أحدهما: ما يكون ناشئاً من فساد الأخلاق، وفقدان الورع، وضعف الوازع، وأسماه بفساد الزمان، وقد مرّ عليك أمثلته كما مرّت مناقشاتنا. والآخر: ما يكون ناشئاً عن اوضاع تنظيمية، ووسائل زمنية جديدة من اوامر قانونية مصلحية وترتيبات ادارية، واساليب اقتصادية ونحو ذلك، وهذا النوع – عند الكاتب – كالأوّل موجب لتغيير الأحكام الفقهية الاجتهادية المقرّرة قبله إذا اصبحت لا تتلاءم معه، لأنّها تصبح عندئذ عبثاً أو ضرراً، والشريعة منزّهة عن ذلك، وقد قال الإمام الشاطبي (المتوفى 790هـ) في الموافقات: لا عبث في الشريعة. ثمّ طرح لها أمثلة واليك بيانها: 1ـ ثبت عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه نهى عن كتابة احاديثه، وقال لأصحابه: “من كتب عني غير القرآن فليمحه ” واستمر الصحابة والتابعون يتناقلون السنّة النبوية حفظاً وشفاهاً لا يكتبونها حتى آخر القرن الهجري الأول عملاً بهذا النهي. ثم انصرف العلماء في مطلع القرن الثاني بأمر من الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز، إلى تدوين السنّة النبوية، لأنّهم خافوا ضياعها بموت حفظتها ورأوا أنّ سبب نهي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتابتها انّما هو خشية ان تختلط بالقرآن، إذ كان الصحابة يكتبون ما ينزل منه على رقاع، فلمّا عمّ القرآن وشاع حفظاً وكتابة، ولم يبق هناك خشية من اختلاطه بالحديث النبوي، لم يبق موجب لعدم كتابة السنّة، بل أصبحت كتابتها واجبة لأنّها الطريقة الوحيدة لصيانتها من الضياع.([119]) أقول: إنّ ما ذكره من أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن كتابة حديثه غير صحيح من وجوه: أولاً: روى البخاري أنّ رجلاً من أهل اليمن طلب من النبي أن يكتب له خطبته فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي فلان إلى أن قال: كتبت له هذه الخطبة.([120])