حديث التقريب
تقويم المجمع العالمي للتقريب
تقويم المجمع العالمي للتقريب
بين الفينة والأخرى نسمع أصواتًا لا تزال تقبع في ظلمات الطائفية، عندئذ يطرح السؤال نفسه، ما الذي فعله المجمع العالمي للتقريب على ساحة القضاء على هذه الأصوات المنكرة، وهذا السؤال هو الذي دفعنا لهذا التقويم:
ولادة المجمع في إيران وفي أحضان الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية الإيرانية له دلالته الكبيرة في طبيعة المجمع وفي استمراريته.
إيران كانت على مرّ العصور الإسلامية دائرة هامة من دوائر التعايش المذهبي والتفاهم الفكري والحوار الحضاري، عدا فترة من العصر الصفوي حيث اقتضت مصالح الحكم واقتضت المصالح الأجنبية أن يكون بين الدولتين الصفوية والعثمانية صراع وحرب، تمترست وراء راية مذهبية. بل حتى في العصر الصفوي كان العلماء الشيعة في إيران على ارتباط متواصل مع علماء أهل السنة في العالم الإسلامي.
وما عدا العصر الصفوي كانت إيران مركزًا لانتاج الفكر السني والشيعي في الحديث والفقه والتفسير وعلوم القرآن، ونظرة واحدة على مؤلفي الصحاح وكتب الحديث وكتب التفسير وعلوم القرآن، تكفي لإثبات ماذهبنا إليه، فكل أصحاب صحاح أهل السنة هم إيرانيون ومؤلفو كتب الشيعة الأربعة إيرانيون ، وأكبر المفسرين الشيعة والسنة إيرانيون، وأعظم المؤلفين في النحو واللغة والبلاغة وسائر العلوم التي تخدم القرآن إيرانيون من السنّة والشيعة.. والقائمة طويلة في هذا المجال لذلك فإن ولادة المجمع العالمي للتقريب في إيران هو امتداد لتاريخ طويل من التعامل الفكري والفقهي والعلمي بين السنة والشيعة في هذا البلد.
ثم إن ولادة المجمع في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية وإقامة الجمهورية الإسلامية له دلالته الكبرى أيضًا، فالتقريب ولادة طبيعية لحركة الأمة ثقافيًا وحضاريًا.
التاريخ يثبت هذا الارتباط، والعصر الحديث قدم لنا مشاهد رائعة من ارتباط التقريب بالحراك الثقافي والتوجّه الحضاري. حين تحرك الشعب الإيراني في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لاستعادة حقوقه في النفط، والسيطرة على مقدراته، حدث تقارب سنّي شيعي هائل تمثّل في لقاءات الكاشاني وحسن البنا، ولقاءات نواب صفوي وعلماء فلسطين وعلماء مصر.. وحين ثارت الأمة في إيران في السبعينات من القرن الماضي زالت الحواجز بين أهل السنّة والشيعة وصارت الثورة الإسلامية ثورة كل المسلمين والجمهورية الإسلامية دولة كل المسلمين، وكادت وحدة الأمة أن تتحقق على أوسع الأبعاد، لولا العملية العسكرية والإعلامية الواسعة التي أحاطت بالولادة الإسلامية وفوّتت الفرصة على أمة الإسلام.
ولادة المجمع العالمي للتقريب إذن كانت مقرونة برصيد تاريخي هائل وبرصيد حراك ثقافي وحضاري ضخم وبتأييد وإسناد كبير من دولة الإسلام في إيران ومن القيادة بشكل خاص، ولذلك فمن الطبيعي أن يقطع المجمع خطوات رحبة على طريق التقريب، ومما حققه حتى الآن:
- استطاع أن يستوعب تجربة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، بل أن يعتبر نفسه امتدادًا لنشاطات تلك الدار. وهذا ما حدا به إلى تجديد طباعة أكثر منشورات وأدبيات دار التقريب.
- استطاع أن ينجح إلى حدٍّ ما في مواجهة الهجوم الطائفي الإعلامي الشرس الذي شُنَّ ضد الجمهورية الإسلامية إبّان الحرب المفروضة، وبعد انتصار المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان، وسقوط نظام صدام. هذا الهجوم لا يزال مستمرًّا حتى كتابة هذه السطور، والمجمع يحاول بكل ما أوتي من إمكانات لمواجهة التصعيد الطائفي.
- استطاع المجمع في أحلك ظروف الحرب الطائفية أن يخترق الأجواء الملغومة ويقيم جسور الارتباط مع العلماء والمفكرين والكتاب عن طريق تبادل الزيارات وإقامة المؤتمرات والمشاركة في معارض الكتب، وإن يثبت أن الهجوم الطائفي الإعلامي ليس له علاقة بالشعوب ولا بالنخب المثقفة، ولا يعدو أن يكون صوتًا للقوى التي تستغل الطائفية لمصالح الحكم والهيمنة والإذلال.
- استطاع المجمع أن يحوّل مشروع التقريب إلى رأي عام إسلامي عالمي، مما دفع بالمؤسسات الإسلامية الكبرى أن تدخل ساحة التقريب مثل منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الإيسيسكو ومجمع الفقه الإسلامي ومؤسسة الإمام الخوئي والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان ومؤسسة آل البيت في الأردن.
- تحوّل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية إلى مؤسسة كاملة في تنظيم أمورها وتوزيع أعمالها. فثمة النظام الأساسي والأمين العام والجمعية العمومية والمجلس الأعلى والمعاونية الدولية والمعاونية الثقافية ومعانية شؤون إيران، ولكل واحد من فروع هذا الجهاز وظائفه المحددة، ومجالس شورى يُتخذ فيها القرار على أساس المشورة بين العلماء والمفكرين المختصين.
- استطاع المركز عن طريق الكم الهائل من المنشورات (الكتب والمجلات والنشرات) أن يوصل صوته وفكره إلى أقصى أرجاء المعمورة، كما أنه في اختياره الجيد للكتب التي تتناول المشتركات في الفقه والحديث والسيرة، تغلّب على كثير من الحواجز الطائفية داخل إيران وخارجها.
- اهتمام المجمع بالساحة الإيرانية ضمن معاونية خاصّة يدلّ على أنه يعمل على التقريب من جانبين، من الجانب الشيعي والجانب السنّي، ويبعد الفكرة القائلة بأن التقريب موجّه إلى أهل السنّة فقط.
- مشروع التقريب اتخذ أبعادًا واسعة حين تبنّى المجمع في مؤتمراته وندواته موضوعات إسلامية واسعة مثل: عالمية الإسلام والعولمة والصحوة الإسلامية وقضايا المسلمين في الأقطار غير الإسلامية... وهذا توجّه ذكي لقضية التقريب بالنظر إليها على أنها جزء من كل المشكلة الحضارية التي يواجهها المسلمون.
- المجمع خطى أيضًا بوعي على طريق مواجهة العصبية القومية التي يراد إثارتها بين العرب وإيران تحت عناوين: «الفرس المجوس» ، و«الشعوبية»، إذ إن العصبية القومية أصبحت مقرونة بالطائفية،وكأن المواجهة اتخذت طابع عرب سنّة وإيرانيين شيعة، وهو أكبر تزييف للتاريخ والواقع.
ونشاط مركز الدراسات الثقافية الإيرانية العربية ضمن إطار المجمع خطوة هامة على طريق كشف هذا الزيف، وإزالة الحساسيات القومية وما اقترن بها من طائفية.
- نشط المجمع في المجال العلمي، أي في مجال تحويل «الطائفية» إلى حوار علميّ وذلك عبر مركز البحث العلمي في مدينة قم الذي يهتم بالدراسات الفقهية والأصولية والحديثية المقارنة والمشتركة، وعبر جامعة المذاهب الإسلامية التي تدرّس فقه المذاهب السنيّة بشكل تخصّصي إضافة إلى الفقه المقارن والكلام المقارن، ويدرس فيها الطلاب السنّة والشيعة في جوّ من التفاهم العلمي والتثاقف الأخوي.
- اهتمّ المجمع بالبحوث الجامعيّة الأكاديمية عبر مركز أبحاث وحدة الأمة الإسلامية في طهران بفرعيه: مستقبل الحضارة الإسلامية، والتقريب بين مذاهب الإسلامية.
في فرع مستقبل الحضارة الإسلامية ينطلق من مفهوم هام هو أن التقريب بين المذاهب الإسلامية لا يمكن أن يتحقق إلاّ في جوّ حِراك ثقافي استنهاضي حضاري، وبدون ذلك تبقى ثقافة الانقسام والتجزئة والصراع مع الذات والآخر هي الغالبة.
وفرع تقريب فصائل الأمة الإسلامية يستهدف دراسة نقاط القوة والضعف في أمتنا بشأن تحقيق وحدتها بشكل علمي معمّق، وبالتعاون مع المؤسسات العلمية المشابهة، وتقديم المشاريع العلمية لمعالجة المظاهر السلبية المضادة لوحدة الأمة.
- اهتمّ المجمع بالاعلام والاتصال عن طريق شبكات الاتصال من خلال مواقعه المتعددة على الانترنت، وأهتمّ أيضًا بإيصال المعلومة الصحيحة إلى أبناء الأمة عبر وكالة الأنباء الدولية للتقريب.
أما العقبات التي واجهت مسيرة المجمع فأهمها:
- الزوبعات الطائفية المستمرة التي تُثار في الساحة الإسلامية كلما تحقّق فيها انتصار، والتهم المستمرّة التي تكال لرجال التقريب والتشكيك المتواصل في أهداف التقريب، ووراء كل ذلك غالبًا مصالح الحكم والهيمنة.
- مؤامرات إثارة الفتنة الطائفية في أوساط الشيعة والسنّة، عن طريق افتعال إهانة المقدسات ونشر كتب الاستفزاز، واستثارة كل فريق ضد الآخر بسبل مختلفة.
- الموروث الطائفي والتحجّر والجمود الموجود في بعض أوساط الشيعة والسنة، مما يشكل عقبة أمام الانفتاح على مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة.
- قلّة الأقلام التي تكتب بالعربيّة الجيّدة في إيران مما يجعل كثيرًا من أعمال التقريب لا تشقّ طريقها إلى العالم العربي إلاّ عن طريق الترجمة، والخطاب عبر الترجمة غير الخطاب المباشر.
بشكل عام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بشكل منجزًا حضاريًا هامًا في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل في تاريخ الحراك الثقافي الحضاري للأمة الإسلامية.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية