وإلاّ رأيتَهم قدِ اعترفوا من حيثُ لم يدروا بأنْ ليسَ للمزيَّة التي طلبوها موضعٌ ومكانٌ تكونُ فيه إلا معاني النحو وأحكامه . وذلك أنهم قالوا : إنَ الفصاحةَ لا تظهر في أفرادِ الكلماتِ وإنما تظهرُ بالضمِّ على طريقة مخصوصةٍ . فقولُهم : " بالنَّظم " لا يصحُّ أن يرادَ به النطقُ باللفظة بعدَ اللفظة من غير اتصالٍ يكونُ بين معنييهما لأنه لو جازَ أن يكونَ لمجرَّد ضَمِّ اللفظ إلى اللفظ تأثيرٌ في الفصاحةِ لكانَ يَنْبغي إذا قيلَ : " ضحِكَ خَرَجَ " أنْ يحدثَ من ضَمِّ " خرج " إلى " ضحك " فصاحةٌ . وإِذا بطلَ ذلك لم يبقَ إلاّ أن يكونَ المعنى في ضمِّ الكلمةِ إلى الكلمةِ توخّي معنًى من معاني النحو فيما بينهما . وقولُهم : على طريقةٍ مخصوصةٍ يوجِبُ ذلك أيضاً وذلك أنه لا يكونُ للطريقةِ - إذا أنتَ أردتَ مجردَ اللفظ - معنًى وهذا سبيلُ كلِ ما قالوه إِذا أنتَ تأمَّلْتَه تراهُم في الجميعِ قد دفعوا إلى جعلِ المزيّة في معاني النحو وأحكامِه من حيثُ لم يشعروا ذلك لأنه أمرٌ ضروريٌّ لا يمكن الخروج منه .
ومما تجدُهم يعتمدونه ويرجِعُون إليه قولُهم : إن المعاني لا تتزايدُ وإنَّما تتزايدُ الألفاظُ . وهذا كلامٌ إذا تأملتَه لم تجدْ له معنًى يصحُّ عليه غيرَ أنْ تجعلَ تزايُدَ الألفاظِ عبارةً عن المزايا التي تحدثُ مِنْ توخِّي معاني النحوِ وأحكامِه فيما بينَ الكَلِم لأنَّ التزايدَ في الألفاظِ من حيثُ هي ألفاظٌ ونطقُ لسانٍ محالٌ .
ثم إنَّا نعلمُ أنَّ المزيَّةَ المطلوبةَ في هذا الباب مزيَّةٌ فيما طريقُهُ الفكرُ والنظرُ من غيرِ شُبهة . ومحالٌ أن يكونَ اللفظُ له صفةٌ تُستنبَطُ بالفكر ويستعانُ عليها بالرويَّة . اللهمَّ إلا أن تريدَ تأليفَ النَّغم وليس ذلك ممّا نحنُ فيه بسبيلٍ . ومن هاهنا لم يَجُزْ إِذا عُدَّت الوجوه التي تظهرُ بها المزيةُ أن يُعَدَّ فيها الإِعرابُ وذلك أن العلم بالإعراب مشتركٌ بينَ العربِ كلِّهم وليس هو مما يُسْتَنْبَطُ بالفِكْر ويستعانُ عليه بالرويّة . فليسَ أحدُهُم بأنَّ إعرابَ الفاعِلِ يحتاجون فيه إلى حِدَّة ذهنٍ وقوّةِ خاطرِ إنما الذي تقعُ الحاجةُ فيه إلى ذلك العلمِ بما يوجِبُ الفاعليةَ للشيءِ إذا كان إيجابُها من طريقِ المجازِ كقولهِ تعالى : ( فما رَبِحَتْ تِجارتُهُم ) وكقولِ الفرزدق