فقال : فأنّى لك هذه الفصاحةُ قال : أخذتُها عن أبي . قال : ورأيتُهم يُديرون في كتُبِهم أنَّ امرأةً خاصمتْ زوجَها إلى يحيى بنِ يعمُرَ فانتهرَها مراراً . فقال له يحيى : إن سألتُك ثمنَ شَكْرها وشَبْرِك أنشأتَ تُطِلُّها وتَضْهَلُها ثمَّ قال : وإن كانوا قَدْ رَوَوا هذا الكلامَ لكي يدلَّ على فصاحةٍ وبلاغة فقد باعدَه الله من صفةِ البلاغة والفَصاحة .
واعلمْ أنك كلما نظرتَ وجدتَ سبَبَ الفسادِ واحداً وهو ظنُّهم الذي ظنُّوه في اللفظِ وجعلُهم الأوصافَ التي تَجري عليه كلَّها أوصافاً له في نفسِه ومن حيثُ هو لفظٌ . وتركُهم أن يميِّزوا بينَ ما كان وصفاً له في نفسِه ويبن ما كانوا قد أكسبوه إياه من أجلِ أمْرٍ عَرَضَ في معناه . ولما كان هذا دأبَهم ثم رأوا الناسَ وأظهرُ شيء عندَهُم في معنى الفصاحة : تقويمُ الإِعرابِ والتحفُّظُ منَ اللحن لم يَشكّوا أنه ينبغي أن يُعتدّ به في جملةِ المزايا التي يفاضل بها بينَ كلامٍ وكلامٍ في الفصاحة . وذهبَ عنهم أنْ ليس هو من الفصاحةِ التي يعنينا أمرُها في شيء . وإنَّ كلامنا في فصاحةٍ تجبُ للفظِ لا من أجل شيءٍ يدخل في النطق ولكن من أجل لطائفَ تُدرك بالفهم . وإنَّا نعتبرُ في شأنِنا هذا فضيلةً تجبُ لأحدِ الكلامين على الآخرِ من بعد أن يكونا قَد برِئا من اللَّحن وسَلِما في ألفاظِهما من الخطأ . ومن العجَبِ أنَّا إذا نظرنا في الإِعراب وجدنا التفاضلَ فيه محالاً لأنه لا يتصوَّر أن يكونَ للرفعِ والنصبِ في كلام مزيةٌ عليهما في كلامٍ آخر وإنما الذي يتصوَّر أن يكونَ هاهنا كلامان قد وقعَ في إعرابهما خللٌ ثم كان أحدُهما أكثرَ صواباً من الآخر . وكلامان قد استمر أحدُهما على الصَّوابِ ولم يستمرَّ الآخرُ . ولا يكونُ هذا تفاضلاً في الإِعراب ولكن تركاً له في شيءٍ واستعمالاً له في آخر فاعرفْ ذلك .
وجملةُ الأمر أنك لا ترى ظناً هو أنأى بصاحبِه عن أن يصحَّ له كلامٌ أو يستمرَّ له نظام أو تثبُتَ له قَدَمٌ أو ينطِقَ منه إِلا بالمُحال فَمٌ من ظنِّهم هذا الذي حامَ بهم حولَ اللفظ وجعلهم لا يعدونهولا يَرَوْن للمزية مكاناً دونه .
واعلمْ أنه قد يَجْري في العبارة منا شيءٌ هو يعيدُ الشُّبهةَ جَذَعةً عليهم وهو أنَّه يقعُ