/ صفحه 314/
وإن كانت الشفاعة عند سلطان جائر، فيجوز أن يقبلها ويترك الذنب لأجل مرضاة الشفيع، وذلك إفساد لا يليق بالله تعالى.
ولم تقدر الآية هذا الشق الثاني، لأن الكلام إنما هو في الشفاعة لدى الله جل علاه، وهو أعدل الحاكمين، فبقي الشق الأول، وهو الشفاعة لدى الله الحكم العدل، فجاءت الآية بالجملة السادسة; تعليلا لإنكار أن يشفع عند الله أحد إلا بإذنه بأنه يعلم كل شىء; فلا يمكن أن يخفى عليه من أمر المشفوع فيه ما يجعله ينزل على حكم الشافع، فهو تعالى كما هو منزه عن الظلم منزه عن الجهل، وذلك هو قوله تعالى: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)) ثم جاءت الجملة السابعة نفياً لأن يكون في الوجود من يعلم شيئاً من علم الله على وجه الإحاطة به إلا ماشاء الله أن يعلمه أحدا من خلقه، وهذا حكم شامل للشفعاء.
وقد جاء في القرآن آيات أخرى تتحدث عن شأن الشفاعة، متضمنة علم الله وانفرداه بالسلطة، مثل قوله تعالى: ((بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون)) وقوله تعالى:((يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما)). والمراد بقوله تعالى: ((إلا بإذنه)) و((إلا لمن ارتضى)) و ((إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا)) فيه كلام كثير وخلاف بين العلماء، وأوفق الآراء أن نحمله على الدعاء، الذي يقبل الله تعالى عقبه ماسبق في علمه الأزلي أنه سيفعله، مع القطع بأن الشافع لم يغير شيئا من علمه، ولم يحدث تأثيرا مافي إرادته تعالى،وبذلك تظهر كرامة الله لعبده في إيقاعه الفعل عقب دعائه، وبهذا فسر الشفاعة ابن تيمية (1).
وقال الأستاذ الإمام ممد عبده: إن لهذا الاستثناء واقعا، وهو أن نبينا عليه الصلاة والسلام يشفع في فصل القضاء: فيفتح باب الشفاعة، فيدخل فيه غيره من الشفعاء، كالأنبياء والأصفياء، كما ثبت في الأحاديث، وهي مسألة أنكرها المعتزلة وأثبتها أهل السنة، والله تعالى يأذن لمن يشاء، ويطلع على علمه باستحقاق الشفاعة من يشاء، كما يعلم من الاستثناء في الآية وأمثالها(2).
وتأتي بعد ذلك الجملة الثامنة، وهي قوله تعالى: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) وهي تعبير تمثيلي لشمول سلطان الله، وعمومه في السموات والأرض
ــــــــــ
(1) ص 33 ج 3 من تفسير المنار.،=
(2) المصدر نفسه.