وحكى من قوة محمد هذا أنه شرد لأبيه جمل فعدا جماعة خلفه فلم يلحقه أحد سواه فأمسك ذنبه ولم يزال يجاذبه حتى انقلع ذنبه فرجع بالذنب إلى أبيه وكان يطلب الخلافة لنفسه في زمن بني أمية وزعم أن المهدي كان نهاية في العلم والزهد وقوة البدن وشجاعة القلب ولم يزل متستراً سنين في جبال طيء مرة يرعى الغنم ومرة اجيراً وشيعته يدعون له بالخلافة في أقطار الأرض إلى أن اشتد أمره في خلافة المنصور فاهتم بأمره وطالب به أباه وإخوته وأقاربه فأنكروه وزعموا أنهم لا يعرفون له مقاماً فنقلهم من الحجاز إلى العراق في القيود والأغلال ثم ظهر في المدينة وقامت له الدعوة بالحجاز واليمن واضطربت له دولة المنصور فجهز إليه عيسى بن موسى وكان يقال له فحل بني العباس ولما حصره وأيقن محمد بالخذلان رجع إلى منزله وأخرج صندوقاً وفتحه بين خاصته ودعا بنار أضرمت فأخرج كتباً كثيرة من ذلك الصندوق ورماها في النار وقال : الآن طبت نفساً بالموت لأن هذه كتب قوم من باطنة هذا الرجل حلفوا لنا على الصدق والولاء فلم آمن أن تحصل في يده فيهلكهم ويكون ذلك بسببنا ثم اخترط سيفه وجعل يقول مرتجزاً .
لا عار في الغلب على الغلاب ... والليث لا يخشى من الذباب .
ولم يزل يقاتل حتى قتل وحز رأسه وحمل إلى المنصور فلما رآه تمثل : .
طمعت بليلى أن تريع وإنما ... يقطع أعناق الرجال المطامع .
وأدخلوا رأسه على أبيه في السجن وهو يصلي فألقوا الرأس بين يديه فلما فرغ من الصلاة التفت فرآه فقال : رحمك الله لقد قتلوك صواماً قواماً ثم قال : .
فتى كان يدنيه من السيف دينه ... ويكفيه سوآت الأمور اجتنابها .
ثم قال للرسول : يا هذا قل لصاحبك قد مضى شطر من عمرك في النعيم وبقي شطر البؤس وقد مضى لنا شطر البؤس وبقي شطر النعيم ومن شعر محمد المهدي المذكور ما أنشده الصولي : .
أشكو إلى الله ما بليت به ... فإن عالم الخفيات .
من فقدي العدل في البلاد ومن ... جور مقيم على البريات .
رجوت كشف البلاء في زمن ... فصرت فيه أخا بليات .
وقال أخوه إبراهيم يرثيه وبعضهم رواها لأبي الهيذام : .
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإن بها ما يدرك الواتر الوترا .
وإنا أناس ما تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قصم الظهرا .
ولسنا كمن يبكي أخاه بعبرة ... يعصرها من جفن مقلته عصرا .
ولكنني أشفي فؤادي بغارة ... ألهب من قطري كتابيها جمرا