فانظرِ الآنَ : هل يتصوَّر في شيءٍ من هذه المعاني أن يكونَ معنى اللفظ وهل يكونُ كونُ الحمدِ مبتدأ معنى لفظ الحمد أم يكون كونُ ربِّ صفة وكونه مضافاً إلى العالمين معنى لفظ الرب .
فإِنْ قيلَ : إنه إنْ لم تكن هذه المعاني أنفُس الألفاظِ فإِنها تُعْلَمُ على كلِّ حال من ترتيبِ الألفاظِ ومن الإِعرابِ فبالرفع في الدال من الحمد يُعْلَم أنه مبتدأ وبالجرِّ في الباء من ربِّ يعلم أنه صفة وبالياء في العالمينَ يُعْلَم أنه مُضَافٌ إليه . وعلى هذا قياسُ الكُلّ . قيل : ترتيبُ اللفظ لا يكونُ لفظاً والإِعرابُ وإن كان يكونُ لفظاً فإِنه لا يُتصوَّر أن يكونَ هاهنا لفظان كلاهما علامةُ إعراب ثم يكونُ أحدُهما تفسيراً للآخَر . وزيادةُ القولُ في هذا من خَطَل الرأي فإِنه مما يَعْلَمُه العاقلُ ببديهة النظرِ . ومَنْ لَمْ يتنبه له في أوّل ما يسمعُ لم يكن أهلاً لأنْ يكلَّمَ . ونعودُ إلى رأسِ الحديث فنقول : .
قد بَطَل الآنَ من كلِّ وجه وكلِّ طريق أن تكون الفصاحةُ وصفاً للفظ من حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسان . وإذا كان هذا صورَةُ الحال وجملةُ الأمر ثم لم ترَ القوم تفكَّروا في شيءٍ مما شرحناه بحالٍ ولا أخطروه لهم ببالٍ بانَ وظهر أنَهم لم يأتوا الأمرَ من بابه ولم يطلبوه من مَعْدِنه ولم يسلكوا إليه طريقَه . وأنَّهم لم يزيدوا على أنْ أَوهموا أنفسَهم وهماً كاذباً أنهم قد أبانوا الوجهَ الذي به كان القرآنُ معجزاً والوصفَ الذي به بانَ من كلام المخلوقين من غيرِ أن يكونوا قد قالوا فيه قولاً يَشْفي من شاكٍ غليلاً ويكون على علمٍ دليلاً وإلى معرفة ما قصدوا إليه سبيلاً .
واعلمْ أنَّه إذا نظرَ العاقلُ إلى هذه الأدلَّة فرأى ظهورَها استبعَدَ أن يكونَ قد ظنَّ ظانٌّ في الفصاحةِ أنَّها من صفةِ اللفظ صريحاً . ولعمري إنه كذلك ينبغي إلاَّ أنَّا ننظرُ إلى جِدِّهم وتشدُّدِهم وبَتِّهم الحكمَ بأن المعاني لا تتزايدُ وإنما تتزايدُ الألفاظ . فلئن كانوا قد قالوا الألفاظَ وهم لا يريدونها أنفسَها وإنما يريدون لطائفَ معانٍ تُفْهَم مِنْها لقد كان ينبغي أن يتبعوا ذلك من قولِهم ما ينبىء عن غَرضَهم وأن يذكروا أنَّهم عَنوا بألفاظ ضرباً من المعنى وأن غرضَهم مفهوم خاص .
هذا وأمرُ النظم في أنه ليس شيئاً غيرَ توخّي معاني النحو فيما بين الكلم وأنك ترتبُ