المجمع العالمي للتقریب بین المذاهب الإسلامیة - الشؤون الدولية
حديث التقريب.... منطلقات دعاة الوحدة في إيران ومشروعهم
تنطوي الوحدة الإنسانية على اقتراب الفصائل البشرية المختلفة من بعضها. فالاختلاف بين البشر طبيعي، ولكن في غياب الجوّ الحضاري يتحول إلى نزاع عشائري. ويتحول الخلاف بين الشيعة والسنة – كما قيل – إلى نزاع بين عشيرة الشيعة وعشيرة السنة. ولكن هذه الخلاف يأخذ في الجوّ الحضاري منحىً حواريًا يثري الفكر الإنساني.
حديث التقريب
منطلقات دعاة الوحدة في إيران ومشروعهم
يدور السؤال في المحافل الفكرية والثقافية عن السبب وراء اهتمام العلماء والدعاة في إيران بأمر التقريب بين المذاهب الإسلامية.
بصورة عامة الحديث عن التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يمكن فصله عن المشروع الشامل للإسلام وعن أهداف هذا المشروع. منطلق أهداف الإسلام هو «الإحياء» "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ".
وإذا تحقق الإحياء في الفرد أو المجتمع تتحقق معه «العزّة» والعزّة هي الطاقة المحركة نحو بناء «الحضارة»، وفي الجوّ الحضاري تتحقق «الوحدة» ومن مسلتزماتها التقريب بين المذاهب الإسلامية.
نحن إذن أمام منظومة يأخذ التقريب بين المذاهب جزءًا منها ولا يمكن أن ينفصل عن سائر أجزاء هذه المنظومة.
ونقف قليلا عند مكونات هذه المنظومة لنفهم من خلالها (منطلقات دعاة الوحدة في إيران) بل وفي العالم الإسلامي بأجمعه.
مرّت على العالم الإسلامي عامة وعلى إيران بشكل خاص ظروف بدأت منذ القرن الثامن عشر الميلادي، أريد فيها أولا أن ينفصل هذا البلد عن دائرة الحضارة الإسلامية، وأن ترتبط جذوره بما قبل الإسلام، بل وأريد تصوير الإسلام بأنه العامل على انهدام الحضارة الفارسية، وعملت دوائر خارجية كثيرة على هذاالمشروع بمساعدة العملاء والمهزومين في الداخل. أريدَ للإنسان الإيراني أن يعيش في هزيمة نفسية تجاه دينه وهويته، وسار على هذا الطريق جمع ممن يسمونهم منوري الفكر.
خطة التذويب هذه واجهت مقاومة كبيرة قادها علماء الدين والمثقفون الواعون لكنها واجهت الهزيمة الأكبر أمام مشروع «الإحياء» الإسلامي. الإحيائيون في مقاومتهم للخطة الاستعمارية قدموا مشروعًا إحيائيًا ابتدأ من تقديم الإسلام بمعناه الشامل، ومن تركيز مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة.
لعلّ أول من نهض بمشروع الإحياء هذا هو السيد جمال الدين الأسد آبادي (المعروف بالأفغاني) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لقد كان لدعوة جمال الدين الاستنهاضية دور كبير في إحياء الإيرانيين وغير الإيرانيين.
والمقصود بالإحياء هو خروج الإنسان من دائرة مصالحه الفردية والأنانية الذاتية ليعيش أهدافًا أكبر من هذه الذاتيات. ولينتقل بتعبير الشهيد محمد باقر الصدر من عبادة الـمُثل الهابطة المتمثلة بالغرائز والأهواء ومن المثل السرابية التي يحسبها الظمآن ماء إلى المثل الأعلى المطلق سبحانه وتعالى.
والقرآن الكريم يرى كما ذكرنا أن الإحياء هو الهدف النهائي من الرسالات السماوية، وماورد في كتاب الله من خروج الناس من الظلمات إلى النور هو تعبير عن تحرر الإنسان من ظلمات الطين بما فيها من غرائز وأهواء إلى نور نفحة روح ربّ العالمين حيث الحركة اللانهائية نحو تكامل الإنسان.
هذا الإنسان المتحرر من الأهواء الهابطة يستشعر العزّة وهو الجزء الآخر كما ذكرنا من المنظومة التي يندرج فيها التقريب بين المذاهب الإسلامية.
الحرّ بطبيعته يرفض الذلّ والهوان ويدع اللماظة (وهي بقية الطعام في الفم كناية عن الشيء التافه) لأهلها كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «ألا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها فإني لا أرى لأنفسكم ثمنًا إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلا بها» واستشعار العزّة وراء كل ترفع عن الدنايا وعن السقوط في مستنقع الشهوات، و وراء كل حركة تستهدف الخروج من ذلّ الخضوع للطواغيت وجبابرة الأرض.. بل هي وراء كل الثورات ضدّ الظلم واللطغيان. واقعة كربلاء يمكن تلخيصها بأجمعها في شعار (هيهات منّا الذلة) وإذا كان الإحيائيون يستهدفون إقامة الدولة الإسلامية الكريمة فإنما هي وسيلة لتحقيق هدف أكبر وهو عزّة الإسلام والمسلمين، وفي الدعاء «اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله».
ومن هنا فإن الإحيائيين في عصرنا يضربون في خطابهم على وتر استعادة العزّة ويدعون إلى أن تتحول العزّة إلى نهج تربوي شامل داخل الأسرة، وفي المدارس وفي برامج الإعلام.
ومن هنا أيضًا تتجه خطة الفراعنة قديمًا إلى الاستخفاف بالناس والحطّ من كرامتهم ليحولوهم إلى إداة طيعة بأيديهم "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ".
وهكذا تتجه خطة جبابرة الأرض في عصرنا الراهن إلى حرب نفسية للشعوب المقهورة ليفرضوا عليها حالة الذلّ والهوان وانهيار الثقة بالنفس ولذلك أمثلة كثيرة.
وحين تدبّ الحياة في جسد الأمة وتستشعر العزّة تتحرك نحو البناء الحضاري وهو الجزء التالي من المنظومة المذكورة.
وإذا كان الذل يفرض حالة الموت على الفرد والمجتمع فإن العزّة تدفع إلى الحركة وإلى الإبداع وإلى استثمار ما أودعه الله من كفاءات في البشر.
واللافت للنظر أن دور العزّة في حركة التاريخ له جذور ضاربة في تاريخ الفكر البشري، ويقدم لنا فوكوياما معلومات جيدة في هذا الصدد في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير). وينقل لنا عن أفلاطون في (الجمهورية) أن الإنسان يبحث عن الاعتراف بكرامته الذاتية وبكرامة شعبه أو الأشياء أو المبادئ التي يشحنها بالكرامة ويسمى هذه النزعة تيموس thymos أو روح الحياة. وهيغل بنى نظريته في حركة التاريخ على هذا الأساس ورأى إنه (أي التيموس) محرك السيرورة التاريخية بأكملها ولا أجد في اللغة العربية معادلا للتيموس سوى (العزّة). فالعزّة عند أفلاطون وهيغل هي محرّك البشرية نحو صنع تاريخهم الحضاري.
اهتمام القرآن بالعزّة والتأكيد على أنها بصورتها المطلقة من صفات الله التي يجب أن يتصف بها الإنسان ليتحرك نحو الله هو أيضًا اهتمام بدور الإنسان في أن يمارس دور الخلافة في الأرض.
وحين يسود الجوّ الحضاري في المجتمع تتحقق وحدة المجتمع. تتحقق لأن ذلك المجتمع حيّ، والحيّ مترابط عضويًا، «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» ولأنه يحمل أهدافًا كبيرة تصغر عنده الأهداف الصغيرة. وقال أمير المؤمنين في الذين يعيشون الأهداف الرسالية الكبرى: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم». وقديمًا قال الشاعر:
وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم الأعاظم
هذه الوحدة الإنسانية تنطوي على اقتراب الفصائل البشرية المختلفة من بعضها. فالاختلاف بين البشر طبيعي، ولكن في غياب الجوّ الحضاري يتحول إلى نزاع عشائري. ويتحول الخلاف بين الشيعة والسنة – كما قيل – إلى نزاع بين عشيرة الشيعة وعشيرة السنة. ولكن هذه الخلاف يأخذ في الجوّ الحضاري منحىً حواريًا يثري الفكر الإنساني.
ولما ذكرناه شواهد وتطبيقات كثيرة في القديم وفي حياتنا المعاصرة بإيران نرى ذلك في حركة السيد جمال الحسيني ونشاطات السيد حسين البروجردي ونواب صفوي والسيد ابو القاسم الكاشاني وفي ثورة الإمام الخميني، وفي المواقف الفكرية والعملية للشهيد محمد حسين بهشتي والشهيد مرتضى مطهري، والإمام الخامنئي، وفي غير إيران أيضًا الكثير والكثير.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية