الوحدة الإسلامية في ظل الرسالة الخاتمة
الوحدة الإسلامية في ظل الرسالة الخاتمة
الأستاذ المساعد الدكتور خليل خلف بشير
الباحث والتدريسي في جامعة البصرة – كلية الآداب – قسم اللغة العربية
المقدمة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ،والصلاة والسلام على هادي البشرية ومؤسس الوحدة الإسلامية والرحمة الإنسانية ،ومنقذ العالمين من الضلال والجاهلية محمد الصادق الأمين ،وعلى آله الطيبين الطاهرين ،وبعد : فهذا بحث تناولتُ فيه جانباً مهماً مما غرسه نبي الرحمة وحرص عليه بجمع شمل المتفرقين بالوحدة الإسلامية فلم يفرق بين السيد والعبد،ولا بين العربي والفارسي ،ولا بين الغني والفقير ،ولا بين الأسود والأبيض ،ولا بين الأنصاري والمهاجر فكانوا سواسية لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
ابتدأتُ البحث بمدخل سمّيته : الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) ومجتمع الجاهلية ثمّ عرّجت ُ بالحديث عن أسس الوحدة الإسلامية فضلاً عن وسائل الوحدة الإسلامية ،وختمتُهُ بخاتمة بيّنتُ فيها أبرز النتائج التي توصلتُ إليها في البحث .
مدخل : الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) ومجتمع الجاهلية
لقد حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم ) على توحيد الناس تحت شعار ( لا إله إلا الله ) انطلاقاً من كون رسالته عالمية تهدف إلى أن يكون الناس جميعاً أمة واحدة معتصمين بحبل الله مبتعدين عن النفاق والشقاق والتشرذم والتفرقة في ما بينهم بوساطة نعمة الإيمان ،وفي ذلك يقول تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ – آل عمران / 102-103)، والملاحظ أنّ الخطاب في القرآن الكريم – ومن ذلك في الآيتين الكريمتين السابقتين - خطاب عام وشامل لكل زمان ومكان ولكل الفئات في المجتمع فالخطاب فيهما كان شاملاً لكل من كان في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) كما أنه يشملنا ،والدليل لفظة ( جميعاً ) الشاملة لكل أفراد الأمة في كل زمان ومكان ليجتمعوا على حبل الله الذي يربط بين طرفين ،وهو من أبدع التعابير القرآنية فكل ما يوصل إلى الله فهو حبل الله مهما تعددت أو اختلفت تفاسير ( حبل الله )[1] على أنّ الناس كانوا قبل الإسلام كانوا على حافة الهاوية لما يمارسونه من موبقات ورذائل ،ومن أبرز ذلك : الميسر ،وشرب الخمر ، والاستقسام بالأزلام،والنسيء ،والربا ،ووأد البنات فكانت سحب الجاهلية الداكنة تغطي سماء الجزيرة العربية ،والمجتمع يسير في منحدر خطير فليس بينهم وبين الموت إلا غشاء رقيق ومسافة قصيرة إلى أن ولد المصطفى فلم يمض زمن طويل إلا وملأ هذا الوليد المبارك أرجاء العالم ،وأسس حضارة إنسانية عظمى في كل المعمورة [2] ،وقد وصف القرآن الكريم المجتمع الذي بُعث فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم ) بأنه مجتمع الأميين في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ – الجمعة /2)،وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الكلمة فقيل : إنه نسبة إلى أم القرى التي هي مكة[3] أو أن المراد من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة[4] أو يراد منهم الذين لم يعرفوا الرسالات والنبوات والكتب[5] ،وكل هذه المعاني التي يذكرها المفسرون تجتمع في نقطة واحدة ،وهي إن هذا المجتمع كان مجتمعاً متخلفاً من الناحية الثقافية والفكرية ، وكان بعيداً عن وحي السماء وهدايتها وبعيداً عن الرسالات والكتب على أقل تقدير إن لم يكن أشد تخلفاً من ذلك[6] على أنّ الإسلام حرّم هذه الموبقات التي كانوا يمارسونها،وأراد منهم أن يسيروا في درجات الكمال من خلال الدعوة إلى الألفة والمحبة والوئام والتواد والتراحم والتعاطف بين الأمة لأنّ قوة الأمة تكمن في وحدتها وانصهار بعضها ببعض على أنّ المهمة التي أُنيطت بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم ) مهمة خطيرة لتكوين أمة مثالية تتكون على مقتضى الأصول الاجتماعية القويمة ،والمبادئ الأدبية الكريمة ،وهذه المهمة الخطيرة ما كان الله ليعهد بها إلا إلى رجل منحه شخصية تدرك قيمة ما يوحى إليه من أصول العلم وأسرار الحكمة رجل يستطيع بقوة إرادته وحسن قيادته أن يجمع بين القلوب المتنافرة والنفوس المتناكرة ،رجل وُهب من الذكاء وسعة المدارك ما يعرف به مكان اللين والشدة من النفوس ،رجل حاضر البديهة ثاقب البصيرة استطاع بجميع الصفات التي يمتاز بها كبار القادة وأفذاذ العباقرة أن يؤدي الرسالة العامة التي عُهد إليه بها على أكمل ما يمكن أن يكون من نجاح وبُعد أثر[7] لذا قيل فيه : (( إنّ رجلاً مثل محمد لو تسلّم زمام الحكم المطلق اليوم في العالم كله لتمّ له النجاح في حكمه ، وقاده إلى الخير وحلّ مشاكله بوجه يحقق للعالم السلام والسعادة المنشودة ))[8]، وكذا قيل : (( إذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس ،قلنا : إنّ محمداً كان أعظم عظماء التاريخ ))[9] فقد استطاع أن يستقطب عدداً كبيراً من عبدة الأصنام والمشركين والملحدين ،ومن اليهود والنصارى أفواجاً وجماعات ، ولم يكن هذا الاستقطاب معجزة وعملاً غير طبيعي بل كان نتيجة طبيعية لنهج وطريقة وأسلوب نبي الإسلام فقد أحصى المؤرخون عدد الداخلين في الإسلام فكانوا زهاء مئتي شخص في مكة خلال مدة ثلاث عشرة سنة أما في المدينة وخلال سنتين أو ثلاث سنوات فقد دخل مئات الألوف من الناس في الإسلام[10] ، وقد نطق القرآن الكريم بذلك فقال (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَاً – النصر /1-3)،وقد عمل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) طوال مدة حياته على توحيد المجتمع الإسلامي ورص صفوفه وتقويته وتقويمه من خلال دعامتين رئيستين هما : كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة [11] فقد اقترنت عقيدة التوحيد بالوحدة الإسلامية إذ يروى عن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قوله (( بُني الإسلام على كلمتين : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة ))[12] فكلمة التوحيد هي الشهادة على أنه لا إله إلا الله ونفي إلوهية وربوبية كل موجود سواه ، وتوحيد الكلمة هي الاعتصام بحبل الله المتين والنهي عن التفرق والتشتت وراء مسائل هامشية لا تمس - في كثير من الأحيان - جوهر الإسلام ، ولو بحثنا في سيرة النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " العملية للمسنا منها اهتماماته الكبيرة بتوحيد الكلمة ولم الشمل ، فإن الوحدة هي دعامة القوة والرفاه ونيل السعادة ، كما أن التفرقة هي بؤرة الضعف والشقاء والاندحار ، ويمكن إيجاز ما قام به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم ) في هذا الصدد[13]:
أ . المؤاخاة بين الأوس والخزرج بعد أن كان بين الطائفتين قبل اعتناق الإسلام حروب طاحنة أسفرت عن مصرع العديد منهم وكانت البغضاء والعداوة متفشية بينهم ، وفي تلك الظروف رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم ) ضرورة رأب الصدع وتقريب الخطى بين القبيلتين بل جعلهما أخوين متحابين ومتراحمين فأول خطوة قام بها هي التآخي بينهما حسما لمادة الخلاف ونسيان الماضي .
ب . وكذا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ،وبين المهاجرين بعضهم مع بعض ، وبين الأنصار بعضهم مع بعض.
وتعبّر الوحدة الإسلامية أطروحة عن هدف أيديولوجي وزمني مقدس كما أنها أطروحة شاملة ذات أبعاد متعددة فهي تتعدى الجانب المذهبي فتستوعب مختلف جوانب الحياة الإسلامية : ثقافية وسياسية واجتماعية ... الخ فثمة وحدة ثقافية وسياسية واجتماعية ووطنية[14] فضلاً عن ذلك هي قاعدة القوة للمسلمين ومنطلق التقدم والتحرر والإبداع في العالم الإسلامي كله من أجل أن يكون الإسلام قوة عالمية كبرى تسهم في صنع مستقبل العالم بأسره[15] ،ومن أجل ذلك فلابد أن يتم ذلك بوساطة تحقيق مجموعة عناصر تتحد مع بعضها، وهي عناصر صـــرّح بهـــــا
القرآن الكريم ،ويمكن إيجازها بالآتي [16]:
1- الاعتصام بحبل الله في قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا - آل عمران/103) فحبل الله هو الطريق الذي يؤدي بنا إلى وحدة الصف والكلمة فعلى جميع المسلمين ولاسيما المؤمنون والموالون لأهل البيت (عليهم السلام ) الاعتصام بحبل الله منطلقين من وصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وهما الخليفتان من بعدي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))[17] فالثقل الأول : القرآن ،والثقل الثاني : العترة فحبل الله هو القرآن الكريم والرسول الأعظم والأئمة الأطهار ،ومن بعد الرسول وامتداداً لذلك المراجع العظام الذين أرجعنا أهل البيت إليهم.
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- إقامة شعائر الله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
4- إطاعة الله ورسوله. قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا– الأحزاب/36).
أسس الوحدة في المجتمع الإسلامي
1- عقيدة التوحيد : فالإيمان بالله الواحد وما يستلزمه من الإيمان بالغيب والملائكة والكتب والأنبياء واليوم الآخر يمثل أهم الأسس التي تقوم عليها الوحدة في المجتمع الإسلامي ؛ لأن نظرية التوحيد نظرية وحدوية فالأمة واحدة والناس والمخلوقات جميعها تخضع وتسبّح بحمد الواحد الأحد[18] الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
والتوحيد الكامل إحدى الخصائص المميزة للرسالة الخاتمة فالرسالات كلها جاءت بالتوحيد لكن الرسالة الإسلامية تميزت بميزات جعلت التوحيد قضية حية تعيش مع الإنسان في كل حركة من حركاته ،وفي كل موقف من مواقفه، وفي كل فعل من أفعاله ،وفي كل ممارسة من ممارساته ،وهذه القضية ليست قضية عبادة فحسب كما كان يصنع المشركون في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) إذ كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ويشركون بالإله ويعددون الآلهة إنما هي قضية تنطلق من الالتزامات ،وتنعكس على سلوك الإنسان العبادي وغير العبادي فالموحد له سلوك وموقف معين ،وله أخلاق معينة وحالة تختلف تماماً عن غير الموحد[19].
وما بُذرت بذرة الإسلام إلا على الوحدة والتوحيد ،وظهرت دعوة رسول الإسلام ودعايته ، وليس بين شفتيه إلا كلمة ( لا إله إلا الله ) ،ويحمل على يديه كتاب الله وما فيه من دعوات إلى الوحدة والتوحيد ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ – فصلت /41)، شاء الله لنبيه أن يكون خاتم الأنبياء كما شاء الله لنبوته أن تكون خاتمة النبوات فيكون دينه مسك الختام للأديان ،وشريعته بقية السلف لتلك الشرائع المقدسة السالفة ،وما سر ذلك إلا أن دين محمد يتفق مع كل عصر ،ويتلاءم مع كل حياة فهو باق ببقاء العصور ،خالد ما خلدت الحياة فدينه دين الوحدة في العقيدة والاتجاه ،وفي الفكر والعمل ؛ لأنه ما جاء إلا بدعوة الاعتقاد بأنّ خالق الكون ومدبره ، والمهيمن على الكائنات ، والمسيطر على الموجودات إله واحد هو الفاعل الكامل ،والغني المطلق ، والمتصرف القدير ،يرقب النيات ،ويحكم الضمائر ، يفعل ما يشاء ،ويحكم ما يريد ،ليس مع أمره أمر ولا دون حكمه حكم لذا سار الإسلام سيره وسيرته هذه في الفكرة والعقيدة ،وسار مع هذه الفكرة والعقيدة عملاً وتطبيقاً فأراد الإسلام الوحدة في كل شيء : الوحدة في التضامن والتعاون ،وفي الواجبات والحقوق فالمسلمون جميعاً في نظر الإسلام سواء ،وما للأمة الإسلامية والخلاف والاختلاف ،ودينها واحد ، ونبيها واحد،وكتابها واحد ،وقبلتها واحدة[20]. قال السيد محمد باقر الحكيم : (( يوحدنا الإسلام ،يوحدنا رسول الله، يوحدنا القرآن، يوحدنا الثقل الثاني،يوحدنا المراجع ،يوحدنا الحسين في شعائره ،ويوحدنا هذا المسير ، ويوحدنا أعداؤنا ))[21].
إن توحيد الصف ليس بالأمر الهين ولا يأتي من الفراغ،وإنما يحتاج إلى مسائل كثيرة منها : التدبير والدعاية والخلق الرفيع وإنفاق الأموال والرعاية والحزم وغير ذلك ،وقد استطاع الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) أن يوحد المسلمين بالأخلاق والمال والتبليغ والمعاهدات مع الأعداء ،وإعطاء المؤلفة قلوبهم ، والإصلاح بين المتنازعين ،ورعاية الأمور والأحداث بدقة وحزم على أّنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم ) قد أعطى كل تجمع دوراً سياسياً واجتماعياً مع علمه بما تضمره نفوسهم ودخائل أمورهم ،وبذا استطاع إدارة الأمور على أحسن وجه ولمّ الشعث مهما كلّفه ذلك من الثمن فلم يطرد المنافقين مع علمه بنفاقهم لكي لا يفتح له جبهة جديدة معادية فاستطاع بحكمته البليغة وأخلاقه أن يفرق صفوف المشركين فكسب أعداداً منهم وواصل عملية الكسب[22] انطلاقاً من قوله تعالى ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ – فصلت /34)، وكذا استطاع ببركة أخلاقه الطيبة الفاضلة أن يهدي الكثير من المشركين والمنافقين إلى الإسلام.[23]
2- الطاعة للرسول : تعد الطاعة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) والالتزام بأوامره وتعليماته وأحكامه وإتباع مواقفه وقراراته السياسية والاجتماعية في الدرجة الثانية من الأهمية في تحقيق وحدة المجتمع الإسلامي فضلاً عن الآثار الروحية والمعنوية التي تترتب عليها،وتنبع هذه الأهمية من مجموعة من العلامات والمنطلقات العقائدية والأخلاقية والمصالح السياسية والقضايا الاجتماعية فالرسول يمثل جانب الإمامة إلى جانب النبوة والبلاغ فهو المبلغ للرسالة والناطق بالوحي ،وله دور عظيم في توحيد المجتمع الإسلامي، وحل النزاعات والخلافات فيه بجعلهم أمة واحدة بالرغم من اختلاف أزمنتها وتاريخها ولغتها وأمكنتها ،وترابطها في العقائد والمفاهيم والأهداف والغايات والوسائل ؛لأنها كانت تعبد الإله الواحد ،وتؤمن بكتبه ورسالاته[24]. قال تعالى ( إِنَّ هَٰذِهِ أمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ – الأنبياء/92)،وقال أيضاً ( وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ – المؤمنون/52) فقد خوطب المسلمون بأنهم أمة واحدة في ظل ربوبية واحدة، وهناك من حوّل الآيتين إلى الأنبياء جميعهم فخطتهم جميعاً الإيمان بربوبيته والتسليم لطاعته فهذه وحدة أوسع من وحدة الأمة الإسلامية على أنّ الأمة والإمام من مادة واحدة قوامها الأتباع إذ بينها من التلازم والمناسبة فالإمام له أتباع ،والأمة جماعة يتبعون إماماً فالجماعة المشتتة الذين ليس لهم إمام لا يقال لهم أمة فمن هذا المنطلق تختص هذه الكلمة بأهل الأديان والنحل فأتباع كل نبي أمة برأسها كأمة موسى ،وأمة عيسى ، وأمة محمد ( صلوات الله عليهم )[25].
3- رعاية القائد للأمة : لقد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) بخلقه العظيم وأدبه الرسالي قادراً على قيادة الأمة مما يؤهله هذا المنصب للقيام بدور كبير في تحقيق الوحدة بين المسلمين فقد تحولت العلاقات بين الراعي ورعيته من علاقات جامدة وجافة إلى علاقات روحية وعاطفية تتسم بالطراوة والحب والمودة والمشاعر الإنسانية الطيبة بحيث تكون قادرة على تحقيق آثارها في حفظ الوحدة واستمرارها وبقائها وهذا ما ألمع إليه التنزيل العزيز في كثير من آياته فهو لين لا فظ ولا غليظ في قوله تعالى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ – آل عمران /159) ،وهو ذو الخلق العظيم في قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ – القلم /4) ،وهو رءوف رحيم في قوله تعالى ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ – التوبة /128)[26].
لذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) إنساناً له مواصفاته الأخلاقية، وله علمه واتصاله بالله تعالى ،كان يتحرك ويتعامل مع الناس كما يتعامل أي إنسان آخر لكن من منطلق الوحي والرسالة ،ومن موقع الأخلاق التي يتصف بها البشر فلم يكن يتعامل بطريقة ملائكية أو جنية ،وإنما بطريقة إنسانية مألوفة لدى البشر ،وقد تمكن أن يحول هذه الجماعة المتخلفة إلى هذه الطاقة الهائلة بوساطة الهدي القرآني والأخلاق الفاضلة ،وبوساطة الصبر والثبات وتحمل المسؤولية والشجاعة العظيمة فقد كان يقف وحده أمام كل الناس [27]، قائلاً : (( والله لو وضعوا الشمس في يميني ،والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ))[28].
4- الإخوة الإيمانية : وهي بمثابة إطار الوحدة الإسلامية ؛ لأنها تعطي الوحدة شكلها الاجتماعي وقيمتها الإنسانية فالوحدة تحتاج إلى إطار يجمع الأشياء المتعددة من عرق وجنس ،أو لغة وقوم ،أو جغرافية وأرض وتراب ،أو قيم ومثل إنسانية ،والنظرية القرآنية تنطلق من تصور هو أن البشرية كلها من أصل واحد . قال تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى – الحجرات /13) فالبشرية متحدة في أصل وجودها ،والمجتمع كان واحداً باعتبار وجود هذا الأصل له ،وهذه العلاقة الرحيمة ،على أنّ الاختلاف بين بني الأناسي بسبب الظروف الحياتية والتعدد الشعوبي والقبلي إنما هو اختلاف طارئ يراد منه تنظيم الحياة الإنسانية والاجتماعية. قال تعالى ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا – آل عمران /19) ،والاختلاف بسبب الأهواء وتنازع المصالح والمنافع وتدافع الغرائز والنزعات يمكن حله عن طريق الهدى والرسالات والنبيين ،والمبشرين والمنذرين، وبوساطة الالتزام بهذه الحلول والأحكام والشرائع والحدود يتميز الإنسان المصلح من المفسد والحسنة من السيئة[29]. قال تعالى ( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم – الحجرات /13).
5- القاعدة الأخلاقية : تشكل القضية الأخلاقية في النظرية الإسلامية قاعدة أساسية في مجمل التصور الإسلامي تجاه قضايا العقيدة والعلاقات الاجتماعية والسياسية والتكامل الإنساني الجماعي والفردي في الدنيا والآخرة مما يدل على أنّ محتوى النظرية الإسلامية إنما هو محتوى أخلاقي فالقرآن يصف الرسول بأنه ذو حلق عظيم ،والرسول يقول : (( إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ))[30] ،ولا تتحدد الأخلاق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ، وإنما تتعداها إلى علاقة الإنسان بخالقه بمختلف جوانبها ،وفي علاقته بالكون ،ومسؤوليته تجاه نفسه،وفي مستقبل حياته ،ويمكن تلمس معالم القضية الأخلاقية في ما يتعلق بالوحدة الإسلامية بما يأتي [31]:
1- العهد والميثاق .
2- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- الحكم بالقسط والعدل.
4- التعاون على البر والتقوى .
5- إشاعة الخير والبر.
وسائل تحقيق الوحدة الإسلامية
لقد حرص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) على تحقيق الوحدة الإسلامية فقد جمع بين بلال الحبشي ، وسلمان الفارسي ،وصهيب الرومي ،وأبي ذر العربي فلم يفرّق بين اللون والجنس واللغة ،وكذا كان عنده المدني والمكي واليمني والبحراني وغيرهم بمنزلة واحدة ،وهكذا كانت جميع الشعوب والطوائف منصهرة في بوتقة واحدة تحت لواء الناس سواسية كأسنان المشط ،ولو كان رسول الله يفعل ما يفعله المسلمون اليوم لما كان قد بقي من الإسلام شيء ،ولم يحقق الانتصار الكبير على دول الشرق والغرب[32]،فلا شك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم ) بوصفه مؤسساً للأمة الإسلامية، ورسول الإنسانية والوحدة ،(( وبما كان له من الخلق العظيم ،والسماحة،والعفو ، والمداراة مع الناس كان حريصاً على المؤمنين ، وعلى تأليف قلوبهم وتوحيد صفوفهم ،والسيرة الشريفة حافلة بذلك ... ))[33].
ولم يكتفِ الشارع المقدّس بتشخيص الأسس التي تقوم عليها الوحدة الإسلامية بل عُني إلى جانب ذلك بوسائل تحقيق هذه الوحدة ،ومن ذلك [34]:
1- الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة : انطلاقاً من قوله تعالى ( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن - النحل /125)
اعتمد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) في مراحل قيام الوحدة على ثلاثة أساليب هي :
أ- دعوة الإنسان إلى الرجوع إلى العقل والتدبر والتفكير.
ب- الاعتماد في الوصول إلى الحقيقة على الحجة والدليل والبرهان.
ت- الجهاد في سبيل الله لمواجهة الطغاة والجبابرة الذين يستخدمون القوة لقهر الناس على الضلال.
2- الصلح والمساعي الحميدة: ويأتي في طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة المساعي الحميدة التي يبذلها العقلاء والحكماء والمخلصون في سبيل تحقيق الصلح والوفاق والانسجام بين الأطراف المختلفة انطلاقاً من قوله تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما– الحجرات/9).
3- العفو والصفح : إلى جانب الأسلوبين السابقين يأتي العفو والصفح بوصفه أسلوباً لحفظ الوحدة ،ومعالجة قضايا النزاع والخلاف وأسبابه ذلك أن الصفح والعفو كما هو أسلوب للمحافظة على الوئام ،وإرجاع الأمور إلى أوضاعها الطبيعية ،وإعطاء الفرصة مرة أخرى للعودة إلى الانسجام والتلاحم.
4- الوقوف في وجه العدوان : إنّ الطغيان والعدوان أحد الأسباب المهمة للاختلاف والفرقة لاسيما إذا تحول الطغيان إلى حالة اجتماعية عامة من خلال وجود مؤسسة قوية تقوم على الطغيان كالحاكم الطاغية أو الجيش أو الدولة الذي يؤدي إلى تمزيق الأمة المحكومة نفسها أو وجود الاختلافات والنزاعات بين أبناء الأمة أنفسهم ،وقد تحدث القرآن الكريم عن هذا الموضوع ،ووضع له المعالجات المناسبة سواء على مستوى الجماعات والأمة ، أم على مستوى الأمة الإسلامية نفسها.
5- الاعتماد على العلم في معالجة الأحداث : إن أحد أسباب التنازع والفرقة هو الاجتهادات الخاطئة والاعتماد على الشبهات والظنون لذا عالج القرآن الكريم السبب من الفرقة والاختلاف بالدعوة إلى اعتماد العلم والبينة في معرفة الحقائق ،والنهي عن اعتماد الظنون والاحتمالات والشبهات ،وأنكر على الكفار والمشركين من أهل الكتاب إتباعهم للظنون في معالجة القضايا الحياتية المهمة ،ودعاهم إلى أهل العلم والذكر عند عدم العلم . قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين – الحجرات/6) ،وقال ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون – النحل /43).وقال ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم – الحجرات /12)
6- التعامل على أساس ظاهر الإسلام : وفي هذه الحال يأتي النهي عن التجسس والغيبة التي هي عبارة عن كشف عيوب المؤمنين وأسرارهم فإن ذلك يأتي في طريق التعامل على أساس الظاهر وعدم التفتيش عن العيوب ما لم تتحول إلى أعمال ونشاطات تخريبية ضارة بالمجتمع. قال تعالى (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً – الحجرات /12).
وبهذه الطريقة كان يتعامل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) مع أبناء المجتمع الإسلامي، وكان فيهم الكثير من المنافقين وضعاف النفوس حتى تصاعد نشاطهم الهدّام والمعادي، واتضحت مواقفهم من خلال مواقفهم وأعمالهم.
7- التزاور : كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم ) مصداقاً للتزاور فقد كان يزور حتى اليهودي الذي يؤذيه ويشتمه ،ولعل في التزاور أجراً عظيماً فقد ورد في الحديث القدسي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم ) قال :(( حدّثني جبرئيل أنّ الله عزّ وجل أهبط إلى الأرض ملكاً فأقبل ذلك الملك يمشي حتى وقع إلى باب عليه رجل يستأذن على رب الدار فقال له الملك ما حاجتك إلى رب هذه الدار قال : أخٌ لي مسلمٌ زرته في الله تبارك وتعالى قال له الملك : ما جاء بك إلا ذاك فقال : إني رسول الله إليك ،وهو يقرؤك السلام ،ويقول : وجبت لك الجنة. وقال الملك : إن الله عزّ وجل يقول : أيما مسلم زار مسلماً فليس إياه زار، إياي زار وثوابه علي الجنة ))[35] فزيارة المسلم لأخيه المسلم قربة لله هي زيارة لله تعالى ؛ لأنّ المسلم عبد الله وفي خدمة الله فثواب تلك الزيارة الجنة على أنّ هذه الرواية تركّز على المسلم دون المؤمن مما يدل على سعة وشمول العنوان لكل أفراد الأمة والوحدة الإسلامية بين مختلف المذاهب والطوائف والاتجاهات المنضوية تحت راية الإسلام على أن الزيارات والمؤتمرات التي تتم بين علماء المسلمين من الشيعة والسنة لها دور كبير في إرساء دعائم الوحدة فقد انحسرت الكثير من الشبهات والتهم التي يتصورها بعضهم على الآخر[36].
8- التعايش السلمي والاجتماعي : لعل من أهم وسائل تحقيق الوحدة الإسلامية هو وضع أسس وأساليب للتعايش الاجتماعي والسلمي بين أفراد المجتمع والقرآن الكريم أول من طرح التعايش بين الناس أجمعين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم ولغاتهم وألوانهم وبلدانهم وقومياتهم وشرائحهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية والعقائدية فقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) على إلغاء الفوارق القومية والقبلية والاجتماعية بين فئات المجتمع انطلاقاً من النظرية القرآنية التي تدعو إلى التعارف والوحدة ، وتلغي الفوارق الاجتماعية[37] في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ- الحجرات /13).
ولما كان الإنسان اجتماعياً بطبعه فلا بد له من المخالطة لاسيما وأنّ المسافات قد تقاربت والمصالح قد تداخلت وأصبح العالم قرية صغيرة فالإنسان مخير بين الانعزال والانكفاء على الذات أو الاجتماع والتعايش معهم بخلق حسن ومعاشرة طيبة ،ولا شك أنّ الأمر الثاني أفضل وأحسن من الأمر الأول بكثير ، والإسلام دستور الحياة الإنسانية اختاره الله لها ،وهو أعلم بمصلحة الإنسان من نفسه فقد وضع الحلول لكل مناحي الحياة ،ومنها الاشتراك في الوطن مع الآخرين ،ولهذا أخذ على الإنسان العهد والميثاق على أن يلتزم بالأسس الأولية الضرورية التي يحتاجها في تكوين المجتمع الصالح ليعيش هذا الإنسان مع الآخرين بوئام وانسجام.قال تعالى ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ – البقرة /83) ،ومن الأسس الأولية الضرورية لتكوين المجتمع الصالح التي ألمعت إليها الآية الكريمة [38]:
1- العبادة لله وحده لا شريك له.
2- بر الوالدين والإحسان أليهم.
3- الإحسان إلى ذوي القربى.
4- الإحسان إلى الأيتام والمساكين.
5- القول الحسن إلى الناس جميعاً.
6- إقامة الصلاة.
7- إيتاء الزكاة.
على أن القول الحسن للناس جميعاً في الآية الكريمة يُفسّر بحسن المعاشرة مع الناس مؤمنهم وكافرهم. قال الطباطبائي : (( ... والمعنى قولوا للناس قولاً حسناً ، وهو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس ،كافرهم ومؤمنهم ... ))[39].
وتقوم الروابط في الأمة الإسلامية على وحدة الدين والعقيدة ،ووحدة المبادئ الخلقية والعبادات فكل يوم يمر يشعر المؤمن بالوحدة الإسلامية إن أدى العبادات اليومية على وجهها فتلك الوحدة في قلبه آناء الليل وأطراف النهار بالصلوات الخمس إذ يؤديها المسلمون جميعاً إلى قبلة واحدة فإذا تصور المسلم عند أداء الصلاة أنه واحد من ألوف الألوف يتجهون مثل اتجاهه ،ويولون وجوههم شطر بيت الله الحرام، وهذا المظهر السامي نراه في الصوم ،وكذا في الحج بصورة أوضح إشراقاً وأعظم نوراً إن أدركت القلوب معنى العبادة[40]،ولكي يضمن الإسلام أن يؤدي دوره الوحدوي العظيم في حياة الأمة فقد قرن به أموراً من ذلك الظروف المكانية المتمثلة ببيت التوحيد ،والظروف الزمانية حيث الشهر الحرام والأيام العشر ،وعيد الأضحى حيث العودة الإلهية بالرحمة للعبيد فضلاً عن المناسك الرائعة والأذكار والأدعية[41].
وكذا في صلاة الجمعة فهي صورة عملية لمجتمع إسلامي مصغر يعرضها الإسلام كل أسبوع ؛ ليذكّر الأمة بخصائصها ،ويخلق فيها الداعي للعودة إلى مثل هذه المعالم إذا فقدتها يوماً ما ،ولتكون مؤثرة في النفوس ينبغي أن تُحاط بهالة من القدسية ،والتعظيم،والثواب العظيم[42].
لذا وجب أن تتحد مشاعر المسلمين جميعاً بأنهم إخوة بحكم الإسلام ،وهذه الأخوة فوق الجنسية والعنصرية إذ إن أول عمل تكليفي مارسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم ) بعد الهجرة أن آخى بين المهاجرين والأنصار ،وبين الأنصار بعضهم مع بعض ،وبين المهاجرين بعضهم مع بعض ،وبين الفارسي والعربي ،وبين العبد والسيد ليشعر الجميع بأنّ الأخوة الإسلامية هي التي تجمع وغيرها تفرّق فضلاً عن وحدة أخرى تجمع بين المشاعر والأحاسيس هي الوحدة الثقافية واللغوية والاجتماعية بحيث يقرأ كل مسلم ما يقرأه الآخر ،ويحاربون كل ما فيه هدم للإسلام، ويتفقون على ما فيه رفعة له ، وإعزاز للمسلمين[43] فهم (( إخوة في الإنسانية ، إخوة في الإسلام ،وهم متساوون ؛لأنهم عبيد إله واحد ،وأبناء أب واحد وأتباع دين واحد ،ورسول واحد ،وكتاب واحد ،وتكاليفهم واحدة))[44].
الخاتمة :
لا يمكن للوحدة أن يكون لها نصيب من الوجود والتحقق إلا أن تكون هناك قيادات واعية ومخلصة تقود الأمة إلى شاطئ الأمان كما قادها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم ) وآله الطيبون الطاهرون ،ومن ذلك مراجعنا الكرام ودورهم الكبير في وأد الفتنة الطائفية بالرغم من محاولات الأعداء الكثيرة في تأجيج الفتنة الطائفية من ذلك مثلاً تفجير قبة الإمامين العسكريين إذ حرص المراجع على ضبط النفس والتهدئة وعدم الانجرار وراء رغبات الأعداء.
ويبدو أنّ الوحدة الإسلامية التي أرسى جذورها نبي الرحمة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلّم ) قد انبثقت عنها عدة أنواع من الوحدات منها : وحدة الوطن واللغة والمصير والثقافة والمجتمع وغيرها،ولكون الوحدة الإسلامية أطروحة تعبر عن هدف أيديولوجي وزمني مقدس كما أنها أطروحة شاملة ذات أبعاد متعددة فقد تعدت الجانب المذهبي فاستوعبت مختلف جوانب الحياة الإسلامية : ثقافية وسياسية واجتماعية ... الخ ، ولأنّ الناس إخوة في الإنسانية وفي الإسلام لذا هم متساوون في الحقوق والواجبات؛ لأنهم عبيد إله واحد ،وأبناء أب واحد وأتباع دين واحد ، ورسول واحد ،وكتاب واحد ،وقبلة واحدة وتكاليفهم واحدة إذ يوحدنا الإسلام ، ورسول الله، والقرآن،والثقل الثاني - أهل البيت (عليهم السلام) - ،والمراجع ، والحسين في شعائره ،وهذا المسير الحاشد في الزيارة الأربعينية، وأعداؤنا فضلا ً عن شعيرة الحج ، وصلاة الجمعة والجماعة ،واللغة العربية الخالدة بخلود القرآن.
كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم ) إنساناً له مواصفاته الأخلاقية ،وله علمه واتصاله بالله تعالى ، وكان يتحرك ويتعامل مع الناس كما يتعامل أي إنسان آخر لكن من منطلق الوحي والرسالة ،ومن موقع الأخلاق التي يتصف بها البشر فلم يكن يتعامل بطريقة ملائكية أو جنية ،وإنما بطريقة إنسانية مألوفة لدى البشر ،وقد تمكن أن يحول هذه الجماعة المتخلفة إلى هذه الطاقة الهائلة بوساطة الهدي القرآني والأخلاق الفاضلة، وبوساطة الصبر والثبات وتحمل المسؤولية والشجاعة العظيمة فقد كان يقف وحده أمام كل الناس قائلاً : (( والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )) فالقرآن يصف الرسول بأنه ذو حلق عظيم ،والرسول يقول : (( إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق )) ،ولا تتحدد الأخلاق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان ، وإنما تتعداها إلى علاقة الإنسان بخالقه بمختلف جوانبها ،وفي علاقته بالكون ، ومسؤوليته تجاه نفسه،وفي مستقبل حياته ،ويمكن تلمس معالم القضية الأخلاقية في ما يتعلق بالوحدة الإسلامية بمجموعة من القيم الأخلاقية منها : العهد والميثاق ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والحكم بالقسط والعدل ، والتعاون على البر والتقوى، وإشاعة الخير والبر،وغيرها، وقد استطاع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أن يستقطب عدداً كبيراً من عبدة الأصنام والمشركين والملحدين ،ومن اليهود والنصارى الذين دخلوا دين الله أفواجاً وجماعات ، ولم يكن هذا الاستقطاب معجزة وعملاً غير طبيعي بل كان نتيجة طبيعية لنهج وطريقة وأسلوب نبي الإسلام فقد أحصى المؤرخون عدد الداخلين في الإسلام فكانوا زهاء مئتي شخص في مكة خلال مدة ثلاث عشرة سنة أما في المدينة وخلال سنتين أو ثلاث سنوات فقد دخل مئات الألوف من الناس في الإسلام، وقد نطق القرآن الكريم بذلك فقال ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً – النصر /1-2).
وما بُذرت بذرة الإسلام إلا على الوحدة والتوحيد، وقد عمل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم ) طوال مدة حياته على توحيد المجتمع الإسلامي ورص صفوفه وتقويته وتقويمه من خلال دعامتين رئيستين هما : كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة وشاء الله لنبيه أن يكون خاتم الأنبياء كما شاء الله لنبوته أن تكون خاتمة النبوات فيكون دينه مسك الختام للأديان ،وشريعته بقية السلف لتلك الشرائع المقدسة السالفة ،وما سر ذلك إلا أن دين محمد يتفق مع كل عصر ،ويتلاءم مع كل حياة فهو باق ببقاء العصور ، خالد ما خلدت الحياة فدينه دين الوحدة في العقيدة والاتجاه ، وفي الفكر والعمل ؛ لأنه ما جاء إلا بدعوة الاعتقاد بأنّ خالق الكون ومدبره ، والمهيمن على الكائنات ، والمسيطر على الموجودات إله واحد هو الفاعل الكامل ، والغني المطلق ، والمتصرف القدير ،يرقب النيات ،ويحكم الضمائر ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ، ليس مع أمره أمر ولا دون حكمه حكم لذا سار الإسلام سيره وسيرته هذه في الفكرة والعقيدة ،وسار مع هذه الفكرة والعقيدة عملاً وتطبيقاً فأراد الإسلام الوحدة في كل شيء : الوحدة في التضامن والتعاون ،وفي الواجبات والحقوق فالمسلمون جميعاً في نظر الإسلام سواء ،وما للأمة الإسلامية والخلاف والاختلاف ،ودينها واحد ، ونبيها واحد،وكتابها واحد ،وقبلتها واحدة.
ولما كان الإنسان اجتماعياً بطبعه فلا بد له من المخالطة لاسيما وأنّ المسافات قد تقاربت والمصالح قد تداخلت ،وأصبح العالم قرية صغيرة فالإنسان مخير بين الانعزال والانكفاء على الذات أو الاجتماع والتعايش معهم بخلق حسن ومعاشرة طيبة ،ولا شك أنّ الأمر الثاني أفضل وأحسن من الأمر الأول بكثير، والإسلام دستور الحياة الإنسانية اختاره الله لها ،وهو أعلم بمصلحة الإنسان من نفسه فقد وضع الحلول لكل مناحي الحياة ،ومنها الاشتراك في الوطن مع الآخرين ،ولهذا أخذ على الإنسان العهد والميثاق على أن يلتزم بالأسس الأولية الضرورية التي يحتاجها في تكوين المجتمع الصالح ليعيش هذا الإنسان مع الآخرين بوئام وانسجام.
[1] - ينظر : الوحدة الإسلامية في مدرسة أهل البيت / الشيخ حسين الراضي 39،13-40.
[2] - لمزيد من التفصيل ينظر : سيد المرسلين – دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية / الشيخ جعفر السبحاني1/45-50،199.
[3] - ينظر : تفسير الصافي / الفيض الكاشاني 2/242، والبرهان في تفسير القرآن / السيد هاشم البحراني 2/451و5/373.
[4] - ينظر : التبيان في تفسير القرآن / الشيخ الطوسي 2/421.
[5] - ينظر : تفسير الصافي 5/172.
[6] - ينظر : الرسول الأعظم / آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم 85.
[7] - ينظر : الشخصية المحمدية تحت المقررات النفسية الحديثة ، الأستاذ محمد فريد وجدي بك ،مجلة رسالة الإسلام ، السنة الأولى ،ع 2،جمادي الآخرة 1368هـــ - أبريل 1949م ،ص 150-151.
[8] - القول لبرناردو شو . ينظر : نفحات محمدية / الشيخ محمد جواد مغنية 13.
[9] - القول لديورانت صاحب قصة الحضارة . ينظر : المصدر نفسه 13.
[10] - ينظر : نفحات الهداية / آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي 11-14.
[11] - ينظر : الوحدة الإسلامية في مدرسة أهل البيت1/40-41،49-54.
[12] - لكي لا تتنازعوا / آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي 100.
[13] - ينظر : بحوث قرآنية في التوحيد والشرك / الشيخ جعفر السبحاني 11.
[14] - ينظر : أضواء على طريق الوحدة الإسلامية / محمد علي التسخيري 9.
[15] - ينظر : أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة / السيد محمد حسين فضل الله 209.
[16] - ينظر : الأربعة عشر مناهج ورؤى / آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم 218-219.
[17] - كمال الدين وتمام النعمة / الشيخ الصدوق 64.
[18] - ينظر : الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين / آية الله الشهيد السيد محمد باقر الحكيم 86.
[19] - ينظر : الرسول الأعظم 99-100.
[20] - ينظر : الإسلام دين الوحدة ، الأستاذ العلامة الشيخ مسلم الحسيني الحلي ،مجلة رسالة الإسلام ،السنة الأولى ،ع 4،ذو الحجة 1368ه – 1949م ، ص 417-420.
[21] - خطاب السيد محمد باقر الحكيم ( قدس سره ) في الصحف الحيدري الشريف في النجف الأشرف عند عودته من المهجر بعد سقوط صدام اللعين.
[22] - ينظر : لكي لا تتنازعوا 152،129،157.
[23]- ينظر : من حياة الرسول الأعظم / السيد محمد الحسيني الشيرازي 57.
[24] - ينظر : الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين 88-91.
[25] - الوحدة الإسلامية – عناصرها وموانعها / محمد واعظ زاده الخرساني 62.
[26] - ينظر : الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين 93-94.
[27] - ينظر : الرسول الأعظم 85-86.
[28] - تاريخ الطبري / محمد بن جرير الطبري 2/67.
[29] - ينظر : الرسول الأعظم 95-96.
[30] - بحار الأنوار / المجلسي 16/210.
[31] - ينظر : الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين 105-112.
[32] - ينظر : لكي لا تتنازعوا 261.
[33] - الوحدة الإسلامية – عناصرها وموانعها 81.
[34] - ينظر : الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين 112-125.
[35] - الكافي / الكليني 2/176.
[36] - ينظر : الوحدة الإسلامية في مدرسة أهل البيت61-62.
[37] - ينظر : الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين 154.
[38] - ينظر : الوحدة الإسلامية في مدرسة أهل البيت 121-122.
[39] - الميزان في تفسير القرآن / العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي 1/217.
[40] - ينظر : الوحدة الإسلامية، الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ،مجلة رسالة الإسلام ،السنة العاشرة،ع1، رجب 1377هـ - يناير 1958م ،ص32،144.
[41] - ينظر : أضواء على طريق الوحدة الإسلامية 40-41.
[42] - ينظر : المصدر نفسه 29.
[43] - ينظر : الوحدة الإسلامية، الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة 35.
[44] - عناصر وجود الأمة الإسلامية ،د.محمود فياض ،مجلة رسالة الإسلام ،السنة الثانية ،ع 2،جمادي الآخرة 1369هـ - أبريل 1950م ،ص 200.