فيدفعَ الإِعجازَ من أصلِه . وهذا تقريرٌ لا يدفعه إِلا مُعانِدٌ يَعُدّ الرجوعَ عن باطلٍ قد اعتقدَه عجزاً والثَّباتَ عليه مِنْ بَعْدِ لزوم الحجَّةِ جلداً ومَنْ وضع نفسَه في هذه المنزلةِ كان قد باعَدَها من الإِنسانية . ونسألُ الله تَعالى العصمةَ والتوفيقَ .
وهذه أصولٌ يحتاجُ إِلى معرفَتِها قبل الذي عَمَدنا به .
اعلمْ أن معاني الكلام كلَّها معانٍ لا تُتصوَّر إِلا فيما بين شيئين . والأصل والأولُ هو الخبر . وإِذا أحكمتَ العلم بهذا المعنى فيه عرفتَه في الجميع . ومن الثابتِ في العقولِ والقائمِ في النفوسِ أنه لا يكونُ خبرٌ حتى يكونَ مخبَرٌ به وَمُخبرٌ عنه لأنه ينقَسِم إِلى إِثباتٍ ونفي . والإِثبات يَقْتَضي مُثبتاً ومُثبتاً له . والنفيُ يقتضي مَنفياً ومنفياً عنه . فلو حاولتَ أنْ يتصوَّرَ إثبات معنى أو نَفْيُهُ مِنْ دون أن يكونَ هناكَ مُثبتٌ له ومنفيٌّ عنه حاولتَ ما لا يَصِحُّ في عَقْلِ ولا يقعُ في وهم . ومن أجلِ ذلك امتنعَ أن يكونَ لك قصدٌ إِلى شيء مُظْهَرٍ أو مقدَّرٍ مُضْمَر . وكان لفظُكَ به إِذا أنتَ لم تُرِدْ ذلك وصوتٌ تصِّوتُه سواء .
وإِن أُردتَ أن تستحكم معرفةُ ذلكَ في نفسِكَ فانظرْ إِليك إِذا قيلَ لك : ما فعلَ زيدٌ فقلتَ : خرجَ . هَلْ يتصوَّرُ أن يقعَ في خَلَدِك من " خرج " معنى مِنْ دون أن تَنويَ فيه ضميرَ زيد وهل تكونُ إِن أنتَ زعمتَ أنك لم تنوِ ذلك إِلا مُخْرِجاً نفسَك إِلا الهَذَيان وكذلكِ فانظر إِذا قيلَ لك : كيفَ زيدٌ فقلتَ : صالحٌ هل يكونُ لقولِكَ : " صالح " أثرٌ في نفسِك من دون أن تريدَ " هو صالح " أم هل يَعْقِلُ السامعُ منه شيئاً إِن هو لم يعتقد ذلك فإِنه مما لا يبقَى معه لعاقل شَكٌّ أن الخبرَ معنًى لا يتصوَّر إِلا بين شيئينِ يكون أحدُهما مُثبَتاً والآخَرُ مثبَتًا له أو يكون أحدُهما منفياً والآخَرُ منفياً عنه وأنه لا يتصوّر مثَبتُ من غيرِ مثبَتٍ له ومنفيٌّ من دونِ منفيٍّ عنه . ولما كان الأمرُ كذلكَ أوجبَ ذلك أن لا يعقلَُ إِلاّ من مجموع جملةِ فعلٍ واسمٍ كقولِنا : خرجَ زيدٌ أو اسمٍ واسمٍ كقولنا : زيدٌ منطلقٌ . فليس في الدنيا خبرٌ يعرفُ من غيرِ هذا السبيلِ وبغيرِ هذا الدليلِ . وهو شيء يعرفُه العقلاء في كلِّ جيل وأمة وحكمٌ يجري عليه الأمرُ في كلِّ لسانٍ ولغةٍ .
وإِذْ قَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُتصوَّر الخبرُ إِلاّ فيما بينَ شيئين : مخبرٍ به ومخبرٍ عنه فينبغي أن يُعْلَمَ أنهُ يحتاجُ مِنْ بَعد هذين إِلى ثالثٍ . وذلك أنه كما لا يتصوَّر أن يكونَ هاهُنا خبرٌ حتى يكونَ مخبرٌ بهِ ومخبَر عنه . كذلك لا يُتصوّر أن يكونَ خبرٌ حتى يكونَ له مُخبِرٌ يصدرُ عنه ويحصلُ من جهته ويكونَ له نِسبةٌ إِليه وتعودُ التَّبعةُ فيه عليه . فيكونَ هو الموصوفَ