تيّار التكفير عقبة في طريق بناء الحضارة الإسلاميّة الحديثة
تيّار التكفير عقبة في طريق بناء الحضارة الإسلاميّة الحديثة
الدكتورة رئيفة أبوراس
3 /ربيع الأول/1438 هـ الموافق 2 /ك1 / 2016
إنَّ الحضارةَ الإسلاميَّةَ هي خُلاصةُ التَّفاعلاتِ الثَّقافيّةِ العميقةِ التي حقّقت الازدهارَ والنَّماءَ في المجالاتِ العلميَّةِ والثقافيَّةِ والفكريَّةِ للمجتمعِ الإسلاميِّ بكلِّ مكوّناتِهِ على قاعدة التَّعارُفِ الإنسانيِّ بالحاكميَّة الإلهيَّة .
لكنَّ هذا المُجتمَعَ تعرَّضَ لنكساتٍ كبيرةٍ ، ومِحَنٍ وفتنٍ كثيرةٍ أدَّت إلى تخلُّفِهِ عن المسيرة الحضارية البانية .
وإزاء ذلك برزَ الطُّموحُ إلى تحقيقِ نهضةٍ إسلاميّة حديثةٍ تجمعُ بين الأصالةِ التاريخيَّةِ للحضارةِ الإسلاميَّةِ ، وروحِ العصرِ التي تستوعِبُ دقائقَ الوقتِ ، ومُتطلَّباتِ الساعة .
لكنَّ العقبة التي تواجه هذا المشروعَ الإسلاميّ الحضاريّ النهضويّ ، تتجلّى في تيارِ التكفيرِ الذي يرفضُ الآخرَ ، ويدعو إلى الجهادِ المُسلّحِ ، وهدرِ الدم ، ويتَّسِمُ بالعُنفِ والتعصُّبِ والإرهابِ ، ووأدِ الكلمةِ المعتدلة .
وإذا كان هذا التيّارُ التكفيريُّ يتحدَّثُ باسمِ الإسلام ومبادئه ، فليذكر قاعدةَ التعارُفِ الإنسانيِّ التي أرساها الشرعُ الإلهيُّ ، والحاكميَّةُ الإلهيَّةُ في قوله تعالى : يا أيُّها النَّاسُ إنّا خَلَقناكُم من ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكُم شُعوباً وقبائلَ لِتعارفوا إنَّ أكرمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم " (1).
إنَّ حاكميَّةَ الله جلَّ جلاله تقضي بأحكامِ عبادةٍ ثابتةٍ ، وأحكامٍ للمعاملاتِ علينا مراعاة التغيّراتِ في شأنها . والدينُ تربيةٌ أخلاقيّةٌ ناشئةٌ عن علاقةٍ صحيحةٍ بين الإنسانِ والخالقِ ، وعندما تَحسُنُ هذه العلاقةُ على مستوى الفردِ والمجموعِ ستظهر الحاكميَّةُ الإلهيَّةُ في المُجتمَعِ وأحكامِهِ .
جاءت الشَّريعةُ الإلهيَّةُ لسعادةِ الإنسانِ ، ووُجِدَت الأحكامُ الشَّرعيَّةُ لصالحِ الإنسانِ فرداً ومجموعاً ، ولمصلحته المُعتبَرة شرعاً ، وليست للحَجْرِ عليه وعلى مصالحِهِ ومؤسَّساته من خلالِ فرضِ رؤيةٍ محدودةٍ لفئةٍ من النَّاس .
الحاكميّة الإلهيّة سنَّت "إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً" (2) ؛ والخليفة هو الإنسان الذي يعمر الأرضَ بشرعِ الله المتجلّي في الخير والعدل ونبذ الظُّلم ورعاية الحقوق . والعمرانُ الإنسانيّ عمرانٌ روحيّ قِيَميّ ، وليس دعوى بتطبيق الشريعة عن طريق سفك الدماء ، والاستقواء بالقوى الخارجيّة ذات المصلحة المادّيّة على رقاب المسلمين .
السياسة الصالحة هي التي تنظرُ في مصالح العباد ، وتعمل بما هو أقرب إلى الصلاحِ ، وأبعد عن الفساد ، وبها يقوم شرع الله جلَّ جلاله ، لا بالقتل والعدوان على روح الإنسان ، وكرامة الوجود الإنسانيّ ، وهدرِ الحُرُماتِ والأعراضِ كما يجري الآن في بلاد المسلمين التي جعلها تيّار التكفير "دار حرب" وفق منظور يتّسمُ بالتجنّي على العباد ، ورؤيةٍ مغلوطةٍ لشرع الله تعالى المُقسِط .
ومن أهمِّ نماذجِ البغي والفسادِ في الأرضِ تحت بندِ تطبيقِ الشريعةِ ، هو اتّجاهُ رؤوسِ التكفير نحو مدينة حلب ، وإعلانها عبر قنوات الفتنة "دار حرب" بمعنى آخر استباحتها من أقصاها إلى أقصاها ؛ وهو ما يحدثُ الآن من استباحة الأعراض ، واستباحة الأرواح ، واستباحة الممتلكات ، والاعتداء على النساء والرجال والأطفال ، بل وصل العدوان بأهل التكفير إلى الأضرحة والقبور .
ولوعُدنا إلى تاريخِ حلب الدينيّ ، لرأينا لها سِفْراً حضاريّاً إسلاميّاً خالداً يفضحُ زيف هؤلاء المعتدين على السنّة باسم السنّة . إنَّ تاريخ حلب هو تاريخُ السنّة النبويّة المطهّرة ، لا سنّة الطلقاء من قبل , ولا سنّة الوهّابيّين من بعد . وعلماءُ المدرسة الدينيّة في حلب وعلى رأسهم المربّي العارف بالله السيد محيي الدين باذنجكي الحسيني ابن الزاوية الهلاليّة التي خرّجت كباء علماء حلب وعارفيها ، والمربّي العارف بالله تعالى السيد نجيب سراج الدين الحسيني ، وولده العارف بالله السيد عبد الله سراج الدين الحسيني ، والعارف الكبير السيد محمد النبهان الذي نبش التكفيريّون ضريحه ، وضريحَي زوجته وولده ، هؤلاء هم الذين رسّخوا في مدينة حلب عقيدتها العرفانيّة الروحيّة المتينة في بنائها الداخليّ ، المنفتحة على الآخر ديناً ومذهباً في منحاها الخارجيّ . فهم بالإضافة إلى كوكبةٍ من العلماء الأجلّاء مَن منحوا عقيدة حلب الدينيّة حصانةً ضدَّ الانحراف الوهّابيّ . وبفضل تربيتهم الدينيّة السّمحة عاش المجتمع الحلبيّ حالة التنوّع الدينيّ والعرقيّ بأعلى درجاتها وبروحٍ عالية من الوئام من دون تنابذٍ أو شقاقٍ . كما أن تركيز هؤلاء العلماء كان على الهدف الخُلُقيّ للدين بعيداً عن أيِّ فتنةٍ مذهبيّةٍ أو مأربٍ سياسيٍّ .
المدرسة الدينيّة في حلب هي مدرسة ذات منهجيّة روحيّة وشرعيّة يفتقر كثيرٌ من هؤلاء الأدعياء التكفيريّين إلى إدراكِ أدنى درجاتها ؛ ولذلك زحف معظم من أحرقوا حلب من الأرياف التي تعاني من التسطّح في الرؤية ، والإغراق في الجهل ، والعمالة للوهّابيّة ، وأمّا الفريق الآخر المُجنّد في قوى التكفير فهم أصحابُ المدرسة الوهّابيّة الساعية إلى بسط نفوذها في بلاد الشام وغيرها بالقتل وسفك الدماء ، وأمّا الفريق الثالث فهم فئاتٌ من جَهَلَة المسلمين في جميع أنحاء العالم جيءَ بهم تحت عنوان "الجهاد" ، وأمّا الفريق الرابع فهم الهَمَجُ والرَّعاعُ وأربابُ الانحرافِ داخل المجتمع الإسلاميّ وخارجه .
هذه هي مكوّنات جيش التكفير المجنّد لخدمة الإرهاب العالميّ ؛ إذ هو جزءٌ من المعادلات العالميّة المادّيّة التي لا يُمكنه الفكاكُ منها ، وليس تطبيقاً للحاكميّة الإلهيّة . وهو مهما حاول الحديث عن الالتزام بالشرع ، فلن يستطيع الفكاك من علاقات تشابكيّة في غاية التعقيد مع أطراف خارجيّة قادته إلى أسوأ النتائج على الأرض ؛ وأهمّها مخالفة شرع الله تعالى مخالفة مطلقة .
على هذا التيّار التكفيريّ أن ينظر في ثوابت الدين ، وأن يقرأ قراءةً واعيةً سَنَنَ الله تعالى في التغيير لفهم المتغيّرات في الشؤون كافّةً ، ولمراعاةِ مصالحِ الناسِ غير المتناهية زماناً ومكاناً .
القرآن الكريم هو المرجع الأساس ، وكلُّ ما يليه يوزنُ في ميزانه ، حتّى الأحاديث يجب أن تُعرَضَ عليه ، وألّا تتناقض معه . وأمّا رفع أيِّ شخصٍ من المسلمين من أمثال ابن تيميّة أو ابن عبد الوهاب أو غيرهما إلى مستوى القداسة المطلقة ، واتّباع تعليماتهم اتِّباعاً أعمى وفرضها على الناس من دون وجه حقّ ، فهو تضييقٌ على العباد فيما وسَّعَهُ الشرع ؛ وعبادة الأشخاص كعبادة الأوثان تبتعد عن روح الشرع الحنيف السَّمح ، وتُخلُّ بمضمونه ، وتتناقض مع صلاحية الإسلام لكلِّ زمانٍ ومكانٍ . والسنّةُ هي السنّة النبويّة ؛ واتّباع صاحبها عليه وعلى آله أزكى الصلاة والسلام أولى من اتّباع أيِّ شخصٍ من المسلمين مهما بلغ من العلم ؛ قال تعالى : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " (3).
ولعلّ أبشع صور التمزّق التشريعيّ يتجلّى في تناحر المكوّنات القائمة في المجتمع الإسلاميّ إلى درجة إقصاء الآخر تحت عنوان " التكفير " .
فالتكفير جناية كبرى من حيث الفكر ، ومن حيث الاعتقاد ، ومن حيث العمل والسلوك .
التكفير جناية عظيمة ؛ لأنّه هدم لشرع الله تعالى الباني . فالشريعة أصل السعادة الإنسانيّة ؛ إذ تنظّم حياة البشر ، وتنتشلهم من الفوضى . ولم يأتِ الأنبياء عليهم سلام الله برسالة الله جلّ جلاله إلّا رحمة للعالمين بلغت مداها في الظهور المحمّديّ من لدن ذي الجلال والإكرام .
التكفير جناية عظيمة ؛ لأنّه سفك للدماء ، وبغيٌ ، وفسادٌ في الأرض بغير حقّ يخرج بصاحبه إلى ما اتّهم به الآخر . وفي الحديث الشريف : " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما "(4).
ومهما بلغ الإنسان من المخالفة ، فلا يجوز تكفيره مع إقراره بالشهادتين مؤمناً متحقّقاً ؛ فقد ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " ثلاثة من أصل الإيمان ، الكفّ عمّن قال : لا إله إلّا الله لا نكفّره بذنب ، ولا نُخرجه عن الإسلام بالعمل ، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يُقاتل آخر أمّتي الدجّال لا يُبطله جَور جائر ولاعدل عادل ، والإيمان بالأقدار " (5).
إنّ الأمّة الإسلاميّة اليوم تعيش حالة التمزّق التشريعيّ ، والفوضى في الأحكام ؛ وهذا ناتج عن "تشريع الترقيع" .
وما أحوجنا اليوم إلى تشريع متكامل تتألّق فيه رسالة الإسلام بتوجيه النبوّة أمانةً ورسالةً وتصديقاً بالمُجمل القرآنيّ ، ومُفصّله التأويليّ متجلّياً في العترة النبويّة حاملة السرّ المحمّدي الساري فيها ظاهراً وباطناً ، علماً وسلوكاً ، ونبوّةً وولايةً ، وحقيقةً وتشريعاً .
إنّ جناية التكفير التي جرّت الويلات على الأمّة الإسلاميّة منذ العصور المتقدّمة ، يجب كفّها ، وكفّ مَن يرعاها وينميّها في مجتمعنا الإسلاميّ ، وبخاصّة جناية " التكفير المذهبيّ " .
الانتماء إلى شرف البيت النبويّ ، ليس تهمة يُعاقَب عليها المُعتقِد بها بالتكفير . وقد سمعنا مرّةً صوتاً غير محمود يقول :(لا شيعة في الإسلام)؛ فمن أين جاءت هذه المقولة إذا صحّت تسميتها بذلك ؟! فتكفير الآخر على أساس المذهب ، سبيلٌ هدّامٌ مفتوحٌ على شعاب الفساد كافّة ؛ ولذلك فعلينا جميعاً أن نحقّق في ذواتنا معنى الإسلام الحقّ القائم على التفكّر في خلق السموات والأرض ؛ لاستخلاص الحكمة الإلهيّة المودعة في النفس والآفاق (6).
ومن جملة الأسباب التي يتذرّع بها التكفيريّون ، متّخذينها مُبرِّراً لتكفير الإخوة الشيعة ، اتّهامهم بشتم الصحابة ؛ علماً أنَّ ثلاثةً وثلاثين مرجعاً من كبار المراجع الدينيّة وأجلّاء علماء الشيعة صرّحوا بحُرمة الإساءة إلى المسلمين ؛ وآراؤهم موثّقةٌ توثيقاً حسناً في كُتيِّبٍ قيّمٍ صدر عن الأمانة العامّة للمؤتمر العالميّ لمواجهة التيّارات المتطرّفة والتكفيريّة . فالأحرى والحالة هذه أن يكفَّ التيّار التكفيريّ عن إمعانه في إيقاد الفتنة بين المسلمين ، وأن يجنح نحو السِّلم تجاه إخوةٍ في الدين عملاً بقوله تعالى : "ادخلوا في السلم كافّة" (7) .
ولعلَّ كلمات الإمام الخمينيّ رحمه الله تعالى في هذا السياق توضح بما لايقبل الشكَّ الموقف الحازم تجاه التفرقة المذهبيّة وذلك عندما قال : "لايوجد في الإسلام أيُّ فرقٍ بين شيعيٍّ وسنّيٍّ أبداً ، ولا ينبغي أن يوجد ذلك . عليكم التمسُّك بوحدة الكلمة ، لقد أوصى أئمّتنا الأطهار بالحفاظ على وحدتنا ، ومن سعى إلى ضرب هذه الوحدة فهو إمّا جاهل وإمّا مدخولُ الطويَّة " (8).
وفي تمكينٍ لهذا النهج الإسلاميِّ الحكيم ، قال مرشد الثورة الإسلاميّة السيد محمد علي خامينئي : "كلُّ قولٍ أو فعلٍ يؤدّي إلى تأجيج نار الخلافات بين المسلمين ، وكلُّ إساءةٍ لمقدّسات أيٍّ من الفِرَقِ الإسلاميّة ، أو تكفير أحد المذاهب الإسلاميّة هو خدمةٌ لمعسكر الكفر والشرك ، وخيانةٌ للإسلام ، وحرامٌ شرعاً" (9) .
وردّاً على تهمة سبِّ الصحابة قال آية الله العظمى جعفر سبحاني : " إنَّ تهمة سبٍّ الصحابة التي يُرمى بها الشيعة بغير وجه حقّ هي تهمة باطلة ، وهو منزَّهون عنها ؛ فآراؤهم ومواقفهم إزاء الصحابة مقتبسة من إمامهم عليٌّ بن الحسين عليه سلام الله الذي يدعو بهذه الكلمات : اللهمَّ وأصحاب محمد خاصّة الذين أحسنوا الصُّحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه ، وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته " (10).
ومن المهمّ أن نوضح هنا أنَّ عداء تيّار التكفير لا يقتصر على تكفير الإخوة الشيعة أنصار آل بيت النبوّة عليهم سلام الله تعالى ، بل ينسحب على كلِّ المذاهب الإسلاميّة التي تعارض معتقداتهم ، إذ حكموا على أصحابها بهدر دمائهم وأموالهم . ولعلَّ في واقع ما يجري في حلب التي استباحوها وأعلنوها "دار حرب " بالإضافة إلى مدنٍ أخرى ، ما يُغني عن تقديم الوثائق والأدلّة التي تُثبتُ تكفيرهم لمن يُخالفهم ضلالهم .
وفي اتّخاذهم منحى ابن تيميّة وابن عبد الوهاب ، ذهب هؤلاء إلى تكفير أهل التصوّف والعرفان إلى جانب الشيعة ، إذ صرّحوا في بيان ما يُدعى دولة العراق الإسلاميّة بقولهم : "تعظيم وتكريم النبيِّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم واجب ، لذا فإنَّ تقديم الآخرين عليه حرام ، والقول ببلوغ رسول الله وأهل بيته الطاهرين وصحابته العظام من الخلفاء وسائر الصحابة يوجب الكفر والارتداد ؛ من هذا المنطلق ، فإنَّ الشيعة والمتصوّفة الذين يرفعون أئمّتهم إلى مصاف مقام النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أو أعلى كفار " (11).
يتّضح من خلال هذا الكلام مدى الجهل الأعمى لدى هؤلاء ؛ فقداسة الأئمّة الأطهار من آل بيت النبوّة عليهم سلام الله تعالى ، لا تتجاوز مقام النبيِّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل هي جزءٌ من قداسته ؛ لأنَّ آله الكرام بضعته وحُكْمُهُمْ حُكْمُهُ ، ومَحَبَّتُهم مَحَبَّتُهُ ، ووَلاؤُهُم وَلاؤُهُ . كما أنَّ إجلال مقام الأولياء لدى أهل التصوّف والعرفان لا يتجاوز المقام النبويّ ، بل يعزّز اتّباع نهجه ؛ فهؤلاء الأولياء هم ورثة محمّديّون علماً وحالاً وذوقاً وسلوكاً ، وليسوا مجرّد نَقَلَةٍ من الأسفار والكتب . والإدراك الروحيّ للعلوم والمعاني هو المنهج الإسلاميّ المحمّديّ الأصيل ؛ إذ لم يأخذ النبيُّ صلّى عليه وآله علومه الروحيّة من الكتب ، بل أخذها بالتلقّي من فيوضات الغيب الأعظم. ولذلك فإنَّ اتّباعه لا يكون بمجرّد الاعتماد على النقول والنصوص ، بل بالتلقّي من روحه الكلّيّ الفيّاض بعلوم النبوّة . يُضاف إلى ذلك أنَّ تهمة هؤلاء مردودةٌ عليهم ؛ إذ رفعوا ابن تيميّة وابن عبد الوهاب إلى مقام الوثنيّة ، علماً أنَّ ابن تيميّة حُكِمَ عليه بالسجن من قِبَل قضاة مذاهب أهل السنّة الأربعة بسبب إثارته الفتنة بين المسلمين . وأمّا ابن عبد الوهاب فيكفيه خزياً ما سُفِكَ من دماء المسلمين بسبب ضلاله وانحرافه عن النهج المحمّديّ الأصيل .
ومن المظاهر السلبيّة لزُمَرِ التكفير ، ممارسةُ أبشع أنواع القتل والجرائم وسفك الدماء تحت شعار "الله أكبر" الذي هو في جوهره استغاثةٌ بالناصر الأعظم على البغي ؛ وليس استقواءً بقوى البغي على بلاد المسلمين .
ومن نتائج هذه الممارسات الفظيعة اللاإنسانيّة ، هجرةُ أعدادٍ هائلةٍ من المسلمين فارّين ممّا أحاق بهم على أيدي وحوش الإرهاب ؛ فذهبوا غرقاً ، أو قُتلوا في ظروفٍ غامضةٍ وسُرقت أعضاؤهم ، أو نجوا مرتمين في حضن الغرب الذي يدرس في مؤسّساته الاستراتيجيّة مشاريع مستقبليّة مختلفة بناها على هذه الهجرات القسريّة القاهرة التي حملت هذه الطاقات البشريّة الهائلة إليه .
وتتجلّى الهَمَجيّة في أبشع صُوَرِها لدى تيّار التكفير في تدمير المساجد ، والمقدّسات الدينيّة ، وأضرحة الأولياء والصالحين . ومثل هذا جرى في حلب وغيرها من المدن السوريّة وفي تونس وليبية والعراق .
وينطلق هؤلاء في أفعالهم هذه من تكفير كلِّ مَن يتوسَّل بالأنبياء ، والأولياء ، والصالحين ، ويرفع حوائجه لديهم مُستشفعاً ببركتهم عند الله تعالى قدسه ، ويشبّهونه بمشركي قريشٍ في الجاهليّة . وهذا عين الجهل ؛ فالمؤمنون المتوسّلون بالأولياء ، والأنبياء موحّدون لا يُشركون بالله سبحانه أحداً ، ولا يجعلون له ندّاً وهم يقصدونه ببركات المقرّبين طارقين بابه بصدق التوجُّه وإخلاص النيّة . والله جلَّ شأنه أعطى الشفاعة لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله ؛ ولو كان الأمر على ما يصفون من الشّرك ، لما كانت الشفاعة المحمّديّة .
ومن غرائب الأمور لدى هؤلاء ، إصدار فتاوى بشأن علم الظواهر الكونيّة وعلمائه ؛ إذ أفتوا بهدر الدم بحقِّ كلِّ من يقول بدوران الأرض حول الشمس . لماذا يقفون ما ليس لهم به علمٌ من حقائق الكون ونواميسه؟ وكيف يهدرون دماء العلماء القائلين بذلك ؟ ولوكان فَرَضاً الأمر على ما قالوا ، فما وجه تكفيرهم بسببه ؟ والله جلَّ جلاله يدعو في كتابه المبين إلى التفكُّر المعرفيّ في آياته في النفس والآفاق ؛ فمن ذا الذي يُعارض هذا التفكُّر الواجب على الإنسان من قِبَل خالقه لإدراك حكمة الوجود ؟
وبارتباط هذا التيار التكفيريّ بقوى الغرب وبرامجه الاقتصاديّة الهادفة إلى السيطرة على مقدَّرات النفط والغاز، فإنّه ينفّذ بدقّة متناهية المخطّطات الخارجيّة لفتح سوقٍ كبيرةٍ للسلاح هدفها ليس التسويق فحسب ، بل تدمير المدن الكبرى بكلِّ مؤسّساتها وبنيتها التحتيّة . إنَّ سوق السلاح وراء كلِّ التجاوزات التي ارتكبها التكفيريّون بدعوى تطبيق الشريعة .
ويعمد تيّار التكفير إلى الاستقواء بالأجنبيّ والخارجيّ على بلدان المسلمين ؛ وهذا ما ينقض دعواه بالالتزام الشرعيّ ، بل يُسقطها كلّيّاً . ولعلَّ من أهمِّ عوامل دعم هذا التيّار المُصنَّع من قبل الغرب هو نجاح تجربة الحاكميّة الإسلاميّة في إيران ، هذه التجربة التي كان من الممكن أن تمتدَّ إلى بلدانٍ إسلاميّةٍ أخرى . فبعد أن جرى تيئيس المسلمين من إمكانيّة نجاح أيّ تجربة إسلاميّة على مستوى الحكم ، نجحت التجربة الإيرانيّة ، ونقضت حسابات الجميع ؛ ولذلك عمدوا إلى إنتاج نسخةٍ ممسوخةٍ لاستهداف الإسلام والمسلمين .
ولعلَّ من أسوأ ما أقدم عليه تيّار التكفير هو قتل الأقلّيّات غير المسلمة وأسر نسائهم وبيعهم في سوق النخاسة مثلما جرى في سوريّة والعراق ؛ علماً أنَّ هذه الأقلّيات مسالمة تعيش في كَنَفِ المسلمين بعيداً عن أيِّ صراعٍ . وفي مثل هؤلاء قال تعالى : "لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إنَّ الله يُحبُّ المُقسطين" (12).
وإذا كان هؤلاء التكفيريّون قد استباحوا أعراض غير المسلمات من خلال السبي والبيع في سوق النّخاسة ، فإنَّهم استباحوا أعراض المسلمات بأبشع الصور من خلال ما يُدعى " نكاح الجهاد " هذا النكاح الساعيّ الذي ذهب بأعراض المسلمين والمسلمات رجالاً ونساءً ، وذهب بنخوتهم الدينيّة ، وكرامتهم الإنسانيّة . وأجِدُ من الواجب أن أذكر في هذا السِّياق أنَّ كلَّ مايشبه النكاح الساعيّ هو ضربٌ من الزنى ؛ وإن أخذ اسم الصيغة الشرعيّة ؛ ففيه تُنتَهَكُ الحُرُمات ، ويجري التبادل بطريقة مهينة ، وتُرتَكَبُ أسوأ الموبقات التي نهى عنها الشرع الإلهيّ .
ومن المظاهر السلبيّة للتكفيريّين نشر الذعرِ وفقدان الأمان ؛ لأنّهم تخطّوا كلَّ الحدود والحُرُمات والقوانين . ومهما اختلفت مُسمَّيات جماعات التكفير فالمضمون الدمويّ واحد ، والارتباط بمصالح الخارج الفكريّة والمادّيّة ، وبسوق السلاح يجمعهم جميعاً . ومن ذاق مرارة ما فعل هؤلاء جميعاً من فتكٍ وقتلٍ ونهبٍ وانتهاكٍ لحُرُمات المسلمين ، يعي معنى ذلك بدقَّة تامَّةٍ .
ومن الضروريّ أن نذكر في هذا السياق أنَّ هذه الأفعال الصادرة عن جماعة التكفير باسم الدين ، جعلت أعداداً كبيرةً من الناسِ عموماً ومن المسلمين خصوصاً تفرُّ من الدين وتراه وحشاً دمويّاً مُرعِباً ، لا رحمةً للعباد كما هي رسالته السَّامية .
إنَّ ردّة الفعل التي أبداها الناس تجاه ممارسات التكفير وتيّاره الدمويّ ، أخذت أشكالاً مختلفة ؛ ففريقٌ رأى إسلاماً غريباً لم يعهده من قبل ، فوقف في أوّل أمره متحيِّراً مذهولاً مغلوباً على أمره ، لكنّه لم يُفرِّط بعقيدته التي ازدادَ تمسُّكاً بها بعد أن شَهِدَ حجم الجريمة المُرتكبة باسم الإسلام ظلماً وزوراً ، وفريقٌ حدث لديه النفورُ من الدين بسبب انعدام الأساس الدينيّ المكين لديه ، وبالتالي هو لا يملك الخطّ الدفاعيّ الذاتيّ ؛ وكان نتيجة ذلك أن انهارت عقيدته ، وصار في الوجهة الأخرى . وفريقٌ هو متحلّلٌ من الدين أصلاً ، ورأى في أفعال تيّار التكفير ما يُبرّر له "لادينيَّتَهُ " ، فراح يُكرِّس ذلك ، ويعزّز اتّجاهه الإباحيّ الهادف إلى التحلّل من أيِّ شرعٍ .
وهنا لابدَّ لنا أن نذكر أمراً في غاية الأهمّيّة بالنسبة للمجتمع الإسلاميّ على امتداد الدول الإسلاميّة ، وهو أنَّ هذا المدَّ التكفيريّ الدمويّ ، لم يكن ليأخذ هذه الهَيمنة الكبيرة لولا تبعيّة معظم الدول التي اجتاحها في نَسَقِ حياتها ، ومنظومتها الفكريّة لجهاتٍ خارج حدود الأوطان ، وبالتالي فمعظم هذه الدول الإسلاميّة لا تطبّق شرع الله تعالى لا من قريبٍ ، ولا من بعيد ، بل هي تابعةٌ تبعيّةً مُطلقةً لجهاتٍ دوليّة ترعى مصالحها المادّيّة، وتفرض برنامجها . وإذا أضفنا إلى ذلك الفسادَ الإداريّ القائم فيها على قاعدة الرشوة والمحسوبيّة والمال والجنس ، تبيّن لنا مدى هشاشة هذه المجتمعات في مواجهة تيّار التكفير الذي يدّعي تطبيق الشريعة ، ويريد تنفيذ ذلك بحدِّ السيف على حدِّ زعمه .
و الأمر الذي ينبغي تناوله في هذا السياق ، هو أنَّ بعض المجتمعات الإسلاميّة لا تعيش إسلامها الحقيقيّ بسبب بروز إشكاليّة القوميّة والدين على يد القوميّين المسيحيّين في تلك المجتمعات الذين تأثّروا بالتيار القوميّ في أوربة في القرن التاسع عشر، ورأوا أنّه لا يُمكن الحفاظ على كينونتهم الفكريّة والعَقَديَّة إلّا من خلال إقصاء الدين الإسلاميّ عن الحاكميّة الرسميّة في البلاد الإسلاميّة . ولكن تبيّن فيما بعد أنَّ هذا الفصل كانت له نتائجه الخطيرة التي انتهت إلى التحلّل من الشرع بصورة مباشرة وغير مباشرة ، وحلَّ محلَّ ذلك الفسادُ بجميع أشكاله .
وعندما جاء المدُّ التكفيريّ ، وارتكب فظائعه باسم الدين ، تنادى هؤلاء إلى إلغاء مادة التربية الدينيّة من المقرّرات والمناهج الدِّراسيّة ؛ علماً أنَّها عبارة عن مقرّرات بسيطة ، ولا تعبِّرُ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ عن أيِّ تطرُّفٍ أو انحرافٍ ، بل الأهمّ من ذلك أنَّ مقرّرات الثقافة القوميّة والاشتراكيّة في المدارس والجامعات هي التي كانت تعدُّ ابن عبد الوهاب مُصلحاً متنوِّراً ينبذ البِدَع والخرافات ، وتضعه في صفِّ الشيخ محمد عبده والشيخ جمال الدين الأفغاني ؛ وهذه مسؤوليّة تاريخيّة إزاء الأجيال.
وتمادى بعضُ المتنصّرين وصولاً إلى إقرار زواج مسلمةٍ من مسيحيٍّ في المحاكم المدنيّة ، بعد أن انتشر في صفوفهم بصورة غير رسميّة ، وتكونّت من جرّاء ذلك أسَرٌ وعائلاتٌ . وهم يريدون تعميم ذلك على الجميع متذرّعين بجرائم التكفير ، وضرورة التصدّي للطائفيّة بمَحْوِ الفروق الاجتماعيّة تماماً على قاعدة اللادين واللاشرع ؛ إذ إنَّ الإسلام برأيهم منقسمٌ إلى فِرَقٍ ونزاعاتٍ ينبغي الخروج منها والعيش بسلامٍ .
وإزاء هذه المواقف التي تُبنى على وحشيّة التكفير ، والنزاع المذهبيّ بين المسلمين ، لابدَّ من مراجعةٍ جادّةٍ لمعالجة المشكلات القائمة واجتثاث الفتن من صفوف المسلمين بالحجّة والبرهان عن طريق العلماءِ والمثقّفين والأكاديميّين من جميع المذاهب الإسلاميّة .
وأوّل بوادر العلاج تتجلّى في عدم تحميل أيّ فريق للآخر تبعة الأحداث التاريخيّة ، وتسلّط الأحكام السياسيّة التي شوّهت تاريخ الإسلام ، وتسبّبت في هذا الشرخ الدينيّ الكبير .
ولعلَّ ما يُسهِّل هذا الأمر هو إجماعُ المسلمين من السنّة والشيعة على موالاة آل بيت النبوّة عليهم سلام الله ؛ إذ أقرَّ أئمّة المذاهب الأربعة لأهل السنّة والجماعة بضرورة هذه الموالاة بناءً على ما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف بحقّهم . بل تعرّض هؤلاء الأئمّة للاضطهاد والتعذيب والتنكيل على يد أهل السياسة بسبب إعلانهم هذا الولاء .
وهذا يعني ضرورة تحرير جمهور المسلمين من المذهبيّة المقيتة التي فرضتها السياسة الماكرة على حياتهم عبر تاريخها الأسود ، ثمَّ جاءت دوائر الغرب ومؤسّساته الساعية إلى تحقيق مآربها المختلفة من قضاءٍ على الإسلام ، وفوزٍ بالحسابات الاقتصاديّة ؛ لتنفّذ مُخطّطاتها بالاستناد إلى هذا الصدع الكبير في حياة المجتمع الإسلاميّ .
ومن المؤسف أنَّ المؤسّسات الأجنبيّة هي صاحبة القرار الأوّل في حياة المسلمين ؛ فهذه المؤسّسات هي التي تُصنِّعُ حكّاماً لبلاد المسلمين ، وهي التي تُصنِّعُ معارضاتٍ على مقياسها ، بل هي التي تُصنِّعُ إسلاماً دمويّاً من باب التلبيس على المسلمين ، ومكراً بهم أجمعين .
ومهما تغيَّرت أشكال الحكم في المنطقة الإسلاميّة ؛ فمعظمها صناعة المؤسّسات الأجنبيّة ، وحارسة مصالحها الاقتصاديّة والفكريّة في المنطقة على حساب جمهور المسلمين .
صحيحٌ أنَّ الأنظمة المَلَكيّة تُعلن تبعيّتها بصورة مباشرة لتلك المؤسّسات الأجنبيّة ودولها صاحبة المصلحة ، ولكن لم تكن الأنظمة الجمهوريّة المفروضة على المجتمعات الإسلاميّة والساعية إلى حماية المصالح الخارجيّة لبعض الدول ، لم تكن بأحسن حالاً من تلك المَلَكيّة . فالاختلاف في الصورة فقط والمضمون واحد ؛ ولعلَّ ما يؤكِّدُ ذلك أن تحذوَ الأنظمة الجمهوريّة حَذْوَ الأنظمة المَلَكيَة في وراثة الحُكم لضمان بقائِها في السُّلطة أطول فترةٍ ممكنةٍ لقاء حراسة المصالح الخارجيّة للدول ذات المصلحة . وهذا من أخطر أسباب تكريس الفساد بجميع أشكاله في بلاد المسلمين .
ومن مخاطر التبعيّة الفكريّة للخارج تطبيق سياسة "أريفة المدن" التي جاءت من دون منهجيّة واضحة في ردّها على الحكم الإقطاعيّ الذي كان يُمارس ظلم الفلّاح . فقد تبيّن أنَّ ما يُدعى "دكتاتوريّة الطبقة الكادحة" جعل الفلّاح يتسلّط على أكبر المدن التاريخيّة عراقةً ويحرقها . وهذا ما حدث في مدينتي حلب ودمشق اللتين تتعرّضان لأكبر هجمة وحشيّة من الأرياف المحيطة بهما ، ومن سواهما من الأرياف التي أثبتت عمالتها للوهّابيّة وتيّار التكفير ، بعد أن كانت تستفيد بشكلٍ انتهازيٍّ بشعٍ من سياسة أريفة المدن . وهذا التطبيق الفكريّ التابع للخارج فشل فشلاً ذريعاً لأنّه أخذ منحى اقتصاديّاً مادّيّاً طبقيّاً بعيداً عن روح الشرع الذي يُراعي المصلحة المتكاملة للفرد أو لمجموعة الأفراد في المجتمع .
كما أنَّ تأليه الأحزاب وعبادتها من دون الله تعالى على طريقة الجاهليّين الذين كانوا يصنعون إلهاً من تمرٍ لعبادته ثّم يأكلونه ، هذا التأليه أثمر جنًى مرّاً على المستوى الأخلاقيّ للفرد والمجتمع والحاكم والمحكوم .
ولابدَّ لنا في سياق الحديث عن طغيان تيّار التكفير من ذكر أمرٍ في غاية الأهمّيّة ؛ وهو أنَّ رأس المال الوهّابي وصل إلى سوريّة ، واستطاع أن يحصل على استثمارات هائلة من خلال قانون الاستملاك لغير السوريّين ؛ وكان ذلك الخطأ القاتل الذي ارتكبته السُّلطة بسبب حفنةٍ من المنتفعين فيها، ومَن آزرهم من أصحاب المصالح المحدودة الذين سهّلوا للوليد بن طلال وغيره ذلك على حساب المصلحة السوريّة العليا .
ولم يكن المشروع الإقليميّ السوريّ – التركيّ بأقلَّ خطورةً من هذا القانون ؛ إذ استغلَّ الجانب التركيّ هذا المشروع لتدمير مدينة حلب القديمة بعد أن اطّلع على معلومات ذات أهمّيّةٍ كبيرةٍ ، وكان لخيانة بعض العملاء الذين قاموا بتسريب معلومات مهمّة جدّاً عن مخطَّط حلب القديمة أكبر الضرر على البلاد ، وعلى أمن المدينة . إنَّ نظرةً تأمّليّة في الصُّوَرِ المُوَثّقةِ في هذا المشروع تكشف بشكلٍ مباشرٍ حقيقة نوايا الطرف الآخر من خلال تدمير المنشآت والمساجد والمكتبات والبيوت الأثريّة وغير ذلك ممّا جرى تصويره وتوثيقه تحت عنوان المشروع الإقليميّ السوريّ – التركيّ . لكن يبقى الخطأ الأكبر هو خطأ الجهات الرسميّة التي فتحت للآخر التركيّ الأبواب على مصراعيها من دون حكمةٍ أو ضبطٍ ، ليس على مستوى المشاريع فحسب ، بل على مستوى التسهيلات اللامحسوبة التي دخل كلُّ شيءٍ بموجبها عبر الحدود المترامية الأطراف ؛ وكانت حلب "كبش الفداء" بحكم موقعها الاستراتيجيّ الدوليّ .
ومن الضروريّ أن نتوقّف عند الخطاب الدينيّ في بلاد المسلمين ؛ هذا الخطاب الذي شارك في صناعة محنة العصر ؛ لأنّه إمّا أن يأخذ شكلاً مُسطّحاً لا يرقى إلى مستوى خطاب الوعي الثقافيّ للجيل ، وإمّا أن يأخذ شكل الخطاب المذهبيّ المقيت ، وإمّا أن يأخذ شكلاً تحريضيّاً بشعاً خدمةً لبعض البرامج السياسيّة لفئاتٍ تتحدّث باسم الدّين ؛ في الوقت الذي ترتبط فيه بمؤسّسات الغرب ، ومصالحه الاقتصاديّة العالميّة ؛ وهذا أخطر أنواع الخطاب ؛ لأنّه جعل من المسلمين ومن أرواحهم ومن أعراضهم وممتلكاتهم وقوداً لحربٍ فوضويّةٍ فتنويّةٍ ملعونةٍ ؛ وهو خطابُ التكفير .
ولمواجهة هذه الخطابات الهدّامة جميعاً ، لابدَّ من الاهتمام والتركيز على الخطاب العقلانيّ العميق القائم على الاجتهاد الجادّ ، ورفع مستوى الوعي لدى عموم المسلمين تجاه مفاهيم مثل "التوحيد" و"الجهاد" وغيرها من المشتركات الفكريّة التي تحوّلت إلى نقاطٍ خلافيّةٍ نتيجة عدم توضيحها بالصورة الصحيحة .
إنَّ مسؤوليّة علماء المسلمين من جميع المذاهب ، هي مسؤوليّة كبيرة أمام الله تعالى ، وأمام عباده الأبرياء الذين منهم من أُزهِقت أرواحهم بغير حقّ ، ومنهم من انتُهِكَت أعراضُهم ، ومنهم من سُلِبًت ممتلكاتُهم ، ومنهم من قُتِلَ أبناؤهم وأطفالهم ظلماً وعدواناً . لذلك لابدَّ من توحيد الكلمة الإسلاميّة ، وتخطّي الخلافات التي يجري تضخيمها من قِبَلِ المغرضين في الداخل والخارج ، واللقاء على قاعدة التعارف الإلهيّ وصولاً إلى إنقاذ المسلمين أجمعين من بؤرة الفتنة المُهلِكة ، وإلّا فإنَّ المذاهب كلّها تتحمّل وِزرَ الشّقاق أمام الله جلَّ جلاله ، وما ينتج عنه من ويلاتٍ تطال جمهور المسلمين .
وهذه القاعدة التعارفيّة التي أرساها القرآن الكريم يجب أن يحظى مُفصَّلُها بما يليق بمُجملها الخُلُقيّ الرفيع من جدّيّةٍ في الفقه ، وعمق في الفلسفة ، وحكمةٍ في السياسة ، وارتقاءٍ في الأخلاق التي تجمع شمل المسلمين جميعاً ، وتحفظ كرامتهم ، وتقيهم من شرور التآمر ومخطّطات الهوان .
وما هذه القاعدة التعارفيّة السامية ، إلّا قاعدة التوحيد ؛ إذ جاء فيها خطاب الكثرة والعموم بقوله تعالى قدسه : "يا أيّها الناس "(13) ، ثمَّ أشار البيان الإلهيّ إلى جذر الخَلْق من شطري الذكورة والأنوثة وهما في الأصل نفس واحدة نتجت عنها الكثرة ، واتّسعت دوائرها إلى شعوبٍ وقبائل ؛ لترتدَّ عن طريق التعارف الإلهيّ والتوحيد إلى الواحديّة الدّالَّة على الأحديّة .
إنَّ طموح المسلمين إلى استعادة مجدهم ، أرّق مؤسّسات الغرب ؛ فاجتهدت لصنع تيّارات داميةٍ تشوّه صورة الإسلام ، وتكرّس العنف ، وتنشر الفوضى في بلاد المسلمين . لذلك فإنَّ تنظيم العقل المسلم الجَمعيّ وتوعيته ، ورفع سويّته الخُلًقيّة إلى المنحى الإيجابيّ ؛ لأداء تكليفه الشرعيّ بشكلٍ صحيحٍ ، وقراءةٍ واعيةٍ لرسالة الله جلَّ جلاله ، كلُّ ذلك يؤدّي إلى نتائج طيّبة على مستوى التغيير والنهضة الإسلاميّة الصحيحة.
إنَّ مسؤوليّة العلماء العاملين تتجلّى اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى ؛ إذ لابدَّ لهم من بيان التطبيق الحقيقيّ العميق للكتاب المُبين ، ولابدَّ لهم من المواجهة العلميّة والثقافيّة القائمة على الخطاب العقلانيّ المجتهد ، وهو الخطاب الجامع والشامل .
بهذا الوعي الإسلاميّ المُستنير المُنير المشفوع بعزم النيّة مع الله تعالى قدسه ، ينكسر سلاح المترّبصين بالمسلمين القائم على بثِّ الاختلاف وزرع الفتنة والفرقة بينهم ؛ لأنَّ ظهور نور الإسلام الحقِّ سيدمغ الباطل ويهزم أحزابه وجُندَه .
وعلينا أن نأخذ بالحسبان موضوع الإعلام ؛ فالإعلام كان له أكبر قدرٍ من المسؤوليّة في الترويج للفتنة وسفك الدماء . وهذا الإعلام المُغرِض متجلّياً في قنوات الفتنة ، كان بوق الغرب ، وأداته الأخطر في تنفيذ أغراضه ، وتدمير بلاد المسلمين ؛ وإن جاء بلسان عربيّ ، ووجوهٍ تدّعي الانتماء إلى الإسلام .
ولكن ما يحزُّ في النّفس أنّنا كنّا نجد في مقابل ذلك إعلاماً عاجزاً قاصراً عن بلوغ قدر التضحيات ، وقيمة المقاومة ، ودماء الشهداء ؛ ولعلَّ إعلامنا الوطنيّ يعبُّر وبكلِّ أسفٍ عن ذلك . ففي حين كانت المعارك المشتعلة في المدن السوريّة ، وفي حين كانت القذائف تنهال على جيشنا وأهالينا وأطفالنا في حلب وتُزهق الأرواح بالعشرات ، كانت الراقصة ترقص والمطرب يغنّي لها على إحدى القنوات المحلّيّة ، وأمّا القناة الأخرى فكانت تعرض المسلسلات التي لا تعبِّر عن واقعنا لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ . وهذا ما أدّى إلى استفزاز الناس الذين فقدوا ثقتهم بإعلام بلدهم ؛ وهم يعانون مرارة القتل والحصار والتسلّط القهري على مصيرهم ومقدَّراتهم .
إنَّ معركة الإعلام أخطر من المعركة العسكريّة ؛ بل هي ذروة المواجهة الثقافيّة التي تصنع التغيير ؛ لذلك يجب توحيد جهود المسلمين جميعاً عن طريق العلماء القائمين على الشرع ، وأهل الرِّيادة في العقيدة والفكر والثقافة للخروج بالصورة الإعلاميّة اللائقة بنهج المقاومة ، والمعبّرة عن تطلّعات المسلمين وطموحاتهم المشتركة بعيداً عن الشَّرذمة المؤدّية إلى الذلِّ والهوان بسبب ضلال الهدف .
ولابدَّ لنا - ونحن نتصدَّى لدراسة ظاهرة التكفير بهدف معالجتها - أن نركّزَ على موضوع الشباب الذين يشكّلون ثروة المجتمع البشريّة ؛ إذ كيف تدفّقت أعدادٌ كبيرةٌ منهم إلى صفوف العنف والقتل ؟ وكيف أمكن استقطابهم من قِبَل تيّار التكفير؟
الجواب يكمن في المشكلة الاقتصاديّة وما يتّصل بها من البطالة ، والفقر وضعف فُرَص العمل ، بل انعدام تكافؤ الفُرَص ، كما يكمن في المشكلة الثقافيّة وما يتّصل بها من تفشّي الجهل لدى الشباب ، وعدم تحصيل القدر الكافي من الوعي الفكريّ، والوعي الدينيّ ؛ لذلك لابدَّ لنا في محاصرة التطرّف من تعزيز البنى الاقتصاديّة والثقافيّة للمجتمع الإسلاميّ .
لكن تبقى المشكلة الأكبر في حياة المسلمين اليوم هي المشكلة الأخلاقيّة التي تحتاج إلى تعزيز الجانب التربويّ لدى مكوِّنات المجتمع جميعاً . فالحديث عن تيّار التكفير يكون مسطّحاً مالم ننظر بعمقٍ في المستوى الأخلاقيّ للبيئة التي يسَّرَت انتشاره واستفحال خطره . ولخلل الجانب الأخلاقيّ صور مختلفة لا يمكن أن يُدركها إلّا من عاش الأزمة في حياته اليوميّة وعرف مرارتها ، لا يُمكن أن يُدركها إلّا من ذاق بيع المدن الكبرى على يد أمراء الحرب الذين رخّصوا ضمائرهم بالمال الوهَابيّ ، لايُمكن أن يُدركها إلّا من أفاق ذات يومٍ فرأى أنّه مُستباحٌ من إرهاب التكفير، كما هو مُستباحٌ ممّن يُفتَرَضُ أنّهم حُرّاس أمنه وأمانه ، لا يُمكن أن يُدركها إلّا مَن عرف مَن شاركوا في سرقة لقمته ومائه وكهربائه ، وتاجروا بإنسانيّته بأبشع الصور ، لا يُمكن أن يُدركها إلّا من هرب فارّاً من القتل ، فعاد ليرى بيته مسروقاً مِمَّن يُفترض أنّهم من حرّاس الأرواح والممتلكات ، لا يُمكن أن يُدركها إلّا مَن رأى ما حدث في المدينة الصناعيّة في حلب ممّن دخلوا بالزيّ العسكريّ ونهبوا ما تبقّى فيها من الآلات والمعدّات وذهبوا بها إلى المجهول ، في حين كان إخوةٌ لهم يُقاتلون بشرفٍ ، وينالون الشهادة دفاعاً عن الأرض والعِرض والعقيدة .
من أين أتى هؤلاء ؟ هل هؤلاء تكفيريّون ؟ لا ، لكن هؤلاء أخطر ، وهم مكوّنات البيئة التي يسَّرَت السبيل لتمادي تيّار التكفير في غِيِّهِ وجَلدِه للمواطن المسلم الذي حافظ على قِيَمِهِ في أبشع ظروف التدنّي الأخلاقيّ .
ولا يُمكن أن نعزِّز البيئة الأخلاقيّة إلّا بتفعيل المحاسبة ، وكفِّ الاستبداد. بالمحاسبة يعرف كلُّ حدَّهُ ؛ فتُحفَظُ الحقوق ، ويتحقّق الانضباط ، وبكفِّ الاستبداد يصل صوت الآخر بشفافيةٍ وصدقٍ لتمكين المشاركة الجماعيّة النافعة بعيداً عن الأثرة والأنانيّة التي تذهب بالجميع إلى الهاوية .
إنَّ جمهور المسلمين اليوم بحاجةٍ إلى نور الإسلام الأصيل الذي يخرج بهم من ظلمات الفوضى والصراع والشقاق . وهذا ليس بالأمر العصيِّ على التحقيق ، بل إنّهم مُطالبون شرعاً بالكفِّ عن الشقاق الذي هو قرين النفاق، والتوّحُد على قاعدة التعارف الإلهيّ بين الشعوب والقبائل ، وقاعدة الخُلُق العظيم لنبيِّ الأمّة صلّى الله عليه وآله ، مُعلنين للعالَم أنَّ الإسلام دين الرأفة والرحمة ، وعمران الأرض بالعدل ، لادين الظلم القتل والتدمير .
وليعلم المسلمون كافّة أنَّ الإسلام عزيز لا يُمكن أن ينال منه أحد ، لكن عليهم الارتقاء خُلُقيّاً إلى مستوى عزّة الإسلام الأصيل . مَن يقرأ المعاني المسطورة في كتاب الله المُبين ، ويذوق نور معرفة الله ذوقاٌ إلهيّا أصيلاً لايُمكن أن يخترق الشقاق والنفاق قلبه ، ولا يُمكن أن يضمر الضغينة للآخر مهما بلغت درجة الاختلاف ، مادام الاتّفاق على الأصول العقديّة الكبرى في حياة المسلمين هو الحَكَم في ذلك بصورة واقعيّة .
ومن أحبَّ محمّداً صلّى الله عليه وآله ، فليتّبعه بالخُلُق العظيم ؛ ليلج إلى مَلَكوت الودود الأعظم الذي تجلّى بهذا الاسم على عباده بالحبِّ الثابت ، ووهب العالَمَ النورَ المحمّديّ الهادي .
الإسلام الأصيل جاء في كتابٍ مُبينٍ مُصدِّقاً لما بين يَدَيْهِ من الكتب ، لا مُكفِّراً لها ؛ لذلك فإنَّ رسالةَ الإسلام رسالةُ رحمة للبشريّة كافّة ، وليست خاصّة بجمهور المسلمين .
وهذه المبادئ الإلهيّة التي أرساها الإسلام ، لا يُمكن لأحدٍ تجاوزها .
ووفقاً للسنّة النبويّة المطهّرة "الكفّ عمّن قال : لا إله إلّا الله لا نكفّره بذنب، ولا نُخرجه عن الإسلام بالعمل " (14) ؛ لذلك لا يجوز المساس بدم المسلم أو ماله أو عرضه . كمالا يجوز اتّهام الآخر بالكفر مالم يرد ذلك صراحةً .
وعلى الإعلام المشارك في قتل المسلمين والتعرّض لأرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم ، عليه أن يتحقّق من حكم الشرع فيه بمراجعة القرآن الكريم ، والسنّة النبويّة المطهّرة ؛ "وكفى بالله حسيباً " (15). وليعلم هذا الإعلام أنَّ نهايته مرهونةٌ ببدايته ، وأنَّه عندما يأتي أمر الله ، فإنَّ متانة التدبير الإلهيّ ستجعل تدميره في تدبيره .
وفي مقابل ذلك فإنّه على الإعلام المقصِّر أن يرقى كلمةً وسلوكاً إلى مستوى نهج المقاومة ، ودماء الشهداء ، والثقافة الأصيلة .
إنَّ ثقافة الإسلام الأصيلة البانية لحضارةٍ إسلاميّة أصيلة ، قادرة على بناء الحضارة الإسلاميّة الحديثة بشكلٍ أكثر انسجاماً وألقاً باستفادتها من أخطاء التاريخ وتجاوزها بإمداد الحيِّ الذي لا يموت . ولعلَّ أهمَّ أخطاء التاريخ هما الفتنة المذهبيّة ، والفتنة العِرقيّة اللتان برزتا على يد الدولة الأمويّة العربيّة الأعرابيّة .
الحضارة الإسلاميّة ليست حضارة العرب وحدهم ، وليست حضارة الفرس وحدهم ، وليست حضارة الأكراد وحدهم ، وليست حضارة السُّريان وحدهم ، وليست حضارة الهنود وحدهم ، الحضارة الإسلاميّة ثمرة ثقافةٍ متكاملةٍ ، وشراكةٍ إنسانيّةٍ عميقة الجذور أثبتت أنَّ تدبير الخالق الأعظم جلَّ جلاله فوق كلِّ تدبير ، وأنّه مهما كان حجم الفتن ، فإنَّ مساحة الرحمة أعظم ، ومهما كان طغيان الجهل ، فإنَّ نور العلم أقوى حضوراً ؛ لأنَّه نور الوجود الذي ينفي العَدَميّة .
إنَّ الرِّيادة الفكريّة والثقافيّة السليمة للمجتمع الإسلاميّ في العصر الحديث، لا يصنعها خطباءٌ بقصّةٍ من الماضي ، أو بحديثٍ مُجتزأ ، أو تفسيرٍ مسطَّح لآيةٍ كريمةٍ ، أو بنقولٍ تقليديّةٍ لا تصلح لروح العصر ، أو باستحفاظٍ للآيات من دون إدراك مقاصدها المعنويّة الصحيحة . الرِّيادة الفكريّة تصنعها عقولٌ مُثقَّفةٌ مُبدِعةٌ عملت بسَنَن التفكّر القرآنيّ ، وحكمة النور المحمّدي وصولاً إلى رؤيةٍ معرفيّةٍ كلّيّةٍ تنأى عن الأفكار الضَّحلة والمًبعثرة والمُجتزأة من سياقها . فهذه العقول المُبدعة التي حباها الله تعالى بنور العلم ، لها حقُّ الرِّيادة للمجتمع الإسلاميّ ؛ لتنهض به من وهدة ظلمته ، وجَور محنته .
وإذا كانت الحضارة الإسلاميّة الحديثة تتحقّق بالرِّيادة الفكريّة والثقافيّة السليمة تحت مظلَّة الوحدة الإسلاميّة ونبذ الفتنة المذهبيّة ، فإنّها تستكمل عوامل نجاحها بنبذ الفتنة العرقيّة .
وليس هذا بالأمر العسير في ظلِّ الاقتداء بمحمد صلى عليه وآله ، والارتضاء بدعوته من دون تعصُّبٍ عنصريٍّ ، أو فتنةٍ عرقيّةٍ . وهذا الاقتداء بحدٍّ ذاته أكبر ردٍّ على مَن يشتغلون على إثارة موضوع القوميّات والأعراق بشكلٍ سلبيٍّ لتشتيت الصفِّ الإسلاميّ .
لم يختر الله جلَّ جلاله من العرب إلّا محمَّداً ؛ ولذلك ليس هناك أيُّ عربيٍّ تعلو مطالبه على النهج المحمّديّ الأصيل الذي أعرب عن شرع الله تعالى ودستوره الأعظم في الوجود ؛ فحقَّق معنى الخطاب الإلهيّ " وماأرسلناك إلّا رحمةً للعالمين" .
الرسالة المحمّديّة رسالة الرحمة العالميّة ؛ لأنَّ هذا النبيَّ الأكرم صلّى الله عليه وآله جاء بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ مُعربٍ عن المقاصد الربّانيّة تجاه العالَم .
هذه هي عروبة محمّدٍ العاربة ، عروبة الأنبياء ، لا قوميّة ُإقصاء الدين التي انتهت إلى التحلّل من الشرع ، ولا عصبيّة الدولة الأمويّة الأعرابيّة ، ولا تلك الأصوات المُنكرة التي اتّبعتها ، متخطّيةً النهج المحمّديّ بنَفَسٍ جاهليٍّ مسعورٍ أشعلته أموال الفجور ، وأسواق السلاح ، وإعلام الدِّماء .
محمّد هو الإنسان الخليفة ، لا خلافة القتل والظلم وسفك الدماء المصنوعة في دول الشِّرك ؛ فكفى افتراءً وعدواناً على عباد الله .
محمّد لم يأتِ قاتلاً للأطفال ، وسفّاكاً للدماء ، ومشرِّعاً للفواحش ، ولم يأتِ بحِمَمِ الشِّركِ ليحرق البشر والحجر والشجر، ويُدمِّرَ البلدان .
إنَّهُ الرحمة المُهداة للعالمين ، وسيبقى منار العالم المضيء ، وسراجه الوهّاج رغم أنف الشرك وأتباعه ، ورغم أنف تلبيس إبليس وجنود الطاغوت .
وجه الإسلام ، وجه محمّدٍ والأنبياء . وجه النور الماحي للظلمات . وسنقبس النور من هذا الوجه المبارك ، وجه الإنسان الكامل لنبني حضارتنا الإسلاميّة الحديثة بقوةٍ واقتدارٍ بمددٍ من ذي القوّة المتين الجبّار .
وجه الإسلام ، وجه القدُّوس الأعظم ، وجه الحيِّ القيّوم الذي عَنَتْ له الوجوه "وقد خاب من حمل ظُلْماً" (16).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحواشي :
(1) سورة الحجرات / 13 .
(2) سورة البقرة / 30 .
(3) سورة آل عمران / 31 .
(4) رواه البخاري عن أبي هريرة .
(5) أخرجه أبو داود .
(6) بحث الإتحاف بحبّ الأشراف والمجد والفتوّة لآل بيت النبوّة ، الدكتورة رئيفة أبوراس . ص : 10 .
(7) سورة البقرة / 208 .
(8) آراء علماء الشيعة حول حرمة الإساءة إلى المسلمين وتكفيرهم ، ص:10 .
(9) آراء علماء الشيعة حول حرمة الإساءة إلى المسلمين وتكفيرهم ، ص:12 .
(10) آراء علماء الشيعة حول حرمة الإساءة إلى المسلمين وتكفيرهم ، ص:24 .
(11) داعش دراسة نقديّة ، ص : 85 .
(12) سورة الممتحنة / 8 .
(13) إشارة إلى الآية 13 من سورة الحجرات .
(14)أخرجه أبو داود .
(15) سورة الأحزاب / 39 .
(16) سورة طه / 111 .