النظام الإسلامي شمولية وهدف واحد
الأستاذ عبدالله المرتضى
قم ـ إيران
بسم الله الرحمن الرحيم
لو أردنا ان نعدد مزايا الإسلام، لما استطعنا ان نصل إلى حد، إلى رقم محدد، ولضاقت الصفحات التي يمكن ان تستوعبها. ولكن نستطيع ان نميز ونفرز بين هذه المزايا الكثيرة، ميزة واحدة تقع في طليعة هذه المزايا وفي قمتها، تلك هي ميزة الشمولية، أو ميزة التعالي على الزمان والمكان. فالإسلام نظام شامل كل فرد يمكن ان يوجد على سطح هذه الكرة الأرضية، أي شامل في الجغرافية، وفي الوقت نفسه شامل للتاريخ، لكل زمان مهما امتد وطال، فهو دين خالد، دين المكان والزمان إلى قيام الساعة التي لا نعرف متى ستكون.
وإذا أردنا ان نعدد النواحي التي شملها الدين الإسلامي، فهي كذلك لا تحصى ولا تعد، فقد جاء هذا الدين ليغطي كل متطلبات الحياة المادية والمعنوية والروحية، وما من صغيرة ولا كبيرة إلا وأخذها بنظر الاعتبار فهو نظام للدنيا وتنسيق المتطلبات الحياتية الكثيرة جدا، وهو في الوقت نفسه أعداد كامل لما بعد هذه الحياة الدنيا القصيرة قياسا بالآخرة، فقد جمع بين الدنيا والآخرة،
ـ(444)ـ
وهذا الجمع هو كل ما يتطلبه الإنسان ليكون سعيدا، وليكون مطمئنا في حياته وضامنا آخرته، ذلك العالم المجهول، الذي لا نعرف من تفاصيله إلا القليل.
وحين تقارن الدين الإسلامي بالديانات الأخرى، السماوية والوضعية يقف ديننا الحنيف في مقدمة تلك الديانات، بل يلفها لفا فلا تكون شيئا مهما امامه فإذا سادت الديانة اليهودية في زمن محدد معلوم، وسادت الديانة المسيحية في زمن محدد معلوم آخر، وإذا حكمت ديانات أخرى منطقة معينة محددة أو قوما معينين، وإذا جاءت تلك الأديان الأخرى بأمور وأحكام ومبادئ محدودة معروفة تناسب وقتها وجغرافيتها ومناطقها، فالدين الإسلامي جاء بمبادئ وأحكام ومواد خالدة خلود الزمان والمكان الدنيويين.
هذه الشمولية وهذا العموم وهذا الخلود، هو أحلى ما تحلى به الدين الإسلامي الحنيف فبها جميعا يستحق ان يكون تاجا لكل الأديان والفعل هو التاج الخالد لكل الأديان، فهو خاتم الأديان ونبيه الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء ولا دين بعده، ولا نبي بعده.
وهذه الشمولية، وهذا التعدد في محتويات الدين، وهذا الخلود في الزمان والمكان وكل ما يتعلق بهذا الدين الحنيف، تتجه نحو هدف واحد، هدف كبير وعظيم، هدف فوق كل الأهداف ذلك هو الله تعالى الواحد الأحد، لا غيره ولا شريك لـه.
ففي مقابل الشمولية والتعددية في مصاديق الدين الإسلامي هناك هدف عظيم، هو الإيمان بالله واحدا لكل أفعالنا وأعمالنا وحياتنا دنيانا ـ فهو المصمم المطلق الذي لا شبيه لـه ولا مثيل لـه. في قدرته، الذي صم هذا الدين الكريم العظيم وأعطاه هذه الشمولية والعمومية التي قدرها على قدر احتياجات عبيده
ـ(445)ـ
في الدنيا والآخرة.
ولو كانت هناك أهداف أخرى غير ذلك الهدف الواحد الاحد أو اتجاهات نحو غير الله سبحانه وتعالى، وبعبارة أخرى لو تعددت الإلهية التي يتجه نحوها الدين الإسلامي، لما كان هذا الدين العظيم المتناسق المتعدد الجوانب والواقع ضمن نسيج، النظام الإسلامي الخالد، الذي فاق كل الأنظمة الإلهية التي كانت قبله، وملا أي فراغ يمكن لأي نظام ان يفكر الحلول فيه انه الخلود في الزمان والمكان إلى قيام الساعة.
شمولية القرآن الزمان والمكان
من نافلة الحديث ان نقول ان القرآن كتاب عظيم، كتاب سماوي شامل وخالد، كتاب كوني على أعلى المستويات، اعترف به القاصي والداني، المؤمن، وحتى غير المؤمن من الملل الأخرى، في ماضي الزمان والحاضر والذي سيأتي مستقبلا. والآراء والأقوال التي جاءت بحقه لا تعد ولا تحصى، ولا مجال لذكرها، لأن البحث هنا لا عن القرآن نفسه وإنّما هو عن شمولية النظام الإسلامي للزمان والمكان.
وإذا أردنا ان نعرف مدى التأثير والتغيير الذي اداه القرآن الكريم أبان الدعوة الإسلامية الكريمة ـ فيمكننا مقارنة العصر والواقع الذي كان قبل القرآن، والعصر والواقع أيام نزول القرآن وما بعده.
والكل يعرف كم كانت القيم الاجتماعية ظالمة في العصر الجاهلي مثل الإسلام، وكم كانت الصراعات كبيرة بين القبائل وبين الفئات المختلفة، وكم كانت الأفكار منحلة والعقائد فاسدة والتعامل مع الأشياء والطبيعة غير معقول.
ـ(446)ـ
ويمكن هنا ان انقل إليكم نصا من «كتاب الأصنام» للكلبي يصدر منه الوضع الفكري للحياة قبل الإسلام كنموذج يمكن مقارنته مع الوضع الفكري الذي استجد بنزول القرآن الكريم ومقدم سيد الكونين محمد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يقول الكلبي : «واستمرت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيعا ومنهم من اتخذ صنما... ومن لم يقدر ولا على بناء بينت نصب حجرا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت وسموها «الأنصاب».. فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربته أحجار، فنظر، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا، وجعل ثلاثة أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها، وهم على ذلك عارفون بفضل الكعبة يحجون ويعتمرون إليها، وكان الذين يفعلون من ذلك في أسفارهم إنّما هو للاقتداء منهم بما يفعلون عندها ولصبابة بها» (1).
أما على المستوى الاجتماعي، فلا تقل الضحالة عن المستوى الفكري ويكفي ان نأخذ فكرة الوأد الشنيعة التي كانت سائدة عند الجاهليين، والتي ذكرها القرآن بإنكار شديد بقوله : ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ _ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾(2).
وكيف كان التعامل مع المرأة أو الأنثى قال تعالى في كتابه : ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ _ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ والقيم السيئة كثيرة يطول تعدادها، ويمكن للقارئ الرجوع إلى مظانها وهي كثيرة (4).
أما على مستوى العلوم والنظم المعرفية، فكان العصر الجاهلي فقيراً في هذا المجال، وخاصة إذا قارناه بالدول المجاورة من الفرس واليونانيين والروم وغيرهم فلم يكن لديهم نظام اقتصادي واضح، ولم يكونوا يملكون علوما منظمة
ـ(447)ـ
في الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء، وإنّما هي متفرقات وأوليات أملتها التجربة، ففي الطب مثلا عرفوا بعض العقاقير واستعمالاتها من خلال التجربة لا وفق أنظمة علمية وقوانين راسخة وقبلها كان الفلك فهي معرفة علمية ترتبط بالحاجة ولا تقع ضمن مفاهيم ونظريات (5) يقول صاعد الأندلسي «للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق»(6).
ومثل الطب والفلك، معلومات في الحيوانات وطبها والزراعة وبعض الصناعات كصناعات الأسلحة ونحت الآلهة وغيرهما مما كانوا يحتاجونه كل ذلك كان على وفق الحاجة والاستعمال اليومي الموقت، دون ان تكون هناك قوانين وأنظمة تحكم معلوماتهم وصناعاتهم.
هذه هي صورة مختصرة للوضع الاجتماعي والمعرفي والعلمي في العصر الجاهلي، نقلناها لضرورة مقارنتها بالوضع الذي حدث بعد نزول القرآن الكريم وسيادة الإسلام في أوساط الجزيرة العربية وانتقالها فيما بعد إلى المنطقة الإسلامية برمتها العراق، فارس، سورية، مصر...
لقد نزل القرآن الكريم في الجزيرة العربية، وعلى صدر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ـ في الحقيقة لم ينزل للجزيرة وحدها، ولا لزمان محمد وحده، وإنّما كل منذ البداية مصمما (ان صح التعبير) إلى كل العالم، والى كل الزمان زمن محمد الرسول الأعظم وما بعده والى قيام الساعة ـ كما ذكرنا ـ والآيات التي تدل على هذه الشمولية ليست قليلة، بعضها صريح واضح، وبعضها تستشفه من خلال الآيات القرآنية جميعها، فحين تقرأ القرآن لا تجده يخاطب فئة
ـ(448)ـ
محددة من الناس ولا قبيلة معينة ولا طبقة محددة وإنّما الكل مخاطبون به جاء لخيرهم لدنياهم ومستقبلهم والآيات الصريحة في ذلك خبر شاهد على ما نقول قال تعالى في محكم كتابه الكريم :
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(8).
فما تعنى ﴿كَافَّةً لِّلنَّاس﴾ في الآية الأولى، وما تعني رحمة للعالمين في الآية الثانية، انهما دون شك تقصدان كل الناس وكل العالم بما فيه عالم الجن والأنس. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي : «قولـه تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي حرمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم ـ والدليل عليه الجمع المحلى بالسلام ـ وذلك مقتضى عموم الرسالة وهو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم وأخراهم.
وهو صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم وتطبيق إحدى الحياتين على الأخرى» (9).
وحين يتحدث السيد الطباطبائي عن سورة الحمد : ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يقول (وأما ﴿الْعَالَمِينَ﴾ : فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به وما يطبع به، يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الأفراد والأجزاء منها كعالم الجماد وعالم الإنسان، وعلى كل صنف مجتمع الأفراد أيضاً كعالم العرب وعالم العجم) (10).
القرآن أذن كامل شامل كل أهل الأرض وما يتعلق بهم، وكل زمان الأرض
ـ(449)ـ
المرتبط بهذه الدنيا، والفعل، ما ان نزل القرآن حتى انتشر خارج النقطة التي انطلق منهما ناشرا أنواره وأحكامه وعلومه في كل أصقاع الأرض، فدخل الناس في دين الله تعالى أفواجا مقبلين على الإسلام الذي خلصهم من عبودية العبيد، من ظلم الإمبراطوريات الكبيرة الروم والفرس وخصهم من عبادة الأوثان والأصنام، مقدما لهم نظما متنوعة أخلاقية اقتصادية، اجتماعية معرفية وكل ما يحتاجه إنسان في سبيل تنظيم حياته الدنيوية والأخروية، جامعا بنيهم، تحت إطار واحد وشعار واحد الإيمان بالله الواحد الأحد والإيمان بالنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالأحكام التي أنزل الله، فالكل تحت هذا الإطار التي أطلق عليها «الإسلام».
لقد جاء الإسلام رحمة إلى كل العالم، وفي فترة وجيزة انتشر وساد مناطق كبيرة من العالم شملت رقاعا شاسعة جدا. وفي هذا الصدد نذكر ما قاله المؤرخ طه باقر : «انه لم يمضي زمن طويل على نجاح الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتوطيد دعائمها في عهد الخلفاء الراشدين (632 ـ 661 م) حتى انتشر الإسلام خارج الجزيرة في فترة زمنية قصيرة مدهشة. وامتدت الفتوح العربية بسرعة خاطفة إلى جميع أقطار الشرق الأدنى والأقاليم الشرقية وازدادت اتساعا في عهد الدولة الأموية (661 ـ 750 م 41 ـ 132 هـ)، فشملت رقاعا شاسعة دخلت ضمنها شمالي أفريقية والأندلس (أسبانية 711) وبلاد إيران وأقاليم ما وراء النهر، وتوطدت الأحوال السياسية والتنظيمات الإدارية لتلك الإمبراطورية الواسعة في عهد الدولة العباسية 32 ـ 656 هـ، 750 ـ 1258 م). التي شملت بلدانا كثيرة من أقصى المغرب وأسبانية وجزرا مهمة في البحر الأبيض مثل صقلية مكريت وقبرص ومالطة وسر دينية وجنوبي إيطاليا. والى الشمال من الجزيرة
ـ(450)ـ
العربية شملت بلاد الشام وأرمينية، وفي الشرق والجنوب الشرقي بلاد القوفاز وفي شرق ما بين النهرين بلاد فارس وأفغانستان وخوارزم ووادي نهر السند إلى تخوم الصين» (11)
مسئولية القرآن لكل مطالب الحياة
الشمولية لمطالب الحياة الإنسانية، هي العمومية الأخرى للقرآن أو الإسلام بشكل عام، فليس القرآن كتابا محددا في موضوع من الموضوعات كما في الكتب الأرضية الكثيرة الأخرى، أبدا ليس القرآن كذلك، انه كتاب النهي شامل لكل ما يحتاجه الإنسان في حاضره ومستقبله في دنياه وآخرته، ولعل من الخطأ الفادح ان يعتبره البعض كتابا فيزياويا أو كيمياويا أو رياضيا أو تاريخيا متخصصا أو أخلاقيا، ولو كان كذلك لكان وقتيا كما في الكتب المتخصصة الأخرى.
القرآن في الحقيقة أعلى وأوسع من كل ذلك انه كتاب مفاهيم وكليات ولمحات أحيانا ورموز أحيانا أخرى، ووقائع عامة، وأحيانا محددة، ودستور عام للأخلاق والأعداد الصحيح لخلق إنسان متكامل. القرآن جمع كل ذلك.
لكننا إذا أردنا التماس الهدف الحقيقي الكبير للقرآن، فالهداية هي الأساس، هداية الإنسان وإخراجه من ظلمات الجهل إلى نور الحياة والمسيرة الصالحة، وكل ما جاء به من أمور أخرى وموضوعات متنوعة تصب في هذا الهدف العظيم، وهو الهداية الكبرى إلى النور والى الحق وبالتالي الاتجاه نحو الله العلي القدير خالق الإنسان ومنزل القرآن والرسول الأكرم من أجل الإنسان ومن أجل سعادته في الدارين. وقد أكد القرآن هذا المعنى، الهداية في أكثر من آية شريفة، قال تعالى في محكم كتابه الكريم : ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (12).
ومن خلال هذه الهداية الكبيرة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور يضع الإنسان يديه على كل منابع الحياة من أجل حياته ومستقبله «وقد ربط القرآن الكريم الهدف الأول (الهداية) وبأسلوب إعجازي فريد، بالنظر إلى تلك المخلوقات والظواهر، وخاصة الآثار التي تقع في متناول الحس، ليستنتج الإنسان كم هو صغير تجاه الكون وقواه الكبيرة من جهة، وكم هو والكون ضئيلان إزاء الخالق المبدع من جهة أخرى، وهو طريق فطري ينتهي إلى الإذعان بعظمة الخالق» (13).
وهذا الربط بين الحياة ومنابع الحياة والآثار التي خلقها الله في العالم والكون، هو الطريق الأمثل إلى الاتجاه لفهم عظمة الله وقدرته على الإبداع. فالكل يصب في طريق الهداية الذي أراده الله تعالى للإنسان وأكده قرآنه المجيد من أجل حياة آمنة طيبة وآخره مضمونة فيها رضا الله.
والحقيقة ان القرآن الكريم ـ بنظرة عامة ـ لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، وكيف يغادر ذلك وهو القرآن الخالد الممتد زمانا ومكانا، وما معنى الخلود والشمول والخاتمية إذا لم يحصي كل مايحتاجه الإنسان المسلم من احتياجات ومطالب ؟ وما الفرق بينه وبين الإنجيل والتوراة والكتب المقدسة وغير المقدسة الأخرى. انه شامل عام دون تفصيلات ـ كما قلنا ـ ومن أراد التفصيلات فعلية أقوال الرسول الكريم وأهل بيته الكرام، واجتهادات العلماء في ضوء القرآن والسنة.
لقد حمل القرآن كل الأوليات التي توفر للإنسان احتياجاته المادية والمعنوية، وقد نص على هذا المعنى في أكثر من آية... قال تعالى في قرآنه: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(14) وقال أيضاً ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(15) لكي لا يبقى عذر لنا، نذهب به يمنه ويسرة ونتجاوز ما أنزله القرآن. وفي الوقت نفسه قدم لنا بعض التفصيلات وفي مجالات مختلفة كثيرة جدا.
ففي مجال الأحكام الشرعية وردت نصوص قرآنية كثيرة نصت على هذا الحكم بالحلال أو الحرام، كقضايا الزواج والطلاق والكذب والسرقات والاعتداء والقتل والنفاق والزنى والربا والبيع والشراء وأحكام أخرى كثيرة جدا، أطلق عليها اسم آيات الأحكام، وقد الف فيها المفسرون والفقهاء كتبا كثيرة يمكن الرجوع إليها.
ومن هذه النصوص ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾(16).
ومنها أيضاً : ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(17).
ومنها أيضاً قولـه تعالى : ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(18).
وهناك معارف اعتقادية زخر بها القرآن، طابقت العقل السليم والفطرة التي فطر اله بها الإنسان، فقد أشار القرآن إلى صفات الله : ومن تلك النصوص : ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (19).
وقوله تعالى : ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(20).
وقدم أدلة على وحدانية الله تعالى بقوله : ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾(21).
وتحدث عن المعاد بقوله : ﴿قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾(22).
وتحدث عن العدل قائلا : ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾(23).
وقال أيضاً : ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾(24).
وحرم الفواحش والفساد : قال تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
ـ(453)ـ
وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(25).
وان لا تزر وازرة وزر أخرى قال تعالى ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(26).
وجعل المساواة بين البشر، وجعل أساس المفاضلة، التقوى قال تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(27).
ولافرق بين الرجل والمرأة في الأصل، وإنّما في الخصوصيات فالحساب والجزاء واحد لك منهما: قال تعالى : ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾(28).
وتحدث في التاريخ وجعله عبرة لمن يعتبر، قال تعالى : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(29).
وجعل للأنبياء مساحة واسعة ـ وخاصة كبارهم (اولوا العزم) وجعل حياتهم وصراعهم مع الباطل وأفكارهم وأعمالهم نماذج للخير والعدل والاعتبار، وفي قصص نوح وموسى وعيسى وإبراهيم ويوسف وأيوب وسليمان وغيرهم مما كان قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير عبرة وتجارب للمسلمين في حياتهم، وحين يصل القرآن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يضعه في مقدمة الأنبياء ويجعل لـه مساحة واسعة، فهو النموذج الأمثل للبشر، حين يصفه ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(30) وهو المسجد الحقيقي للإسلام.
ويستعرض القرآن الكريم أمورا مستقبلية غيبية كقوله تعالى ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ _ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ _ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾(31) وهناك من المعلومات الغيبية الجاهزة الكثير الكثير، حيث لا سبيل إلى الحصول عليها إلا من القرآن، فهو مصدر رائع لم يستطع أي مصدر ان يقدم ولا جزءا مما قدم القرآن في هذا المجال، وفي مختلف أنواع المعرفة.
ـ(454)ـ
وفي العصر الحالي يبرز الأعجاز العلمي في القرآن على أعظم صوره فقد تحدث القرآن عن أمور علمية لم تكن معروفة في الوقت الذي نزل به القرآن، فهناك مواد علمية لم تكتشف إلا في عصر العلم والتكنولوجيا ويكفي هنا ان اذكر إعجاب عالم فرنسي كبير أسلم وآمن بالقرآن ليضعه فوق الإنجيل والتوراة ويعجب به أشد إعجاب باعتباره سابقا زمنيا معارف العصر الحالية.
يقول موريس بوكاي : «لقد أدهشني في البداية هذه الصورة العلمية الخاصة بالقرآن إلى حد بعيد لأني لم أكن أظن أبدا انه يمكن حتى هذا الزمن ان تكتشف في نص مكتوب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، عددا من اليقينيات المتصلة بموضوعات شديدة التنوع ومتفقة تماما مع المعارف العلمية الحديثة» (32).
ثم يقول : «وقد أعرت انتباها خاصا جدا لما يعطيه من وصف لعدد من الظواهر الطبيعية. لقد أدهشتني دقة بعض تفاصيل الكتاب المندرجة في النص الأصلي بسبب توافقها مع احدث مفاهيمنا اليوم، ولكن التي لا يمكن لإنسان في عصر محمد ان تكون لـه عنها أية فكرة» (33)
ويقول أيضاً : «والذي يدهشني فكرة من يواجه مثل هذا النص للمرة الأولى، هو غزارة الموضوعات المطروحة مثل الخلق، والفلك، وعرض بعض الموضوعات الخاصة بالأرض وجنس الحيوان والنبات، وتكاثر الإنسان، تلك الأمور التي نجد عنها في التوراة دون نص القرآن أخطاء علمية كبيرة، تحملني على التساؤل : إذا كان كاتب القرآن بشراً فكيف أمكنه في القرن السابع الميلادي كتابة ما يثبت انه اليوم متفق مع المعارف العلمية الحديثة ؟» (34)
ان شمولية القرآن لكل مطالب وموضوعات الحياة تعني في الوقت نفسه
ـ(455)ـ
حضوره دائماً وأبداً أفقياً وعمودياً، وحيث ان العصر عصر علمي فسيكون لحضور الجانب العلمي وقع كبير في النفوس والعقول، فالأبحاث المتقدمة في الحياة والكون في الوقت الحاضر ستزيد من روعة القرآن وستعطيه عالمية وشمولية أكبر من ذي قبل. وفي هذا الصدد يذكر د. عماد الدين خليل : «ان القرآن يظل في حالة حضور دائم في قلب العالم والكون، يعايش سننهما ونواميسهما ويحدثنا عنهما، وانه لأمر بديهي ان تتعانق معطيات العلم وتتوازيا لا ان تتضادا أو تقوم بينهما الحواجز والجدران، ذلك ان مصدر العطاء واحد وهو الله جل وعلا صانع السنن والنواميس ومنزل اقرآن.. خالق الكون والعالم وباعث الإنسان ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾(35).
وحضور القرآن يعني انه تحدث عن أشياء كثيرة جدا، عن موضوعات قديمة، وأخرى مستجدة لم تكن يوم نزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل أربعة عشر قرنا. ومن الموضوعات العلمية الكثيرة التي تحدث عنها القرآن : عن الكون والأفلاك كقوله تعالى : ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ _ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ _ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(36).
وتحدث عن الطعام والماء والزراعة بقوله : ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ _ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا _ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا _ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا _ وَعِنَبًا وَقَضْبًا _ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا _ وَحَدَائِقَ غُلْبًا _ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾(37).
وتحدث عن خلق الإنسان ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾(38).
وتحدث عن الجبال وطبقات الأرض فقال تعالى : ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾(39).
ـ(456)ـ
وعن البحار : ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا﴾(40).
وعن الرياح والسحاب وطاقاتهما، قال تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾(41).
وهناك آيات كونية علمية كثيرة تحدثت عن موضوعات علمية شتى المجال لذكرها ويمكن الرجوع إلى مظانها حيث جمعها الباحثون في كتب خاصة أو ضمن كتب التفسير (42).
لقد جمع القرآن كل شيء، لكن حديثه فوق كل الأشياء وفوق كل الجزئيات المتغيرة وفوق كل العلوم الضيقة المحدودة في الزمان والمكان، وهنا يكمن معنى الأعجاز والتحدي لكل ماعداه.... وخير ما اختم به هذا الموضوع قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في شمولية القرآن وهو : «وفي القرآن نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم» (43) وهذا أروع معنى للشمولية والخلود القرآني.
شمولية التراث :
بعد الحديث عن شمولية القرآن في الزمان والمكان والعطاء، وكل ما يتوقعه إنسان، يكون من المناسب الحديث عن شمولية التراث الإسلامي. فالتراث هو كل ما بقي لنا من بعد القرآن والحديث من انتاجات المفكرين وتسجيلات الأحداث والإنجازات التي قام بها المسلمون ومن دخلوا رحاب الإسلام
ـ(457)ـ
وساهموا في لبنات الحضارة الإسلامية الشامخة.
وهو غزير وهائل وثمين على الرغم من الخسائر التي لحقته من ضياع وتلف الكثير من المخطوطات وتشويهها وسرقتها وحرقها وخاصة زمن الغزو المغولي.
وهو الآن متفرق في المكتبات العامة والخاصة والمتاحف الدولية وبيوت الأغنياء والخزائن الخاصة والجامعات والمعاهد العلمية والمراكز الثقافية والمؤسسات العلمية، الكثيرة المنتشرة في كل انحاء العالم ومقدر عددها بين (3 ـ 5) ملايين مخطوطة (44).
واغلبه مخطوط على شكل كتب خطية على الورق أو على الرق أو البردي، والقليل منه حقق وطبع والبعض من طبع دون تحقيق وهناك نوع آخر من التراث، وهو تلك البقايا الأثرية الموجودة في المتاحف وبعض بيوت الأثرياء، كالأقلام والمحابر وأدوات الكتابة الأخرى، والمنابر التي كان يرتقيها الخطباء والأجهزة الطبية كالمشارط والسكاكين والأجهزة الكيميائية كالدوارق والأواني والأدوات الهندسية والأدوات الفلكية كالاسطرلابات، إضافة إلى غير المنقولات كالمساجد والجوامع والمراصد والبيمارستانات (المستشفيات) وما إلى ذلك مما كان لدى المسلمين أيام حضارتهم.
كل هذه الأدوات والأجهزة إضافة إلى كتب الخطية، تعد ضمن التراث الذي خلفه لنا المسلمون الأجداد، وهي كما رأينا موجودات متنوعة تدخل ضمن شمولية الإسلام لكل مرافق الحياة.
ولعل في طليعتها تقف الكتب الخطية الموروثة، فهي في الحقيقة خلاصات عقول علمائنا زمن ازدهارهم، ولاشك ان قسماً منها كتب بأيديهم، أي بأيدي العلماء أنفسهم، وفي هذه الحالة تكون ثمينة جدا.
ـ(458)ـ
وقد غطت كل مرافق الحياة من دينية أو دنيوية، حيث التكامل الذي طبع الإسلام بهويته.
فهناك الكتب الفقهية لكبار أئمة الفقه وصلت إلينا سألمه بخطوط قديمة، وهناك كتب الأصول المتنوعة والعقائد، وقد احتوت عصارة عقول علمائها لتصل إلينا ونبني فوقها من عصارات الجدد.
وهناك كتب الحديث المتنوعة، وأصولها وقد وصل منها الكثير مما درس وحقق، وصل على شكل مجموعات منظمة مقسمة.
وهناك كتب النحو والبلاغة والأدب والشعر وصلتنا على أشكال مختلفة عامة تجمع الموضوع الواحد بما يحتوي من فروع، وخاصة في موضع واحد.
فمن الكتب العامة مثلا كتاب سيبويه (الكتاب) وهو مطبوع، وغيرها من الخاصة مثلا : «كتاب المذكر والمؤنث» لأبي حاتم السبحستاني ومن الشعر وصلتنا مجاميع مجموعة وأخرى مفردة، قصيدة واحدة إضافة إلى كتب اللغة والأدب والأمثال والغرائب...
وهناك كتب التراث العلمي... وهي كثيرة أيضاً، وقد جاء الاهتمام بها متأخرا ككتب البيروني في الفلك والجيولوجيا وكتب الرازي وابن سينا في الطب وكتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي وكتب جابر بن حيان في الكيمياء (طبعت على شكل رسائل جمعها بول كرواسي) إضافة إلى كتب في الحيوان والنبات والهندسة... وهناك أنواع أخرى من التأليفات في الفروع العلمية الأخرى. ومن مجموع هذا التراث ندرك جيدا ان الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية، وبوحي من القرآن الكريم، جمع كل ما يمت إلى الحياة الدنيوية والأخروية من صلة.
ـ(459)ـ
اما مضامين هذا التراث العريض فيمكن ان نلتمسها من خلال العلوم الكثيرة التي افرزها النظام الإسلامي، والتي فاقت كل علوم الحضارات الأخرى.
الشمولية في العلوم :
التكامل أهم صيغة يمكن ان توصف بها الحضارة الإسلامية... فهي حضارة مادية تهتم بالدنيا وعلوم الدنيا التي يحتاجها الإنسان ليقوم من خلالها بأعباء الحياة، وروحية دينية من جانب آخر، فالعلوم الدنيوية المادية على أهميتها هي في الحقيقة جاءت لتصب في الحياة الآخرة (فالدنيا مزرعة الآخرة) وهذه اشمولية وهذه الصفة الفريدة لا تجدها في كل الحضارات لا الحضارات السابقة على الإسلام ولا الحضارة الحديثة اللاحقة بعد الإسلام. فغالبا ما كانت قائمة على الخرافة والأسطورة والخزعبلات التي ما انزل الله بها من سلطان، وكلنا يعرف إنها قامت على تعدد الآلهة وعبادة الأصنام والأوثان وحتى التوحيد الذي ظهر في مصر الفرعونية كان توحيدا وثنيا، فإخناتون الفرعون المصري وحد جميع الإلهة المعروفة في قوته باله واحد اسمه (آتون) أي الشمس أو قرص الشمس، وقد عده الإله الواحد للكون بأسره فلا يقتصر الإيمان به على قطر دون آخر أو إقليم دون إقليم»(45) لكنه في كل الأحوال هو الشمس المخلوقة لله سبحانه، فهو توحيد وثني ولا معنى للإلهية الحقيقية فيه.
أما الحضارة التي أعقبت الحضارة الإسلامية أي الغربية، فهي كذلك ابتعدت عن الروح والروحية، وهي وان كان أساسها الدين المسيحي إلا إنها في الحقيقة صارت بعيدة عن روح هذه الديانة، فهي مادية بحتة إضافة إلى إيمانها بالخرافات
ـ(460)ـ
التي لم ينزل الله بها من سلطان من هنا تأتي قوة الشمولية التي تحلى بها الدين الإسلامي فهو الدين الحقيقي الجامع بين المادة والروح في نسيج رائع متكامل لا ينفصم، وإذ انفصم في بعض المناطق فذلك لأن المسلمين الذين اعتنقوه لم يكونوا مسلمين حقيقيين، يعرفون الإسلام حق المعرفة.
ومن هنا أيضاً أكّد الإسلام العلوم المختلفة، وبالطبع النافعة وليس الضارة، وقد ورد النهي عن العلوم الضارة في كثير من المصادر والأحاديث.
وتكامل العلوم يأتي من شمولها للعلوم الدنيوية والعلوم الأخروية، فقد جميع الإسلام أنواعا متنوعة ومتكاملة من العلوم وقد قسمها المؤرخون والباحثون إلى نوعين أساسيين من العلوم.
ولعل أول من جمع العلوم وصنفها هو جابر بن حيان المتوفى نحو سنة 180 هـ فقد جمع العلوم في نوعين، يقول : (لما كانت العلوم على ضربين، علم الدين وعلم الدنيا، فكان علم الدين فيهما منقسما قسمين شرعيا وعقليا، وكان العقلي منها منقسما قسمين...»(46)
وبالطبع يضع كل العلوم المعروفة في عصره تحت هذين الاطارين العامين.
ويعد الفارابي الفيلسوف الإسلامي الأول الذي اهتم بإحصاء العلوم وقد صنف كتابا شهيرا جمع فيه علم عصره المعروفة واسمه «إحصاء العلوم» (47) وفي هذا الكتاب يذكر العلوم المشهورة في عصره ويقسم محتوياته إلى خمسة فصول، يتحدث في الفصل الأول عن علم اللسان واجزائه وفي الفصل الثاني في علم المنطق واجزائه والثالث في علوم التعاليم والمقصود بها العلوم الرياضية والطبيعية ويتحدث في الفصل الرابع عن العلم الطبيعي وأجزائه وفي العلم الإلهي واجزائه، وفي الفصل الخامس يتحدث عن العلم المدني واجزائه وفي علم الفقه (48).
ـ(461)ـ
وبتطور العلوم وتراكم المعرفة الحضارة وتشعب الاحتياجات ازدادت العلوم. وفي القرن الثامن وبتراكم التراث الحضاري أمام العلامة ابن خلدون (المتوفي سنة 808 ) أصبح أكثر وضوحا في ذهنه، فقسم جميع العلوم المعروفة في عصره إلى نوعين أساسيين كبيرين ينضم تحت كل نوع فروع كثيرة.
فالأول العلوم الحكمية وهي : صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وانحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره ويحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر (49).
والثاني العلوم النقلية الوضعية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال للعقل فيها إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي(50).
ثم يستقرىء ابن خلدون العلوم التي تنظوي تحت هذين الصنفين الأساسيين فيذكر : في فصول متتالية:
ـ في علوم القرآن من التفسير والقراءات (51).
ـ علوم الحديث
ـ علم الفقه وما يتبعه من الفرائض
ـ علم الفرائض
ـ أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات
ـ علم الكلام
ـ(462)ـ
ـ علم التصوف
ـ تعبير الرؤيا
ثم يأتى على العلوم العقلية وأصنافها فيذكر : (52).
ـ العلوم العددية
ـ ومن فروع علم العدد صناعة الحساب
ـ ومن فروعه الجبر والمقابلة
ـ ومن فروعه أيضاً المعاملات
ـ العلوم الهندسية
ـ ومن فروع الهندسة المساحة
ـ علم الهيئة
ـ ومن فروعه علم الازياج
ـ علم المنطق
ـ الطبيعيات
ـ علم الطب
ـ الفلاحة
ـ علم الإلهيات
ـ علوم السحر والطلسمات
ـ علم الكيمياء
ثم يأتي على علوم اللسان العربي فيذكر : (53).
ـ علم النحو ـ وعلم اللغة ـ وعلم البيان ـ وعلم الأدب
وكل فرع يتفرع إلى فروع وهكذا يحصى ما توافر لـه من العلوم في عصره.
ـ(463)ـ
وحين نأتي على القرون اللاحقة نجد العلوم قد ازدادت بشكل كبير حتى لتجد المؤلف (طاش كبرى زاده) الذي عاش بين سنة 901 هـ ـ 968 هـ يؤلف كتابا من ثلاثة مجلدات يجمع فيها كل العلوم التي عرفها عصره، ولنقرأ ما يقول تحت عنوان في بيان حصر العلوم في الأجمال يقول :«وقال بعض الفضلاء : علم التفسير لا يتم إلا بأربعة وعشرين علما على ما هو المختار عند المفسرين..» (54)
دون فيها كتابا. وقيل ان العلوم الحكمية تتضمن خمسة عشر فناً إلا ان فروعها أكثر من خمسين. كما سنقف عليه، ثم قال نقلا عن بعض العلماء : ان العلوم المدونة ثلاثمائة وستة وستون علما ثم قال والمختار عندي ان عدد العلوم أكثر من ان يضبطه قلم »(55).
ولاشك ان هذه العلوم وغيرها مما لم نذكر، تشمل كل جوانب الحياة دنيا وآخرة، ويه في الحقيقة لم تنم بهذا الشكل المذهل لو لا القرآن الكريم والإسلام نفسه، فقد حث القرآن في كثير من آياته على العلم والعلماء والاهتمام بكل ما يهم الإنسان ويكامل حياته، فإذا كانت العلوم النقلية والشرعية قد جاءت مباشرة من القرآن، حث عليها ودعا إليها، فان العلوم العقلية المتنوعة جاء بسبب من حث القرآن على العلم كقوله تعالى ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (56) أو قولـه تعالى ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(57) أو قولـه تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾(58) وما إلى ذلك.
وكذلك حث الرسول الأعظم على العلم وتنظيم الحياة حيث قال «ان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وان العالم ليستغفر لـه من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وان العلماء ورثة الأنبياء، ان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنّما ورثوا العلم فمن أخذه اخذ بخط وافر»(59).
وقال أيضاً ناقلا قول المولى العلي القدير : «يا معشر العلماء اني لم أضع فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لا عذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» (60).
من هنا نعرف ان الشمولية في العلوم لم تأت لو لم يكن النظام الإسلامي نفسه نظاما عالميا شموليا لكل شيء، جاءت الشمولية من صميمه لا من خارجه، بدوافع أخرى...
الهدف الأسمى وراء الشمولية
اما الهدف وراء هذا التنوع والتعدد والكثرة من الأحكام والعلوم والعطاءات والجوانب الكثيرة التي جاء بها الإسلام فهو الله، فهذه وان جاءت لخير البشر وتنظيم الحياة وبناء الحياة الروحية والمادية، إلا انها ـ في التالي ـ تصب في رضا الله، وفي حضرته ولولاه لما كانوا وما خلق الجنة والخلود الأبدي قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(61) ان البشر لم يخلقوا دون معنى، لم يخلقوا ليأكلوا ويناموا ويعملوا ويموتوا كما تموت الحيوانات والبهائم. أبدا لم يكونوا كذلك، وإنّما اعدهم الله لحياة أفضل ومقام أسمى، هو الاتجاه نحو الله العلي القدير الذي وعدهم بالخير والنعيم الدائم قال تعالى في محكم كتابه الكريم :﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾(62).
ان هذا الهدف هو الذي أعطى معنى للحياة قويمة لحياتنا القصيرة ولولاه
ـ(465)ـ
لكانت تافهة، ولكانت ثورة الإنسان على نفسه وأوضاعه وقيامه بالانتحار هو الهدف البديل عن الهدف الحقيقي، وهكذا وجدنا كثيرا ممن لاهدف لهم غير الحياة الدنيا، وجدنا الانتحار هو الخلاص الوحيد من مآسي الحياة وصعوباتها...
لقد من الله على المؤمنين ان كامل بين دنياهم وآخرتهم بين الأهداف الدنيوية المحدودة والقصيرة من أجل ان نعيش سعيدا ماديا... وبين الحياة الأسمى الحياة الخالدة في ظل رحمة رب العالمين والقرب من نعمته الخالدة. فكان هو الهدف ولا غير وكان الاتجاه نحوه ولا غير. فهو هدف الأهداف الذي جعل الحياة ممكنة ورائعة في ظل مرضاته والأمل به ونعم الأمل.
الهوامش :
1 ـ ابن السائب الكلبي، هشام بن محمد، كتاب الأصنام ص 33.
2 ـ سورة التكوير : الآية 8.
3 ـ سورة النحل : الايتان 58 ـ 49.
4 ـ أو في كتاب كتب عن العصر الجاهلي قبل الإسلام كتاب د. جواد علي : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت 1968.
5 ـ المؤمن ـ عبد الأمير ـ الطاقة المحركة لانتقال العلوم إلى الحضارة الإسلامية مجلة الجامعة الإسلامية ـ العدد الثالث السنة الثانية لندن تموز 1995.
6 ـ صاعد الاندلسي، طبقات الأمم ص 51 طبعة مصر.
7 ـ سور سبأ، الآية 28.
8 ـ سورة الأنبياء، الآية 107.
9 ـ السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ح 14 ص 332 ـ 333.
10 ـ المرجع نفسه، ج 1 ص 24.
11 ـ طه باقر، موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربية الإسلامية ص 163.
ـ(466)ـ
12 ـ سورة إبراهيم : الآية 1.
13 ـ مجلة التوحيد العدد 66، تموز 1993 ص 139.
14 ـ سورة الأنعام الآية 38.
15 ـ سورة النحل الآية 89.
16 ـ سورة النساء الآية 3.
17 ـ سورة المائدة الآية 38.
18 ـ سورة البقرة الآية 275.
19 ـ سورة البقرة : الآية 163.
20 ـ سورة الحشر الآية 24.
21 ـ سورة الأنبياء الآية 22.
22 ـ سورة يونس الآية 34.
23 ـ سورة النساء الآية 58.
24 ـ سورة النحل الآية 90.
25 ـ سورة الأعراف الآية 33.
26 ـ سورة الأنعام الآية 164.
27 ـ سورة الحجرات الآية13.
28 ـ سورة آل عمران الآية 195.
29 ـ سورة غافر الآية 82.
30 ـ سورة القلم الآية 4.
31 ـ سورة الروم الآيتان 2 ـ 3.
32 ـ موريس بوكاي، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ص 133.
33 ـ المرجع نفسه ص 114.
34 ـ المرجع نفسه ص 14.
35 ـ إبراهيم بن على الوزير ـ على مشارف القرن الخامس عشر الهجري ص 114.
36 ـ سورة يس ـ الآيات 38 ـ 39، 40.
37 ـ سورة عبس الآيات 24 ـ 31.
38 ـ سورة الطارق الآية 5.
39 ـ سورة فاطر، الآية 27.
40 ـ سورة الفرقان، الآية 53.
ـ(467)ـ
41 ـ سورة النور الآية 43.
42 ـ في كتاب الجواهر في تفسير القرآن الكريم، يذكر مؤلفه طنطاوي جوهري ان هناك 750 آية علمية، ج 1 ص 3.
43 ـ نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام قصار الحكم رقم 313 ص 530.
44 ـ في مقابلة مع باحث المخطوطات كوركيس عواد سنة 1989 ذكر «ان جميع المؤلفات العربية التي صنفت من صدر الإسلام حتى سنة 920 ـ 1514 ـ وهي السنة التي طبع فهيا أول كتاب عربي في العالم ـ كانت مخطوطات كتبها المؤلفون والخطاطون والنساخ وتأتي اللغة العربية في طليعة لغات العالم التي عرفت بوفرة مخطوطاتها، التي كتبت في ثلاث قارات يه آسيا وافريقيا وأوروبا.. والمعنيون بشؤون المخطوطات العربية يقدرون عددها بأكثر من «ثلاثة ملايين» مخطوطة، ومنهم من يوصلها إلى (خمسة ملايين) مخطوطة تفرق شملها في انحا العالم » مجلة كل العرب العدد 352 / 22 ما يو 1989.
45 ـ فؤاد محمد شبل، اخناتون رائد الثورة الثقافية ص 64.
46 ـ كتاب الحدود من رسائل جابر التي اختارها بول كراوس ص 97.
47 ـ الكتاب محقق ومطبوع تحقيق الدكتور عثمان أمين.
48 ـ مجلة التوحيد العدد 63 ص 482.
49 ـ المرجع نفسه ص 483.
50 ـ المرجع نفسه ص 483.
51 ـ المرجع نفسه ص 484.
52 ـ المرجع نفسه ص 529.
53 ـ المرجع نفسه ص 603.
54 ـ طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة ومصباح السيادة ج 1 ص 75.
55 ـ المصدر نفسه ج 1 ص 86.
56 ـ سورة طه الآية 114.
57 ـ سورة الزمر ـ الآية 9.
58 ـ سورة فاطر الآية 28.
59 ـ نقلا عن الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (الرسول والعلم) ص 10.
60 ـ مفتاح السعادة (مرجع سابق ) ص 10.
61 ـ سورة الذاريات، الآية 56.
62 ـ سورة آل عمران، الآية 195.
ارسال نظر