حديث التقريب ..
الأمين.. أمين وحدة الأمة في بلاد الشام

الأمين.. أمين وحدة الأمة في بلاد الشام
هناك رجال نذروا أنفسهم لتحقيق عزّة الأمة ورفعتها واتخذوا من مشروع التقريب منهجاً في مسيرتهم، ونقف عند واحد من أبرز هؤلاء الرجال في بلاد الشام وهو السيد محسن الأمين العاملي (1952) لنستجلي مشروعه في توحيد صفوف الامة ليكون نبراساً باذن الله لبلاد الشام وسائر بلداننا الاسلامية.
رجلٌ حمل همّ التخلّف الحضاري والتمزّق الاجتماعي للأمة فعاش لهذا الهمّ، ولذلك كان تقريبيًا.
لقد كان السيد محسن الأمين من المراجع التي انتظمت وساهمت في رسم معالم مدرسة فكرية من مدارس عصر التجديد والنهضة في تاريخ العرب والمسلمين. هذه المدرسة نقرأ تجلياتها في مركزين إسلاميين كبيرين هما الأزهر والنجف. في الأزهر نقرأ تجلياتها مع الشيخ محمد عبده ومدرسته الإصلاحية الكبرى، وفي النجف مع سلسلة من الفقهاء، الذين نتعرف على أسمائهم في زمن انتفاضة التنباك والثورة الدستورية في إيران، ثم الانتفاضة الشعبية في العراق أمثال حسن الشيرازي، وكاظم الخراساني، وحسين النائيني، وآخرين.
والسيد الأمين علم من أعلام هذه المدرسة التي ربطت عملية الاجتهاد بالإصلاح ورأت الاجتهاد الموصل إلى الإصلاح حالة من حالات الجهاد والفريضة.
هاجر سنة 1319هـ إلى دمشق بعد أن أتمّ دراسته في النجف الأشرف، وسكن في أحد أحيائها، وراح يتلفت إلى ما حوله، فراعه ما رأى من جهل وفقر ونزاع وعادات سيئة، ورأى أن علّة العلل في هذا الوضع المتردي تكمن كما يقول في:
«1ـ الأمية والجهل المطبق فقد وجدنا معظم الأطفال يبقون أميين بدون تعليم، وبعضهم يتعلمون القراءة والكتابة في بعض الكتاتيب على الطراز القديم.
2- وجدنا إخواننا في دمشق متشاكسين منقسمين إلى حزبين بل إلى أحزاب وقد أخذت منهم هذه الحزبية مأخذها.
3- مجالس العزاء وما يتلى فيها من أحاديث غير صحيحة... فوجهنا اهتمامنا إلى إصلاح هذه الأمور الثلاثة».
قال عنه لطفي الحضار رئيس الوزراء السوري الأسبق:
«إن ما كان يتمتع به الإمام العلامة السيد محسن من الزعامة والقوة والحب العميق مَنْ جميع مَنْ عرفه واجتمع إليه من إخوانه ورجاله وأبناء عشيرته وغيرهم، كانت هذه الزعامة والحب قوة لنا لمتابعة الجهاد والنضال دون تردد أو ضعف، وكانت مجالسه كلها التي نغشاها من حين إلى آخر مجالاً للدعوة الصالحة في وجوب التضامن والائتلاف ونبذ السخائم والخلافات والترفع عن الدنايا والإسفاف».
وقال عنه الشيخ هاشم الخطيب من علماء السنة في دمشق: «لقد نهض بأبناء طائفته الجعفرية في سوريا ولبنان وجبل عامل نهضة مباركة وخطا بهم خطوة طيبة حببت إليهم جميع إخوانهم من المسلمين والعرب كما حببتهم أيضًا إلى الجميع فكانوا يدًا واحدة إخوانًا متحابين على سرر متقابلين تجمعهم وحدة الإسلام وتنظم أهدافهم وغايتهم المصلحة العامة».
ونقل عنه الدكتور مصطفى السباعي «إن شخصًا جاء إليه لينتقل من المذهب السني إلى المذهب الشيعي، فعرفه بأنه لا فرق بين السنة والشيعة في العنوان الإسلامي. وعندما أصر هذا الرجل قال له السيد الأمين قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالها الرجل، فقال له: لقد أصبحت شيعيًا.
لقد أدرك السيد الأمين(رض) أن الوحدة الإسلامية هي من الممنوعات الاستعمارية. وبذلك كان ثورة على الطائفية في الوقت الذي كان لا يمانع من بحث القضايا المذهبية بذهنية علمية موضوعية، وبروح إسلامية واعية، لأن هناك فرقًا بين الحوار العلمي، والاستغلال السياسي، أو التحرك الغوغائي لأن الحوار يؤدي إلى التفاهم وينتهي إلى الوحدة، بينما ينطلق الاستغلال والغوغائية إلى مزيد من البعد والاختلاف».
ومن أعماله المشهورة التي لا تزال قائمة حتى اليوم مدرسته التي قامت على أتم نظام وأحسن انتظام ذات صفوف ثانوية وقسم داخلي تفوق جميع مدارس دمشق التي من نوعها بحسن تنظيمها والمحافظة فيها على التحلّي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة ونجاح طلابها في الامتحانات مائة بالمائة، وأصبحت الطلاب تتهافت عليها من جميع الأحياء لما يرى أولياؤهم من تهذيب أخلاق أولادهم ونجاحهم حتى صار يضطرنا الحال أحيانًا إلى رد طلبهم لضيق المكان.
إلى جانب ذلك أنشأ «جمعية الاهتمام لتعليم الفقراء والأيتام» وكانت مسؤوليتها تقوم على حصر أسماء الناشئة، وتهيئة الأسباب المادية لضمان متابعتهم الدراسة لأن معظم الأهل بسبب فقرهم يفضلون إرسال أبنائهم إلى بعض المراكز الحرفية لتعليمهم صنعة وهم بحالة الأمية وذلك لحاجتهم الملحة لدخل هؤلاء الأولاد لتأمين الضرورات المعاشية.
ولـمّا لاحظ العلامة الأمين أن الأطفال والشباب بحاجة لرعاية خارج نطاق المدرسة أنشأ جمعية الرابطة الأدبية الاجتماعية لتملأ هذا الفراغ وترفدهم بالنشاط الأدبي والرياضي فكانت هذه الجمعيات تعمل مؤازرة للمدرسة المحسنية والمدرسة اليوسفية تحت إشرافه المباشر وتوجيهه الدائم».
وعن نهجه الوحدوي في التعليم يقول الأستاذ عبد اللطيف الخشن وهو من الذين تعلموا وتربّوا في مدارس السيد الأمين :«لم يكن السيد محسن الأمين في معاملاته لغير أبناء الطائفة الشيعية أقل من معاملته الحسنة لأبناء طائفته، ولم أجد في حياتي كلها مؤسس مدرسة في الدنيا لا يبالغ بحب أبناء طائفته أولا وإيثارهم على غيرهم، وجعلهم مقدمين في الوظائف على غيرهم باستثناء مولانا الأمين الذي كان يفتش عن معلمين للمدرسة يحسنون التدريس، دون النظر إلى الطائفة التي ينتمون إليها، إذ كان يفتش عن الإنتاج الفكري، والنضوج العقلي، والوعي في الأستاذ دون أن يسأل عن طائفته، وعن نحلته، وهذا بشهادة جميع الذين لمسوا من الراحل الكريم هذا التسامح وهذه العدالة.
لقد كان أساتذة المدرسة من جميع رجال الطوائف، وإني لأذكر على سبيل الاستشهاد والمثال أن معلمي الدروس الصرفية والنحوية كانوا من السنة والشيعة، وكان المدرس للغة الفرنسية مسيحيًا، وكان مدرس اللغة التركية سنيًا.
ونظرًا للشهرة التي نالتها المدرسة يؤمئذ أقدم الكثيرون على إرسال أولادهم إلى المدرسة وهم من مختلف الطوائف، ولم يكن في برامج التعليم أية صفة خاصة، أوميزة لفريق دون آخر من التلامذة».
ويصف هذه المدرسة الشيخ هاشم الخطيب بقوله :«إن مدرسته المحسنية بجميع فروعها التي أسسها على حب التسامح والإخاء قد أثمرت ولله الحمد ثمرتها المنتظرة ونرجو لها دوام التقدم والازدهار بهمة من يسيرون على نهج مؤسسها المخلص الوفي».
ومن آثاره الخالدة موسوعة أعيان الشيعة وتحتوي على تراجم للموالين لآل بيت رسول الله(ص) على مرّ التاريخ. وقد يخال المرء بادي الرأي أن الرجل يكرّس الطائفية بكتابه، ولكن مطالعة الكتاب بل مطالعة المقدمة فحسب تفصح أن السيد الأمين أراد أن يبرز التشيّع بأنه مسار علمي فكري جهادي أدبي .. بعبارة أخرى أراد أن يبرز الوجه الحضاري للتشيّع، لينأى به عن الوجه الطائفي. وهذا أكبر عمل يمكن أن ينهض به التقريبيون: أن يحوّلوا المذاهب من حالة تعدّد طائفي إلى حالة تنوّع حضاري، وهكذا فعل السيد الأمين.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية