أَيْ اجْعَلُونِي وَسَطاً لَكُمْ تَرْفُقُونَ بِي وتَحْفَظُونَنِي فإِنّي أَخافُ - إِذا كُنْتُ وَحْدِي مُتَقَدِّماً لَكُمْ أَو مُتَأَخِّراً عَنْكُمْ - أَنْ تَفْرُطَ دَابَّتِي أَوْ ناقَتِي فَتَصْرَعَنِي . كأَوْسَطِه وهو اسْم كأَفْكَل وأَزْمَل فإِذا سُكِّنَت السِّينُ مِنْهَا كَانَتْ ظَرْفاً . وفي الصّحاح يُقَالُ : جَلَسْتُ وَسْطَ القَوْمِ بالتَّسْكِينِ لأَنَّهُ ظَرْفٌ وجَلَسْتُ وَسَطَ الدّارِ بالتَّحْرِيك لأَنَّهُ اسْمٌ .
وللشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بنِ بَرِّيٍّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هُنَا كَلامٌ مُفِيدٌ لا يُسْتَغْنَي عَنْ إِيرادِهِ كُلِّه لحُسْنِهِ . قال : اعْلَمْ أَنَّ الوَسَطَ بالتَّحْرِيكِ : اسمٌ لِمَا بَيْنَ طَرَفَي الشَّيْءِ وهُوَ مِنْهُ كقَوْلِكَ : قَبَضْتُ وَسَطَ الحَبْلِ وكَسَرْتُ وَسَطَ الرُّمْحِ وجَلَسْتُ وَسَطَ الدّارِ ومِنْهُ المَثَلُ : يَرْتَقِي وَسَطاً ويَرْبِضُ حَجْرَةً أيْ يَرْتعِي أَوْسَطَ المَرْعَى وخِيَارَهُ ما دامَ القَوْمُ في خَيْرٍ فإِذا أَصابَهُمْ شَرٌّ اعْتَزَلَهُمْ ورَبَضَ حَجْرَةً أَيْ ناحِيَةً مُنْعَزِلاً عنهم . وجاءَ الوَسَطُ مُحَرَّكاً أَوْسَطُه على وِزانٍ نَقِيضِه في المَعْنَى وهو الطَّرَفُ لأَنَّ نَقِيضَ الشَّيْءِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ نَظِيره في كَثِيرٍ من الأَوْزَانِ نَحْوُ : جَوْعَان وشَبْعان وطَوِيلٍ وقَصِير . قال : ومِمّا جاءَ عَلَى وِزَانِ نَظِيرِه قَوْلُهم : الحَرْدُ لأَنّه عَلَى وِزَانِ القَصْدِ والحَرَدُ لأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ نَظِيرِهِ وهُوَ الغَضَبُ . يُقَالُ : حَرَدَ يَحْرِد حَرْداً كما يُقَالُ : قَصَدَ يَقْصِدُ قَصْداً . ويُقَالُ : حَرِدَ يَحْرَدُ حَرَداً كَما يُقَالُ : غَضِبَ يَغْضَبُ غَضَباً . وقالُوا : العَجْمُ لأَنَّهُ على وِزانِ العَضِّ وقالُوا : العَجَمُ لِحَبّ الزَّبِيبِ وغَيْرِه لأَنَّهُ وِزَانُ النَّوَى .
وقالُوا : الخِصْبُ والجَدْب لأَنَّ وِزَانَهُمَا العِلْمُ والجَهْلُ لأَنَّ العِلْمَ يُحْيِي الناسَ كما يُحْيِيهِمُ الخِصْبُ .
والجَهْلَ يُهلِكهم كما يَهْلِكُهم الجَدْبُ . وقالُوا المَنْسِرُ لأَنَّهُ عَلَى وَزَانِ المَنْكِب . وقالوا : المِنْسَرُ لأَنَّهُ على وِزَان المِخْلَبِ . قالُوا : أَدْلَيْتُ الدَّلْوَ : إِذا أَرْسَلْتَها في البِئْرِ ودَلَوْتُهَا : إِذا جَذَبْتَها فجاءَ أَدْلَى على مثال أَرْسَلَ ودَلاَ عَلَى مِثَالَ جَذَبَ قال : فبِهذَا تَعْلَمُ صِحّةَ قَوْلِ مَنْ فرَقَ بَيْنَ الضَّرِّ والضُّرِّ ولَمْ يَجْعَلْهُما بمَعْنَىً فقالَ الضَّرُّ : بإِزاءِ النَّفْعِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُهُ والضُّرُّ بإِزاءِ السُّقْمِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ في المَعْنَى . وقالُوا : فادَ يَفِيدُ جاءَ عَلَى وزانِ مَاسَ يَمِيسُ إِذا تَبَخْتَرَ وقَالُوا : فادَ يَفُودُ على وِزَانِ نَظِيرِه وهو ماتَ يَمُوتُ والنَّفَاقُ في السُّوقِ جاءَ على وَزْنِ الكَسَادِ والنِّفاقُ في الرَّجُلِ جاءَ على وِزَانِ الخِدَاعِ . قالَ : وهذا النَّحْوُ في كَلامِهِم كَثِيرٌ جِدّاً .
قال : واعْلَمْ أَنَّ الوَسَطَ قَدْ يَأْتِي صِفَةً وإِنْ كانَ أَصْلُه أَنْ يَكُونَ اسْمَاً مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَوْسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُه وخِيَارُه كوَسَطِ المَرْعَى خَيْرٌ مِنْ طَرَفَيْهِ وكوَسَطِ الدَّابَّة للرُّكُوبِ خَيْرٌ من طَرَفِيْهَا لِتَمَكُّنِ الرّاكِبِ . ومنه الحَدِيثُ : خِيَارُ الأُمُورِ أَوْسَاطُها . وقول الراجز : .
" إِذا رِكِبْتُ فاجْعَلانِي وَسَطَا فَلَمَّا كانَ وَسَطُ الشَّيْءِ أَفْضَلَهُ وأَعْدَلَهُ جازَ أَنْ يَقَعَ صفة وذلِكَ مِثْلُ قَوْلِه تَعالَى : " وكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً " أَيْ عَدْلاً فهذا تَفْسِيرُ الوَسَطِ وحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ وأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّيْءِ وهو مِنْهُ . أَو هُمَا فِيمَا مُصْمَتٌ كالحَلْقَةِ مِنَ النَّاسِ والسُّبْحَةِ والعِقْدِ فإِذا كانَتْ أَجْزَاؤُه مُتَبَايِيَةً فبالإِسْكَانِ فَقَط والَّذِي حُكِيَ عن ثَعْلَبٍ : وَسَطُ الشِّيْءِ بالفَتْحِ إِذا كَانَ مُصْمَتاً فإِذا كانَ أَجْزَاءً مُتَخَلْخِلَةً فهُوَ وَسْطٌ بالإِسْكَانِ لا غَيْرُ فتأَمَّلْ