قولِه : بَعَثوا إليَّ عريفَهم يتوسَّم . وذلك لأنَّ المعنى : على توسًّمٍ وتأمّلٍ ونظرٍ يتجدَّد من العريف هناك حالاً فحالاً وتصفُّحٍ منه للوجوه واحداً بعدَ واحدٍ . ولو قِيل : بعثوا إليَّ عريفَهم متوسِّماً لم يُفدْ ذلك حقَّ الإفادة . ومن ذلك قولُه تعالى : ( هَلْ مِنْ خَالِقِ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ ) لو قيلَ : هل من خالقٍ غيرِ الله رازقٍ لكم لكان المعنى غيرَ ما أُريدَ . ولا يَنْبغي أن يَغُرَّكَ أنّا إذْ تكلّمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدَّرنا الفعلَ في هذا النحوِ تقديرَ الاسم كما نقول في : " زيدٌ يقوم " : إنه في موضعِ " زيدٌ قائمٌ " فإنَّ ذلك لا يَقْتضي أن يستويَ المعنى فيها استواءً لا يكون من بَعْدِهِ افتراقٌ فإنهما لوِ اسْتويا هذا الاستواءِ لم يكن أحدُهما فعلاً والآخُر اسماً بل كان يَنْبغي أن يكونا جميعاً فعلين أو يكونا اسمين .
ومِنْ فروقِ الإثباتِ أنَّك تقولُ : " زيدٌ منطلقٌ " و " زيدٌ المنطلقُ " و " المنطلقُ زيدٌ " فيكون لك في كلِّ واحدٍ من هذه الأحوالِ غرضٌ خاص وفائدة لا تكونُ في الباقي . وأنا أفسِّر لك ذلك .
اعلم انك إذا قلتَ : " زيدٌ منطلقٌ " كان َ كلامُك مع من لم يَعْلَم أن انطلاقاً كان لا مِنْ زيدٍ ولا مِنْ عمروٍ . فأنت تفيدُه ذلك ابتداءً . وإذا قلتَ : " زيدٌ المنطلقُ " كان كلامُك مع من عرفَ أن انطلاقاً كان إمّا مِنْ زيدٍ وإمَّا من عَمْرٍو فأنتَ تُعْلِمُه أنه كان من زيدٍ ودونَ غيره . والنكتةُ : أنك تُثْبتُ في الأول الذي هو قولك زيد منطلق فعلا لم يعلم السامع من أصله أنه كان وتثبت في الثاني الذي هو " زيدٌ المنطلقُ " فعلاً قد عَلِم السامعُ أنَّه كان ولكنه لم يَعْلَمْه لزيدٍ فأفدته ذلك . فقد وافق الأولَ في المعنى الذي له كانَ الخبرُ خبراً وهو إثباتُ المعنى للشيء . وليس يقدحُ في ذلك أنكَ كنتَ قد علِمتَ أن انطلاقاً كان من أحدِ الرجلين لأنك إذا لم تصِلْ إلى القَطْع على أنه كان من زيدٍ دون عمرٍو كان حالُك في الحاجةِ إلى من يُثبته لزيد كحالك إذا لم تعْلم أنه كانَ من أصله .
وتمامُ التحقيق أنَّ هذا كلامٌ يكونُ معك إذا كنتَ قد بُلِّغْتَ أنه كانَ من إنسانٍ انطلاقٌ من مَوْضعِ كذا في وقتِ كذا لغرضِ كذا فجوَّزتَ أنْ يكونَ ذلك كان من زيدٍ . فإذا قيلَ