره وهذا الاختلاف في التشخيص هنا راجع لاختلاف الأديان بشكل عام
ـ(349)ـ
حيث أنّ لكلّ دين معطياته ومقدّماته الخاصة به وله ركائزه التي ينطلق منها ونحن يمكن أن نميز وندرس المباني والأصول ونقارن بينها حتى ننتخب الأرضية التي من خلالها نتناول هذه المسألة وهكذا نجد أنفسنا خارج بحث التعددية الدينية فلا يمكن لجان هيك أن يعتمد على آراء شلايوماخر لإثبات التعددية الدينية المعرفية.
وجه شاني للاستفادة من نظريات شلايوماخر بطرحه الدكتور سروش بنحو مختلف تماماً عن طريقة جان هيك فالدكتور سروش يبدأ ليقرّ ان لكل فهم ديني جوهره ولبّه المختص به وكل جوهر ولب متناسب مع نوعية الفهم الموجه للدّين فهو يرى أن للفهم السطحي المنطلق من تقليد الغير لـه لب لا يتجاوز أوامر ونواهي صاحب الشريعة في حين ان الفهم الكلامي يجعل من المفردات الاعتقادية هي الأساس فيركز عليها أبحاثه وفوق ذلك نجد ان التوجه العرفانى للدين يعتبر أن الأصل هي تلك التجارب المعنوية والاشراقية إذاً فكل دين لـه جواهر متعددة ومن ناحية أخرى يرى سروش أن كل دين هو محصول شخصية كل مبنى وبالتالي فإن اختلاف الأديان يرجع في الحقيقة للتفاوت للملاحظ بين شخصيات الأنبياء، فلحد الآن نجد أن سروش في عرضه لفكرة لب الدين وقشوره وفي تحليله الاختلاف بين الأديان يعتمد على أساس معرفي تناولناه بالدرس سابقاً وهي رؤية هيمنة الذهن البشرى على الدين وهنا نركز على آراء سروش حول جوهر الدين فيضع سروش البحث في مفترق الطرق ويقول أما أن يكون الاختلاف بين الأديان هو في الدرجة أم في النوع فإذا كان الاختلاف في الدرجة فهذا يعود للنظرة الشمولية الخارجة عن إطار البحث أما إذا كان الاختلاف في النوع فنطرح على سروش سؤال بأي وسيلة نرجح لنعرف جوهر الدين ولبه ؟ وبكل بساطة يجيب سروش وينفي إمكانية ترجيح أمد الأديان عن البقية بالاعتماد على الدليل والبرهان ويعلل ذلك سروش بأن الاختلاف بينها نوعى ويسوق سروش مثالاً
ـ(350)ـ
لتوضيح كلامه فيقول إننا إذا أخذنا جملة من الشعراء البارزين ونطالع أشعارهم فإنه يصعب علينا ترجيح أحدهما عن الآخر بل آخر ما يحصل هو إننا قد نحس بجذبة نحو هذا أو ذاك لكن لا يتحقق الترجيح(1) وهنا نتوجه إلى موطن الضعف في كلامه فنعلق عليه.
انه يوجد فرق بين التحقيق حول الأديان وعملية الاستدلال فيها وبين مطالعة الأشعار ونحو الانجذاب إلى بعضها فالأول يدخل ضمن قسم المركبات الخبرية التي يصح أن نصفها بالصدق والكذب أما الأشعار فهي مركبات إنشائية خارجة عن الصدق والكذب ففيما - يخص الأديان وهي التي تحاول أن تخبرنا على ما نجهله وترشدنا إلى ما يجب فعله وتركه فإننا يمكن لنا أن نعالجها بأدوات وطرق معرفية تمكننا من البرهان والاستدلال لبيان صدقها من كذبها فنرج أحدها ونترك الباقي وهذا ما مرّة الإشارة إليه فيما سبق وبما أننا هنا نبحث التعددية بحثاً كلاميا يمكن أن نذكر بعض النصوص التي توجه لكلام أصحاب التعددية في هذا المضمار.
﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ _ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾.
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾.
استفهامات داخل مفردات الدين الإسلامي
والآن سنحاول طرح بعض الأسئلة التي تحاول أن تستفسر الموقف الديني الإسلامي في مجال التعددية الدينية علما ان هذه الأسئلة متضمنة لاشكالات وشبهات لأصحاب القول التعددي طرحناها في شكل سؤال وجواب تسهيلا على القارئ الكريم في تناولها:
________________________________
1 ـ كيان 40 ص 13 سروش.
ـ(351)ـ
نلاحظ في آيات القرآن الكريم رفضاً للرأي الانفرادي المسيحى مثل:
﴿َقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1).
فلا يمكن القول بأن الإسلام يرفض التعددية إذا بل يقرّها.
صحيح ان الآية القرآنية جاءت لتذم الرأي المسيحي الانفرادي الآحادي الذي يحصر صراط السعادة والنجاة في طريق واحد هو المسيحية أو اليهودية ولكن بالتدقيق في الآية أكثر تتجلى لنا حقائق أخرى مفادها ان اشتباه المسيحية لم يكن في حصر الحقيقة في طريق واحد وإنّما كان خطأ مهم انهم ضيقوا رحمة الله وخصوها بأنفسهم وهذا لايرضاه شرع ولا عقل ودخول الجنة برحمة الله وفضله فيهبها لمن يشاء ويحرم منها من يشاء.
حتى نفس المسيحيين والمتمسكين بعقائدهم لم يضنوا بالجنة بأعمالهم فكيف تأتى لهم أن يغلقوا بابها على غيرهم إذاً فالمسيحيين لم يتحدثوا عن الحقيقة وطريقها وحصروها في أنفسهم وإنّما ضيقوا درحمة الله تعالى يوم القيامة وهذا هو الخطأ الذي تعاقبهم لأجله الآية القرى نية ومن ناحية أخرى قد تكون الأهم ان الذم الموجود في الآية الكريمة معلق على شيء مطلع وهو عدم امتلاك المسيحيين البرهان الذي يثبت أقوالهم إذاً فالذم في الحقيقة راجع لافتقاد البرهان وعدم الاستدلال على المدعي وهذا ان بين شيء فهو يؤكد على أهمية الدليل والبرهان لإثبات المدّعى والبرهان يعني بيان الخبر الصادق من غيره ولهذا عين ما تحاول التعددية رفضه فإجمال الآية ومفادها لا يشيران إلى القول التعددي بل يرفض ويناهض القول التعددي.
إذا كان الدين الإسلامي يعتقد بأن الدين الإسلامي هو الحق وغيره باطل فلماذا يقرّ
________________________________
1 ـ سورة البقرة: 111.
ـ(352)ـ
في آياته الديانات السابقة حيث يطلب من المسلمين الإيمان بكل الكتب السماوية بل ويعتبرها أنوار ويحث المسلمين على احترام أهل الكتاب وعقائدهم وهذه كلّها مؤشرات توحي بالتعددية الدينية.
نقول أولاً أن الدعوة لاحترام الغير حتى وان كان ذا عقائد مخالفة هو أمر مطلوب وسيأتي بيانه في بحث التعددية الاجتماعية وإنها لا تعني لزوماً إقرار التعددية المعرفية وثانياً ان الدين الإسلامي يقرّ بالكتب السابقة ويعبر عنها بالأنوار غير ان هذا مشروط بعدم تحريف هذه الكتب يعني الكتاب الأساسي الذي يقرّه الإسلام هو تلك التعاليم التي نزلت حقيقة من لدن حكيم خبير على قلب نبيه ورسوله والإسلام يرفض ويحارب التعريف في الكتب السماوية، ومن ناحية أخرى ان إقرار الكتب السماوية السابقة وكونها حقيقة نازلة من عند رب العالمين هذا أمر غير إمكانية العمل بها في زمان يكون الجميع ملزمين بإجراء أحكام الإسلام حتى نستخلص فيما بعد القول بالتعددية الدينية فإن هذه الكتب هي حقائق في زمانها ووجب العمل بها في ظروفها ومن هذا الباب أقرّها الدين الإسلامي لكن في زماننا اليوم الجميع مطالبون بالتدين بدين الإسلام والعمل بأحكامه ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ويبطل العمل ببقية الأديان رغم الاعتراف بها في تاريخها وفي ظروف زمانية ومكانية معينة فيحصل عندنا هنا ان هذه الأديان يبطل العمل بها الن وليست كاذبة وواجب الجميع هو العمل بأحكام الدين الإسلامي وهذا خلاف القول التعددي الذي يؤمن بأن العمل بكل الأديان مبرئ للذمة ومقرّب للحق تعالى.
بعض العرفاء وهم أعلى مراتب العلماء في الدين الإسلامي يقولون بصحة
ـ(353)ـ
التعددية الدينية وأكثر من هذا بل هم مارسوها في حياتهم ودعوا إليها بسبل شتى(1). فلا يمكن مع ذلك أن نقول أن الدين الإسلامي ينفي التعددية الدينية بشكل مطلق.
وفي الجواب نقول انه من جهة أولى أن قول بعض ممن ينتسب للدين لا يكون بالضرورة الموقف الديني الصميم حتى وان كان هؤلاء أفضل علماء الدين فلا يجب أن نخلط بين أقوالهم والمواقف الدينية الحقّة واكبر دليل على ذلك إذا كانت هذه الأقوال معارضة بآراء أخرى لعلماء آخرين فهذا إذاً خطأ منهجى نتجاوزه.
ونقول من جهة ثانية ان هذا الفهم لأقوال العرفاء غير صحيح ان لم نقل ان صاحب الادعاء لم يفهم كلام العرفاء إذ كما هو معلوم ان العرفاء يتعاملون مع الدين في باطنه وظاهره وتارة يكون كلامهم موجه لظاهر الشريعة وتارة موضوع حديثه هو باطن الدين والعرفاء يعتقدون بوجود باطن واحد لكل الأديان يتمحور حول التجربة المعنوية والروحية وعلاقة العاشق بمعشوقه ولكن هذا لا يكفي لإثبات التعددية الدينية لان نفس العرفاء يقرّون ان طريق الوصول للباطن هو الظاهر وظاهر الشريعة في زماننا منحصر في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وكل من أراد الوصل مع باطن الدين والحقيقة التامة فلا طريق لـه غير اتباع شريعة سيد المرسلين وهكذا نجد ان قول العرفاء عند تحليله يصل إلى رفض التعددية.
التعددية الدينية الاجتماعية
وتعني كما عرضناها في ما مضى ذلك الإطار السليم الذي يمكن من تعايش الفئات المختلفة في آرائها فهي لا تستهم بتوجيه الأحكام تجاه الرأي الآخر وإنّما تحاول أن تصوغ موقفاً يضع الحدود والقواعد لسلوك وممارسة كل طرف يحث يصل
________________________________
1 ـ سيد ايمر انومى كيان 40 ص 26.
ـ(354)ـ
المجموع إلى هدفه وكماله من دون حالة تراجع وإقصاء والتعددية الاجتماعية يمكن أن تضم مجموعات مختلفة في الدين أو الجنس أو الخط السياسي أو التوجه الثقافي أو غير ذلك وتختلف تبعاً لذلك ملامح التعددية الاجتماعية فإذا كانت فى المجال السياسي فتطل مفاهيم الأحزاب والحرية والتصويت وأما في مجالات أخرى مثل المجال الديني فإنما تركز على تبرئة الأطراف الأخرى حتى ترفع حساسيات التكفير والعداوة وما إلى ذلك ونحن في تتبعنا لظروف نشأة فكرة التعددية رأينا إنها كانت موجهة لسلوك الكنيسة الكاثوليكية الحاكمة حيث كانت تحذف وتقصي الأطراف المقابلة لتفرض انفرادها بالساحة الدينية فطرحت التعددية الدينية كحل يكسر هذا الواقع ويرفع الموانع أمام الفرق الأخرى غير ان الاشتباه كما مرّت الإشارة إلى ذلك كان في أنهم طرحوا التعددية الدينية المعرفية كمعالجة لمثل هذا الواقع ولكنه سبق وان أثبتنا بطلان التعددية المعرفية ونقدم مع ذلك البديل ونقدم التعددية الاجتماعية كأمل يحافظ على الوحدة العملية بعد إقراره بوحدة الصراط المستقيم وعدم تحدّده.
ونشير مرّة أخرى إلى أننا سنعتمد الدين الإسلامي كركيزة عقائدية وتشريعية وقاعدة انطلاقنا لأننا اثبتنا في البحث المعرفي انفراد الحقيقة وفي محله ثبت ان هذه الحقيقة عندنا تعنى الدين الإسلامي وعلى أساسه نحاول أن نصرغ النظام الاجتماعي الذي يضمن حق الاختلاف ويضمن الوحدة م الممارسة.
تمهيد الدين الإسلامي المبين في تعامله مع غيره ومع مخالفيه يحاول أن ينطلق من طهارتهم وعدم استحقاقهم للجحيم لأن إيمان المسلم بأن غيره ليس من أهل الجحيم يلغي الذهنية الموجودة القائلة أن علاقة المسلم بغيره هي علاقة الإيمان بالكفر حتى يكون لازمها الوقوف على طرفي النقيض وما يتبعه من تنافز وتحارب وغيره لذلك
ـ(355)ـ
سعى الدين الإسلامي الحنيف في بادئ الأمر وفي أول خطوة إلى إلغاء هذه الذهنية ويجعل من علاقة المسلم بغيره هي علاقة الإيمان بالإنسان بما يعنيه من قابلية التكامل والرقي فهي علاقة تحمل روحية الرحمة ومسحات التعاطف ونحن نعتبر أن خطوة الإسلام هذه هي الحجر الأساس والركيزة الكبرى لإقرار التعددية الدينية الاجتماعية فبراعة الإسلام في إيجاد علاقة الإيمان بالإنسان بدل علاقة الإيمان بالكفر هو المفصل الحاسم هنا.
ويسري هذا المبنى أيضاً في علاقة المسلم بالمسلم ان انتميا إلى مذاهب مختلفة فبهذه الخطوة يكون الدين الإسلامي قد تجاوز الاختلافات الداخلية وعلاقاته مع غيره ويكون قد اختزل مراحل طويلة فصلت الأمة عن التقدم والرقي ويمكن أن نتساءل وفق أي مفاهيم قدم الإسلام طرحه ؟
المستضعفين: يطرح القرآن الكريم مفهوم المستضعفين ولكن بمعاني جدّ راقية ويعطيها أبعاد أخرى يقول القرآن الكريم مستثنيا هذه الفئات من العذاب.
﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً _ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾(1).
ذكرت هذه الآية فئتان من الناس أنهم لاتنالهم نار الجحيم وهم الذين لا يستطيعون حيلة والآخرين الذين لا يهتدون سبيلاً.
فأما الفئة الأولى وهم الذين يعيشون في واقعهم ظروفاً قاهرة تمنعهم من الوصول إلى الحق وتزاحم الحق في الوصول إليهم وهذه الظروف قد تتمثل في ظلم سياسي يفرض حالة اللاوعي واللامعرفة أو كانت هذه الظروف تتمثل في وضع قاهر يمنع
________________________________
1 ـ سورة النساء: 98 ـ 99.
ـ(356)ـ
ويبعد الإنسان عن الحق فهؤلاء الناس عند مفارقة الحياة تشمهلم هذه الآية وتنالهم الوحدة الإلهية بمقتضى العدل الإلهي.
والفئة الثانية هم الذين لا يهتدون للحق سبيلا ويمكن أن نحمل هؤلاء على معنى الجاهلين القاصرين فكما هو معلوم ان الجاهل ينقسم للقاصر والمقصر هذا الأخير هو الجاهل الذي نبه إلى عدم علمه لكنه يكابر ولا يسعى لرفع جهله في حين ان الجاهل القاصر هو الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل وقد يكون هؤلاء هم المقصودون في هذه الآية فعدم العلم بالأمر يرفع الإلزام به وبالتالي لا يؤاخذ الجاهل على ترك هذا الأمر ولذلك نحن نرى حتى في التكاليف الشرعية ان التكليف معلق على العلم به فإذا فقد العلم به فإن التكليف يرتفع مرة واحدة واشراط العلم كما هو ثابت في التكاليف الشرعية هو جاري أيضاً في أصول الاعتقادات فلا ينعت بالكفر والضلال إلاّ من عرض عليه الحق وعلم به ثم أنكر وجحد من دون دليل أو برهان.
﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.
وأما من لم يكن لـه علم فتأبى الفطرة السليمة على نعته بالكفر والضلال.
الكلام السابق كان في بيان القواعد العامة للاستضعاف والآن يطرح سؤال مهم هل ان إنسان اليوم المنتمي إلى مذاهب مختلفة واديان أخرى هل يمكن اعتباره مستضعف أم لا ؟
نقول إذا كانت عندنا رؤية شامل للمصيطر الذي يتحرّك فيه الإنسان من وضعه السياسي وما نشاهده من مصادرة للحرّيات واضمحلال لتعميق حالة الجهل وابعاد الإنسان عن مصادر المعرفة والعلم أو المستوى المعيشي والاجتماعي وما يفرزه من حالات قاهرة تحاصر اختياره وحرّيته في الانتخاب فبلحاظ كل هذه الظروف في مجملها يمكن الإقرار وبكل اطمئنان أن القدر المتيقن ان أكثر الناس هم
ـ(357)ـ
المستضعفون لذلك إذا نرتب آثار هذه النتيجة فسنلتقي مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في بيانه الذي ى يعني أن كل إنسان يجب أن يقدم لـه الاحترام لأنه أما شريك لنا في الدين أو شريك لنا في الإنسانية فكلاهما يستحق الاحترام ويكون هنا معنى ملاك الإنسانية كافياً لتحقق الاحترام المتبادل وصيغ التعايش السلمي.
التعددية في مجتمع المدينة
إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أثناء إيجاده لأول دولة إسلامية في تاريخ البشرية واجه تعددية دينية لم يكن هناك مجال للتستر عنها أو تجاوزها وكان لهذه التعددية وجه داخلي حيث التقى المهاجرين والأنصار في مجتمع واحد مع ما يمثله كل واحد منهما من انتماءات جغرافية وروحية وثقافية معينة.
والى جانب ذلك واجه المسلمون باعتبارهم أمة أتباع دين آخر في المدينة وهم اليهود فكان لابد لمجتمع الرسالة أن يتضمن اليهود في تلك المرحلة وإقراراً للتعددية الاجتماعية صاغ رسول الإسلام نظاماً بحفظ هذه التعددية فيجعل منها حالة قوة في المجتمع وليس بذرة لانحلال المجتمع وتفكّكه. وهذا النظام الذي صاغه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان تحت عنوان معاهدة عرفت فيما بعد بمعاهدة المدينة حيث وافقت عليها جميع الأطراف والتزمت بالعم بمقتضياتها.
وبالنظر إلى هذه المعاهدة نجد ان الرسول تجاوز بمعنى الإيمان الاختلافات الجغرافية والثقافية بين فئات المسلمين وجعل ان الاشتراك في الإيمان هو الأساس والشاخص لأي حركة وممارسة مستقبلية فأول ما نصت عليه المعاهدة «انهم أمة واحدة من دون الناس» وبهذا نفهم ان الإسلام جعلنا نتسامى ونتعالى عن كل اختلاف مذهبي وقومي وجنسي وهذا المعنى يؤكده أكثر البند الأول «ان ذمة الله واحدة تشمل جميع المسلمين بلا استثناء» وهذا التأكيد يمهد لفاعلية أمة الإسلام في وجه
ـ(358)ـ
المحن الاجتماعية والسياسية كما جاء:
«وان المؤمنين لا يتركون مطرحا (أي المثقل بالدين وكثير العيال) بينهم أن يعطوه في معروف في فداء أو عقل أي دفع دية أو فداء أسير».
وفي مواجهة الأعداء:
«ان المؤمنين المتقين يد واحدة على من بغى».
«وان المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه».
وغيرها من الفقرات التي تؤكد وحدة الصف الاجتماعي داخل الأمة الواحدة وبالموازاة تطرح المعاهدة العلاقة مع اليهود وتبدأ بأن تعترف بأن بعض الفئات من اليهود هم مؤمنين:
«ان يهود بني عوف أمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم».
وطبعاً لاحظ القارئ الكريم ان الإقرار بالإيمان لفئة من اليهود ليس إقراءاً معرفيا وإنّما هو تصريح بأن واجبات وحقوق المؤمنين الاجتماعية في نفسها لهذه الفئة من اليهود ولعل وصفهم بالإيمان يمكن أن نستشف منه أهمية التعددية الاجتماعية في الإسلام وما أولاها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حتمية في بناء المجتمع ونذكر كمثال لتساوي الحقوق والواجبات فيما يخص تفقد الحرب فهي واجبة على المسلمين واليهود في الآن نفسه وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة».
هذه أوردناها لمحة خاطفة للتعددية الاجتماعية في الإسلام حتى نبين للقارئ الكريم إنها ليست شعاراً يستهلكها الدين وإنّما هو واقع جسّده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونراه أيضاً اليوم في ممارسات بعض الدول الإسلامية وخاصة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وما يقرّه قانونها وسلوكها من حقوق للديانات الأخرى المتواجدة مثل
ـ(359)ـ
المسيحيين والزرداشت (عبدة النار)... أو تعاملها مع الفرق الإسلامية الأخرى وحرّياتهم حيث تتجلى أكثر معاني التعددية الدينية الاجتماعية ونحن إذا تعمقنا أكثر في بنود العقد الاجتماعي لأول دولة إسلامية لوجدناها تقوم على أساس مهم آخر وهو الوفاء بالعهود.
الوفاء بالعهود
ان من جملة الأسس المتينة لقيام التعددية الدينية الاجتماعية هو الإخلاص الكامل عند التعامل مع الغير يعني تنفيذ الاتفاقيات وإتمام المعاهدات وتحقيق الوعود والبقاء على الكلمة الصادقة حتى آخر لحظة وفي التعامل بين المجموعات الدينية المختلفة نجد الموقف الإسلامي صريحاً هنا بنبذ الخيانات ومخالفة الوعود والخداع والغش بين المسلمين وغيرهم ناهيك عن المسلمين فيما بينهم. وان الدعوة والتأكيد على احترام العهود بين أفراد المجتمع من أي مذهب ودين كانوا لهو توثيق عرى وأواصر التواصل الاجتماعي حيث لا يخاف أبناء الديانات الأخرى من غيرهم لأنهم على غير ملتهم وتنعدم بذلك الثقة بين الجماعات الدينية المختلفة.
محصل الكلام ان الدين الإسلامي في تعامله مع التعددية الدينية لهو منتفع إلى أبعد الحدود من خلال التساوي أمام القانون وإحقاق الحق وغير ذلك وهذا لا يعني كما أكدنا ذلك مرارال اعترافاً بقيمة التراث المعرفي للغير وإنّما هو تعامل في ظل الأصول الإنسانية وهذا هو وجه التعددية الدينية الاجتماعية والأهم من كل ذلك ان الإسلام بإقراره بالعقل والحسن والقبح الذاتي تمكن على ضوءه إقرار هذا النظام الحافظ للتعددية.
ـ(360)ـ
ختاماً
ان بحث التعددية لهو من الأبحاث المطروحة للدراسة والنقاش اليوم حيث تختلف الدراسات نفياً وإثباتاً إيجاباً وسلباً في تناولها للتعددية ومما عقد أجواء التحقيق أكثر في هذه المسألة هو تيه المحقق بين قيمتين أساسيتين لا يمكن أن يتنازل عنها وهما إقرار الصراط المعرفي السوي من ناحية والحفاظ على هدوء تعامل الرؤى المختلفة مع بعض.
وجل من خاض عباب هذا اليم أحس أن هاتين القيمتين تعيشان حالة التنافر والتباعد على نحو يعسر بل يستحيل الإصلاح بينهما.
فكل من تعامل إيجابياً مع القيمة المعرفية لفكرة ما إلا وتعامل سلباً مع يغرها في الممارسة.
وكل من يتعامل إيجابياً مع غيره اضطرّ للتنازل عن القيمة المعرفية لفكرته.
وقد يكون مردّ هذا الإحساس عند هؤلاء ظنهم ان الطريق الذي من خلاله تنتعامل مع القيمة المعرفية للذات هو نفسه الذي يحدد الممارسة مع الغير غير اننا كما رأينا هنا.
ان تفصيل المسألة وتوزيع البحثين ينقل حالة التعارض إلى وضع يتكامل فيه كلا الجانبين فالقية المعرفة ناظرة للمعرفة فلابد أن تناقش كذلك وبحث التعامل مع الغير والوحدة هي من مسائل الممارسة التي يجب أن تبحث داخل نظام سلوكي اجتماعي وقد تكون الدراسة أعطت لكل ذي حق حقه بذلك فلم نفدي المعرفة لأجل الوحدة ولم نقض على الوحدة لأجل المعرفة بل ان المعرفة والوحدة يتكاملان ليصوغان منظومـة نظرية وعملية قد تكـون شخصنا مثلها الأعلى في الدين الإسلامي الحنيف.
اللهم نسألك وندعوك أن توفقنا لما فيه خير الفكر والعمل وتهدينا صراطه المستقيم.
ارسال نظر