لما أردت الدخول إلى الديار المصرية كررت على طريقة الشريف . ثم دخل مصر والإسكندرية واشتغل عليه الطلبة . وعقد له مجلس المناظرة واستدل بالتعيين ثم خرج منها فاجتاز بحماة فأرغبه صاحبها وأحسن إليه وأعطاه مدرسة فأقام بها مدة . ثم إن المعظم عيسى بن العادل كتب إليه ووعده إن قدم إليه أن يحسن إليه وحبب إليه سكنى دمشق . وكان سيف الدين يحبها ويؤثر المقام بها . فخرج من حماة ليلاً ولم يعلم به صاحبها ودخل دمشق فأحسن إليه المعظم وولاه المدرسة العزيزية المجاورة لتربة الملك الناصر صلاح الدين . وأقبل على الاشغال والاشتغال والتصنيف . عقد له مجلس المناظرة ليلة الجمعة وليلة الثلاثاء بالحائط الشمالي من جامع دمشق وكان يحضره الأكابر من كل مذهب ورحل إليه الطلبة من جميع الآفاق من سائر الطوائف لطلب العلم . وكان خير الطباع سليم القلب حسن الاعتقاد قليل التعصب . رأيت عنده جماعة من أصحاب الإمام أحمد يشتغلون عليه وكذلك أصحاب الإمام أبي حنيفة ومالك Bهم . وهو في غاية الإكرام لهم والإحسان إليهم حتى قيل له : يا مولانا تراك تؤثر الحنابلة وتزيد في الإحسان إليهم ! .
فقال على سبيل المزاح : المرتد لا يحب كسر المسلمين يعني أنه كان قديماً حنبلياً .
حكى لي تلميذه القاضي أبو الروح عيسى ابن القاضي أبي العباس أحمد بن داود الرشتي المعروف بابن قاضي تل باشر قال : سمعت شيخنا الإمام سيف الدين يقول : رأيت في النوم كأن قائلاً يقول لي : هذا البيت للإمام الغزالي قال : فدخلت فوجدت تابوتاً فكشفته فوجدت الغزالي فيه وعليه كفنه وهو في القطن . قال : فكشفت عن وجهه وقبلته فلما انتبهت قلت في نفسي : يليق أن أحفظ كلام الغزالي فأخذت كتابه المستصفى في أصول الفقه فحفظته في مدة يسيرة . قال : وسمع الحديث ببغداد من الشيخ أبي الفتح عبيد الله بن عبد الله بن محمد بن نجا بن محمد بن شاتيل الدباس البغدادي وحدث عنه بدمشق C .
أنشدني الأديب الكاتب الشاعر فخر القضاة أبو الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن أبي البركات المصري المعروف بابن بصاقة لنفسه وكتب بها إلى الإمام سيف الدين الآمدي في حق صاحبنا عماد الدين أبي بكر محمد بن عثمان بن إسماعيل بن خليل السلماني الكاتب وقد عزم أن يقرأ على الشيخ سيف الدين شيئاً من تصانيفه يوصيه بها وينبهه على مكانته : من البسيط .
يا سيداً جمل الله الوجود به ... وأهله من جميع العجم والعرب .
العبد يذكر مولاه بما سبقت ... وعوده لعماد الدين عن كثب .
ومثل مولاي من جاءت مواهبه ... من غير وعد وجدواه بلا طلب .
فأصف من بحرك الفياض مورده ... وأغنه من كنوز العلم لا الذهب .
واجعل له نسباً يدلي إليك به ... فلحمة العلم تعلو لحمة لنسب .
ولا تكله إلى كتب تنبئه ... فالسيف أصدق أنباء من الكتب .
فوقعت هذه الأبيات من الإمام سيف الدين أحسن موقع وأقبل على العماد وأحسن إليه وقرأ بعد ذلك عليه . وأخبرني بعض أصحاب الإمام سيف الدين أن بعض الفضلاء المشهورين والمدرسين المذكورين ذهب عني اسمه حضر درس الإمام سيف الدين ولزم معه الأدب وجعل دأبه الاستماع والانتفاع دون الجدل وترك القيل والقال فقال له الإمام سيف الدين : يا فلان الدين لم لا تشرفنا وتشنف أسماعنا بفوائدك وفرائدك ؟ فكان جوابه أن أنشد : من الطويل .
وفي حينا نحن الموالي لأهله ... وفي حي ليلى نحن بعض عبيدها .
فدعا له سيف الدين أيضاً وبجله وأكرمه . وسألت شيخنا الإمام العلامة عز الدين بن عبد السلام عن درس الإمام سيف الدين فقال : ما سمعت أحداً يلقي الدرس أحسن منه كأنه يخطب وإذا غير لفظاً من الوسيط كان لفظه أمس بالمعنى من لفظ صاحبه أو كما قال فإني علقته من حفظي وكفاك به جلالة ونبلاً أن الإمام عز الدين من أصحابه ومن كبار طلابه ملازماً لدرسه راضياً طريقته مع خبرة علانيته وسريرته . ولقد سمعته يوماً يقول : ما عرفنا قواعد البحث إلا من الشيخ سيف الدين أو ما هذا معناه . وكان يعظمه ويجله ويبجله