وكذلك جعلوا تكرير العين نحو فرَّح وَبشَّر فجعلوا قوّة اللفظ لقوّة المعنى وخصُّوا بذلك العين لأنها أقْوى من الفاء واللام إذ هي واسطة لهما ومكنوفةٌ بهما فصارا كأنهما سيَاج لها ومَبْذولان للعَوارض دونها ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها .
( فأما مقابلةُ الألفاظ بما يُشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع ونَهْج مُتْلَئبّ عند عَارفيه مَأمُوم وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سَمت الأحداث المعبّر بها عنها فَيَعدلونها بها ويَحتذُونها عليها وذلك أكثرُ مما نقدّره وأضعافُ ما نستشعره من ذَلك قولهم : خَضَم وقضم ف ) الخَضْم لأكل الرَّطْب ( كالبطّيخ والقثَّاء وما كان من نحوها من المأكول الرطب ) والقضْمُ لأكل اليابس ( نحو قَضَمَت الدَّابة شعيرها ونحو ذلك .
وفي الخبر : ( قد يُدْرَكُ الخَضْم بالقَضْم ) أي قد يُدرك الرخاء بالشدة واللّين بالشَّظَف .
وعليه قول أبي الدَّرْداء : يَخْضمَون ونقضَم والموعد اللّه ) فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس ( حَذْواً لمسموع الأصوات على مَحْسوس الأحْداث ) ( ومن ذلك قولهم ) النَّضْح للماء ونحوه والنَّضْخ أقوى منه ( قال اللّهُ سُبْحَانه : ( فيهمَا عَيْنَان نَضّاخَتاَن ) ) فجعلوا الحاء لرقتها للماء الخفيف والخاءَ لغَلظها لما هو أقوى ( منه ) ومن ذلك القدّ طولاً والقطّ عرضاً لأن الطاءَ أخفض للصوت وأسرعُ قطعاً له من الدَّال فجعلوا لقَطْع العَرض لقُرْبه وسرعته .
والدّال المَاطلة لمَا طال من الأثَر وهو قَطْعُهُ طولاً .
قال : وهذا الباب واسعٌ جداً لا يمكنُ اسْتقْصَاؤُه .
قُلت : ومنْ أَمْثلة ذلك ما في الجمهرة : الخَنَنَ في الكلام أشدُّ من الغَنَن